أرشيف المقالات

نشأة النطق بالكلام

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 وعلاقته بأصل اللغة وتطورها ولهجاتها للأستاذ إبراهيم إبراهيم يوسف مقدمة أتى على موطن العربية حين من الدهر، خفي علينا ميقاته، تضافرت أبانه عصبة من العوامل الاجتماعية القاهرة، فقست على أبناء العربية قسوة كان من بعض شانها أن أخرجت فريقاً منهم من ديارهم، يضربون في الارض، يقتبلون مواطن جديدة ويسيرون في كل صوب زرافات ووحداناً مهاجرين ساعين في طلب الرزق.
والرأي عندي أن تباعد هؤلاء وتنائيهم عن ديارهم، وتفرقهم وتشتتهم في أصقاع مختلفة، قد حفز الأكثرين نظراً في بواطن أمورهم إلى البحث في مآل الله التي يتفاهمون بها، فتبين لهم أن الدهر سوف ينال منها منالاً إذا ما تركوا أمرها للقدر، وأن لا عاصم لها من قسوته إذا ما تقاعسوا عن تحصين جزيئاتها وكلياتها، وأن لا مناص من أن تتستر معالمها، وتتنكر معارفها، وتتبلبل السن الناطقين بها يوم يخذلونها.
وأكبر ظني أن كانت العربية لذلك العهد قد تبلورت وصارت أكثر ما تكون قرابة للغة الأدب التي ورثنا إياها التاريخ.
فعزت على القوم أن تصاب لغتهم بذلك الذي توقعه أهل الرأي عندهم.
ومن ثم قام أجلتهم يحتاطون للأمر؛ وذهب نفر من علمائهم إلى وجوب وضع دساتير للغة تحميها شر عدوان الزمن، وتحفظها على طول الأمد، وما إن استقر الرأي على هذا، حتى بدءوا العمل به.
فكانت هذه فيما أرى، البداية المباركة في وضع علوم اللغة للسان العرب وإذاً، فقد نشأت هذه العلوم في كنف من الغموض، يحجبها عنا عصر خفي علينا زمانه، واختفى معه كل اثر لمحاولات الأئمة الأول، تلك المحاولات التي انتهت بهذه الدساتير المسوقة إلينا من نحو وصرف وإعراب وغيره وكان من الطبيعي أن يجر البحث في وضع دساتير اللغة إلى محاولة التفلسف فيها.
وهكذا كان شأن علماء العربية، إذ نجد أن بعض الباحثين من علماء العصر الأول الإسلامي لهم فيها مسائل، ومن بينها مسألة النطق بالكلام.
وهذه المسالة إذاً، ليست وليدة الأبحاث العلمي في علوم اللغة لعصر من العصور الحديثة، كما يزعم الزاعمون من رجال العلم في الغرب، بل هي - على حد ما وصل إليه تحقيقنا - مسألة ترتقي عند أبناء العربية إلى أول عهدهم بالقران الكريم، حين اقبلوا على تفسيره ودراسته دراسة لغوية توطئة لفقه دقائق ما جاء به.
بل ومن المحتمل غاية الاحتمال أن تكون هذه المسالة ابعد غوراً مما ذكرنا وذلك استناداً إلى ما وضح لنا من أن نشأة علوم اللغة قد سبقت العصر الإسلامي، وأن التفلسف فيها كان ملازما لنشأتها.
وقد يصبح هذا الاحتمال يقيناً لا مريه فيه.
حين تتجه الأبحاث العلمية إلى تحقيق تاريخ وضع دساتير اللغة، وتنتهي إلى ما تظمئن إليه في هذه الناحية وسواء أصحت هذه الدعوى الثانية أم لم تصح، فليس هذا الذي قام به أفاضل المسلمين الأول من تفلسف في الأبحاث اللغوية بالأمر اليسير الشأن، ولا هو بالمستكثر عليهم.
فالعرب، ويشاركهم في ذلك أبناء الصين، يفضلون في رأي جمهرة اللغويين الحديثين، بقية الشعوب بنزعتهم إلى التفقه في اللغة.
وهذه النزعة هي التي حملتهم على النهوض بالدراسات اللغوية نهوضاً مبكراً، تجلى أثره في وفرة ما صنفه العرب من كتب ورسائل في علوم اللغة، كما تبين خبره في كثير مما تفرق لهم من أبحاث في مختلف مسائلها جاءت ضمن عدد آخر من موسوع مؤلفاتهم.
