أرشيف المقالات

دموع الخشية من الله عز وجل

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
دموع الخشية من الله عز وجل
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فمِنْ نِعَم الله عز وجل على عباده، والتي لا يتفطَّن لها كثير من الناس: خروج الدمع من العين، فالدموع إذا خرجت ارتاح الإنسان، قال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: إن الدمعة إذا خرجت استراح القلب، وهناك أسباب مُتعدِّدة لخروج الدموع:
منها: فقد عزيز على الإنسان: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القَيْن- وكان ظِئْرًا لإبراهيم عليه السلام- فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبَّلَه وشَمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان؛ [متفق عليه]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (تذرفان)؛ أي: يجري دمعُهما.
 
ومنها: التأثُّر بسبب ما فات الإنسان من أجور في الآخرة: قال الله عز وجل: ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 92]، قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: ﴿ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ﴾؛ أي: انصرفوا من مجلسك وهم في حال بكاء شديد، هاجه حزن عميق، فكانت أعينهم تمتلئ دمعًا، فيتدفَّق فائضًا من جوانبها تدفُّقًا، حتى كأنها ذابت فصارت دمعًا، فسالت همعًا، ﴿ حَزَنًا ﴾ منهم وأسفًا، ﴿ أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾؛ أي: على عدم وجدانهم عندك، ولا عندهم ما ينفقون، ولا ما يركبون في خروجهم معك جهادًا في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
 
ومنها: الـتأثُّر بسبب تذكُّر فقراء المسلمين: قال قتادة رحمه الله: ذكر لنا أن عمر رضي الله عنه، لما قدم الشام صُنِع له طعام لم يُرَ قَطُّ مثله، فقال: هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير؟!
 
فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر بالدموع، وقال: لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام، وذهبوا هم في حظِّهم بالجنة، فلقد باينونا بونًا بعيدًا.
 
ومنها: ضعف البصر الذي تسبب في عدم قراءة القرآن من المصحف: قال الشيخ الدكتور عمر المقبل، عن عبدالرحمن بن جميعان المطيري (ت 1425) رحمه الله: هذا الرجل أكثر من رأيت تلاوةً للقرآن الكريم، كان يختم كل ثلاث، ضعف بصره في آخر عمره، بسبب الماء في عينيه، حتى إنه لا يستطيع قراءة القرآن الكريم، وقال الأطباء: لا نستطيع إجراء عملية له؛ لكبر سِنِّه، وكان عندما يسأل عن حاله؟ يقول: أنا بخير ولله الحمد والمِنَّة؛ ولكني لا أرى المصحف- يقولها بنبرة حزينة- وكان يقول للشيخ عمر المقبل: والله يا أبا عبدالله، ما عندي بها الدنيا غير القرآن يوسع صدري، فإذا راح بصري (وش أبي) بها الدنيا؟ يقولها والدموع تتقاطر من عينيه.
 
ومنها: خشية الله جل وعلا: وتلك القطرة من الدموع مما يحبها الله عز وجل، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس شيء أحَبَّ إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تُهراقُ في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله))؛ [أخرجه الترمذي، وحسَّنه العلامة الألباني].

وتلك الدموع تنجي من النار، قال يزيد بن ميسرة: البكاء...من خشية الله ذلك الذي تُطفئ الدمعة منه أمثال الجبال من النار.

وصاحب تلك الدموع التي انسكبت من خشية الله بعيدًا عن أعْيُن الناس، من السبعة الذين يُظِلُّهم الله يوم القيامة في ظِلِّه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه...ورجل ذكَرَ اللهَ خاليًا ففاضَتْ عَيْناه))؛ [متفق عليه]، قال الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله: قوله: ((ففاضت عيناه)) فهو على سبيل المجاز...
بالحذف، ففاضت دموع عينيه.



إن من الأسباب التي تجلب دموع الخشية من الله ما يلي:
تعظيم الله والخوف منه ومحبته: قال الإمام المباركفوري رحمه الله: قوله: (قطرة دموع من خشية الله)؛ أي: من شدة خوفه وعظمته المورثة لمحبَّتِه.
 
وقال العلامة العثيمين رحمه الله: ((ورجل ذكر الله خاليًا ففاضَتْ عيناه)) لما ذكر الله عز وجل وعظمته وجلاله وخشيته فاضَتْ عَيْناه شوقًا وخوفًا دون أن يطلع عليه.
 
صلاة الليل قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: صلاة الرجل في جوف الليل هذه من أعظم أبواب الخير...فإن صلاة الرجل والمرأة في جوف الليل هذه يكون معها التدبُّر للقرآن وحُسْن مناجاة الله والدمعة التي تسيلُ من خشية الله عز وجل.
 
الاستماع إلى القرآن الكريم: فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرأ عليَّ القرآن))، فقلتُ: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: ((إني أشتهي أن أسمعه من غيري)) فقرأت النساء حتى إذا بلغت: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41] رفعت بصري، أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي، فرأيت دموعه تسيل؛ [متفق عليه].
 
تذكُّر الجنة والنار: قال أبو عاصم: رأيت هشام بن حسَّان، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والجنة والنار، فبكى حتى سالت دموعه.

 
ترك الذنوب: فمن أسباب جفاف الدموع قسوة القلوب، والقلوب تقسو؛ لكثرة الذنوب، قال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: ما جفَّت الدموع إلا لقساوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب، وما كثرت الذنوب إلا من كثرة العيوب، قلت [القائل الإمام الذهبي رحمه الله]: وما كثرت العيوب إلا من الاغترار بعلَّام الغيوب.
 
سماع المواعظ: قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: الصحابة رضي الله عنهم...كانوا إذا ذُكِّروا ووعظوا فقلوبهم كانت لينةً تستجيب، فتوجل القلوب من التذكير، وتذرف الدموع خشية لله عز وجل ومحبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
 
ومن رزقه الله دمعة غزيرة فليحرص بما قدر ألا يظهرها للناس، قال محمد بن واسع رحمه الله: أدركت أقوامًا يقوم أحدهم في الصفِّ فتسيل دموعُه على خدِّه، ولا يشعر به الذي إلى جانبه.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