وليس بغريب - وهذه حالهم - أن نجد في بعض مصنفاتهم الخاصة بعلوم اللغة، وكذلك تلك التي لها بعلوم اللغة صلة، نزعة فلسفية واضحة ويمكننا القول، استناداً إلى ما وسعته المكتبة العربية من مصنفات وصلت ألينا، أن الفخر الرازي كان أول من تقصى آراء المتقدمين، وذهب إلى نقد فريق ممن تفلسفوا في هذه المسائل.
وأن السيوطي كان أول من عنى من المتأخرين بإيضاح هذه الناحية، وعمل على بسط آراء من تقدموه بسطاً مجملاً.
وأن جولد تسهير كان أول من اهتدى من المستشرقين إلى هذا.
فلما أن وقف الغربيون على مجرى تفكير العرب هذا، أكبروا فيهم تفقههم المبكر في اللغة، ودهشوا لعناية العرب بهذا الضرب من التفكير الفلسفي، قبل أن يتقدم إليه أساتذتهم اليونانيون في الفلسفة ولعل الذي حدا بالعرب إلى هذا النوع من التفكير الفلسفي ما أثير من قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها).
فذهب جماعة من أهل السنة إلى أن لغة العرب توقيف ووحي.
واتفق آخرون من أهل النظر، وأكثرهم من المعتزلة، على أن اصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح، وجرهم هذا الخلاف في الرأي إلى النظر في أمر وضع اللغة وأوليتها ومنشئها.
وسلكوا في ذلك مذاهب؛ فالتزمت فئة منهم التحقيق العلمي لا تميل عنه في أبحاثها، واستسلمت فئة أخرى إلى ظنون تعوزها الأدلة، فراحت تستجدي من الدين المعونة.
وكان كلما اتسع الخلاف في الرأي على هذه المسائل، كان الاقتراب من الحقيقة أدنى.
وكان هذا اقرب للوقوع كلما أحيطت حرية الرأي بسياج من الضمان يكفل ازدهارها.
ثم صار ذلك الضمان دستوراً نافذ المفعول للدولة الإسلامية أبان سؤددها.
وبقيت حرية الفكر قائمة، مدعمة من الجميع، مكفولة للجميع، فأينعت علوم الدين وعلوم الدنيا.
وكانت علوم اللغة إذ ذاك مشاعة بين هذه وتلك.
فعلماء الدين يعتبرونها من نصيبهم، إذ هي دعامة تفهم الديانة.
وعلماء الدنيا يعدونها حقاً من حقوقهم، إذ هي مفتاح سائر العلوم.
وهكذا فازت اللغة بما لم تحظ به بقية العلوم، إذ ارتشفت عصارة فكر الفريقين جميعاً إلا أن هذا التهافت على خدمة اللغة اصبح لا وجود له، بعد أن فشا استبداد الرأي في الحكم والعلم، وضاق النطاق على حرية القول والفكر.
فكان ذلك إيذاناً بانتهاء العصر الذهبي للغة العربية.
وما كان ذلك ليقع إلا ويختفي بوقوعه أعمال رهط من جهابذة علماء اللغة.
فحيل بينها وبين الظهور أعماراً عديدة، أو هي اندثرت إلى غير بعث أو نشر.
ومن ثم ضاع الكثير من الدرر الغوالي التي ازدانت بها مصنفات اللغة في العصور الإسلامية المتقدمة، كما ضاع غيرها للعصر الجاهلي.
ولا عجب وقد تمثل لنا بعض ما أصاب لغتنا، أن يتفق الرأي، عند أهل التحقيق من أصحاب علم العربية، على أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل.
وما كان هذا الحال ليقعد علماء العربية عن واجبهم، أو ليدفعهم إلى شيء من التفريط في أمانتهم التي تشرفوا بحملها.
فظهر منهم في العصور المتأخرة عدد من المجتهدين أرادوا بعلوم اللغة خيراً، فعمدوا إلى ما ورثه لنا أسلافنا الأول يريدون تنميته وتعزيزه.
ولكنهم أبوا أن يسايروا الزمن فيما تطورت إليه العلوم، وما استنبط من طرائق ووسائل للقيام بأبحاث علمية، اهتدى إليها المفكرون في الأمم النابهة، فأصابهم ما أعجزهم عن متابعة السير، وبقيت علوم اللغة حيث كانت. والآن، وقد أصاب العربية الفصحى ما أصابها، وأدركها الركود، فباعد بينها وبين أن تفي بحاجات الحياة في العصر الحاضر، أو تفي بمطالب العلوم والفنون في تقدمها المطرد، فلا سبيل لإحيائها إلا بانتهاج نهج علمي غير الذي سار عليه المتأخرون من أبناء العربية إلى اليوم.
وهو إن يكن في مجموعه جديداً بالنسبة لنا، فقد سبقتنا إليه أمم الغرب وبعض أمم الشرق، فجدت طلائع علمائهم في دراسة لغاتهم، وعكف نفر منهم على دراسة لغتنا على أساس من العلم صحيح.
وكان أن وفقوا إلى استنباط علوم جديدة يستكملون بها علوم العربية؛ فافردوا لكل من اللهجات والأصوات والدلالات اللفظية والمفردات وتشكل الكلمات والأساليب علوماً قائمة برأسها، ثم ربطوا هذه العلوم بعضها ببعض.
والتزموا فوق هذا وذاك دراسة جميع اللغات الشرقية وغيرها مما له بالعربية صلة، وذلك توطئة لدراسة النحو المقارن للغات السامية، وتوصلاً إلى معرفة اصل الكلمات ونسبها.
وفي ذلك كله تيسير لمعرفة التطور التاريخي لمعاني الكلمات، وتذليل لمعرفة التطور العام للغة.
وما كان لهؤلاء الآجلة من العلماء ليتجشموا كل ذلك الذي وجب علينا أن نتجشمه، إلا ابتغاء الكشف عن أسرار العربية والتشبع بروح هذه اللغة الشريفة.
ولكن قد لا يتهيأ لنا ولهم الاستفادة من هذه العلوم، استفادة ترضي الوجه الصحيح من البحث العلمي، حتى يخرج لنا المحققون ثمين ما صنفه الأقدمون في علوم اللغة، وفي سائر العلوم التي لها بالعربية صلة، وذلك من عالم المخطوطات إلى عالم المطبوعات، على أن تكون طبعات علمية صحيحة ومن ذلك كله يتضح لنا إن هذا النهج رغم وفرته لا مفر من انتهاجه.
وإنه وإن يكن نهجاً وعر المسالك كثير الشعب، إلا أنه كفيل بأحياء العربية والمد في عمرها ابد الآبدين.
فإذا ما صحت عزيمتنا على السير فيه أدينا للعربية أجل خدمة ترتجي لها في وقفتها هذه.
ولاشك أن حب اللغة، ذلك الحب الذي يفضل به الإنسان الحيوان، سوف ييسر لنا هذه المهمة الشاقة فيدفعنا إلى تحقيقها دفعاً في عزيمة صادقة ثابتة، وبنفس راضية مطمئنة.
وحين يعمل علماؤنا على أداء هذه الرسالة يتبارون ضمناً في إشعال جذوة الثقافة بين أبناء العربية، ويساهمون فوراً في تفجر نهضة صحيحة.
وقد ثبت أن لا قيام لنهضة فكرية ما لم تبدأ بإنهاض اللغة وقد أدرك القدامى من أهل التحقيق ذلك، إذ قالوا: لا تعمر عراص الدين والعلم والأدب إلا بطول عمر اللغة.
نعم، ولكن لا يطول عمر اللغة حتى يحال بينها وبين اكتهالها فشيخوختها، ولا يقيها شر الشيخوخة إلا ضمان فتوتها، ولا بقاء لفتوة إلا مع التجديد، ولا يكون التجديد حتى يدرك تطورها، ولا تطور يرتجي حتى يتبين اصلها ونشاتها، ولا تعرف لها نشأة حتى نهتدي إلى نشأة النطق بالكلام.
وهذا ما أرجو أن أحاول بحثه في غير إطالة متوخياً عقده في فصول متتابعة. إبراهيم إبراهيم يوسف مساعد الأستاذ أ.
فيشر بمجمع فؤاد الأول للغة العربية

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن