حقوق الطفل بين الحقيقة والادعاء
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
بالأمس قيل : " كم من الجرائم ترتكب باسمك أيتها الحرية !!" وذلك تعليقاً على هذا الكم الكبير من سفك الدماء والدمار الذي أحدثه الثوار الفرنسيون في حربهم ضد الكنيسة والملكية التي مهدت لقيام الجمهورية الفرنسية الحديثة ، ورأى العالم مدى التناقض الصارخ بين شعارات الثوار ( الحرية المساواة الإخاء ) وبين ممارساتهم المشينة على أرض الواقع ، والموجهة ضد خصومهم .واليوم يمكن إطلاق العبارة نفسها على قضية حقوق الإنسان ، والقول باطمئنان: (كم من المصائب ترتكب باسمك أيتها الحقوق المنسوبة للإنسان !!) ؛ فوراء ذلك الشعار البراق يقوم الغرب بعملية غزو فكري منظم تم التخطيط له بعناية لضرب منجزات البشرية في المجال الأخلاقي والاجتماعي ، ولمحو الثقافات المخالفة للثقافة الغربية بدعوى العولمة والقرية الكونية الواحدة، ويتخذ هذا الغزو من حقوق المرأة وحقوق الطفل ستاراً لفرض منظومة القيم الغربية الغازية. وتتخذ المنظمات النسائية الغربية ذات التوجه العلماني من الأمم المتحدة غطاءً لها في سعيها لفرض منظومتها الإباحية على العالم.
عالم جدير بالأطفال :وفي إطار المحاولات لإصدار وثيقة دولية ملزمة في مجال الأطفال والمراهقين نقلت المنظمات النسائية الغربية الإباحية نشاطها إلى هذا الميدان لتستكمل دورها المشبوه المتمثل في فرض منظومتها الثقافية على دول العالم في كل المجالات ، وتحت عنوان: (عالم جدير بالأطفال) تم تضمين هذه المنظومة في عدد كبير من بنود مشروع الوثيقة المؤقت الخاص بالأطفال تمهيداً لإصدار الوثيقة النهائية في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاصة بقمة الطفولة [ التي كان مقررًاعقدها في سبتمبر الحالي ولكنها تأجلت بسبب التفجيرات التي حدثت في أمريكا ] .
وكما فعلت تلك المنظمات في الوثيقة الخاصة بالمرأة من إهمال للواجبات والتركيز على الحقوق تكرر الموقف نفسه تجاه حقوق الأطفال ؛ فهي تتوسع في تلك الحقوق وتهمل الواجبات المطلوبة من الأطفال والمراهقين تجاه الأسرة والمجتمع ، كما أنها أهملت تماماً الالتزامات المطلوبة من جانب الدول الغربية تجاه رفع الظلم الواقع على نساء العالم وكذلك الأطفال نتيجة الفقر والنزاعات المسلحة التي يقوم الغرب بدور بارز في تأجيجها وإثارتها تحقيقاً لمصالحه في مناطق العالم المختلفة خاصة إفريقيا.السموم الواردة بوثيقة الأطفال وللأسف تم نقل كل السموم الواردة بوثيقة المرأة إلى الوثيقة المؤقتة الخاصة بالأطفال : - فالبند (58ج) والبند (65) من تلك الوثيقة يدعوان لتمكين الطفل والبالغ ولكن ليس داخل سياق الأسرة الطبيعية وإنما من داخل سياقات أخرى مختلفة، وكأن المطلوب قطع صلة الطفل والبالغ من إطاره الأسري وعلاقته بوالديه .- وأعطت الوثيقة للأطفال القادمين من علاقات غير شرعية بين الرجال والنساء حقوق الأطفال الشرعيين نفسها، وكأنه تشجيع على الحمل السِّفاح.- وجسدت المادة (36) من الوثيقة المؤقتة فكرة المساواة المطلقة مقررة التماثل بين الأولاد والبنات متجاهلة الفروق البيولوجية والنفسية والفسيولوجية بينهما ، كما أنها تنحاز للبنات ضد الأولاد ، ويتضح ذلك من المادتين (16، 65) حيث تقول المادة (65): "إن إمكانية الحصول على التعليم الأساسي يعد حقاً من حقوق الإنسان..
ويساعد على وضع أقدام الأطفال لا سيما الفتيات على طريق التمكين" .- ومن بين ثنايا عشرات البنود لم يتم الإشارة إلى الدين بوصفه عاملاً فعالاً من عوامل تنمية الطفل إلا مرة واحدة في البند (62).- وقامت الوثيقة بإدخال المراهقين ضمن مرحلة الطفولة رغم الاختلاف الكبير بين سمات وخصائص كل من الأطفال والمراهقين، وربطت بين قضايا النساء والأطفال ، واستبعدت الرجال تماماً رغم أنهم جميعاً يعانون نفس الظروف خاصة عند الحديث عن تحدي (الصراعات المسلحة).- وأغفلت الوثيقة المآسي التي يعاني منها الأطفال في العالم الثالث من جراء الحصار الاقتصادي الذي تفرضه الأمم المتحدة على بعض الدول مثل العراق وليبيا وأفغانستان وغيرها، وهو الحصار الذي يتسبب في حصد أرواح المئات من الأطفال بسبب عدم توفر الغذاء والدواء ، كما لم تشر الوثيقة إلى الالتزامات الواجبة على الدول الصناعية الكبرى تجاه دول الجنوب الفقيرة لرفع مستوى معيشة فئات المجتمع ومن بينهم الأطفال.الالتزامات الغائبة : - وتحرم المادة (41) من الوثيقة المؤقتة كل مظاهر وأشكال العنف الموجه ضد الأطفال، وتطالب بوضع قوانين على صعيد المجتمع المحلي لتعزيز نظم الوقاية من العنف والحماية منه.
والمتأمل في هذه المادة يجد أنها يمكن أن تستخدم في منع الوالدين من حق تأديب أطفالهم باعتبار أن ذلك التأديب يدخل في باب العنف الموجه لهؤلاء الأطفال تمهيداً لإعطائهم حق طلب إنزال العقوبة بالوالدين أو توفير أسرة أخرى لهؤلاء الأطفال أسوة بما يجري حالياً في المجتمعات الغربية.- وحين تتحدث المادة (45) عن "ضرورة إيجاد حلول شاملة لمعالجة المشكلات التي تدفع الأطفال إلى العمل وإلى العيش في الشوارع، وتنفيذ برامج وسياسات مناسبة لحماية أطفال الشوارع وتأهيلهم ودمجهم في المجتمع مرة أخرى"، لم تلزم هذه المادة الدول الصناعية الكبرى بالتزامات مالية محددة لمساعدة 250 مليون طفل على مستوى العالم يعانون من العيش في الشوارع والعمل في سن الطفولة.فالدول الفقيرة التي تعاني من ظاهرة عمالة الأطفال وأطفال الشوارع لا تملك من الموارد ما يمكنها من تبني البرامج والسياسات التي تطالب بها تلك المادة من الوثيقة المقترحة مما يوجب على دول الشمال الغني القيام بمسؤوليتها تجاه دول الجنوب التي يتم استنزاف معظم ميزانياتها لسداد ديونها وفوائدها الباهظة المستحقة عليها لصالح دول الشمال.
- وحين تطالب المادة (46) بـ "تحسين السياسات والبرامج الموضوعة لحماية الأطفال اللاجئين والمشردين داخلياً ، ولرعايتهم ولتوفير الرخاء لهم " أهملت الحديث عن ضرورة الحفاظ على هوية هؤلاء الأطفال الثقافية والدينية، وما جرى من محاولات تنصير الأطفال اللاجئين في ألبانيا وكوسوفا والشيشان من جانب مؤسسات التنصير الغربية لم يعد خافياً على أحد، ولا تشير إليه الوثيقة باعتباره عدواناً على حق هؤلاء الأطفال في الحفاظ على عقيدتهم وهويتهم.
- وتشير المادة (50) إلى "ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لمنع انتقال فيروس نقص المناعة الإيدز من الأمهات إلى أطفالهن وفيما بين المراهقين"، وتتغافل عن الدعوة إلى الالتزام بقيم العفة ، وعدم ممارسة العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج الشرعي ؛ باعتبار ذلك الضمانة الأساسية لوقف الإصابة بالإيدز وانتشاره وانتقاله من الأمهات المصابات إلى أطفالهن ، خاصة وقد ثبت أن إجراءات الوقاية التي تعتمد على الأساليب الطبية وحدها عجزت عن وقف انتشار المرض .- والوثيقة حين تتحدث عن دور المراهقين في الدعوة إلى السلام العالمي لم توضح كيف يتم ذلك تجاه الدول التي تقوم باحتلال أراضي الغير بالقوة كما هو الحال بالنسبة لـ " إسرائيل " ؟! وكيف يكون هناك سلام بين الجاني والمجني عليه؟! وأغفلت الوثيقة تماماً الإشارة إلى أن النضال من أجل تحرير الأراضي المحتلة هو حق مشروع للشعوب كما ينص على ذلك القانون الدولي.- وتعتبر الوثيقة المقترحة الزواج المبكر نوعاً من أنواع العنف ضد الفتيات ، وضرورة منع هذا النوع من الزواج الذي يعتبره الإسلام أمراً مرغوباً فيه لتحصين الشباب ضد الانحراف.
وفي الوقت الذي تعلن فيه المنظمات الغربية العلمانية الحرب على الزواج المبكر فإنها تدعو إلى حق المراهقين في ممارسة الجنس وتعتبر ذلك حقاً أساسياً من حقوقهم ، وهي بذلك ترفض ممارسة الجنس في إطار الزواج الشرعي الذي يحفظ حقوق الفتاة ، وتبيح هذه الممارسة ذاتها خارج النطاق الشرعي !!وتسعى تلك المنظمات الراديكالية إلى أن تكون الوثيقة المزمع التوصل إليها خلال القمة العالمية للطفولة إلى جعل تلك الوثيقة ملزمة لدول العالم عند وضع السياسات والاستراتيجيات المستقبلية حول الطفولة ، وبذلك تحقق هدفها البعيد في جعل أفكارها بمثابة المرجعية القانونية لكل الدول ، وهي مرجعية يراد لها أن تكون أعلى وأرسخ من الدساتير الوطنية.
ثم ماذا بعد ذلك؟ والسؤال الذي يفرض نفسه أمام هذا الاجتياح المنظم لثقافات وخصوصيات شعوب العالم تحت ستار دعم وإقرار حقوق الإنسان هو: ماذا بعد ؟ وما هو دور البلاد الإسلامية حكومات وشعوباً في وقف هذا الغزو والاجتياح ؟والإجابة تتطلب تحركاً فاعلاً من جانب الحكومات والمنظمات الأهلية غير الحكومية داخل بلدان العالم الإسلامي من أجل التواجد المثمر داخل تلك المؤتمرات الدولية التي تتم تحت مظلة الأمم المتحدة حتى لا يتم السماح بتحويل القيم الإباحية إلى بنود ثابتة في مواثيق المنظمة الدولية .
وفي المرحلة المقبلة تقع مسؤوليات إضافية على المؤسسات والمنظمات الإسلامية وفي مقدمتها منظمة المؤتمر الإسلامي ، والمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة ، ورابطة العالم الإسلامي ، واللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل التابعة للمجلس الإسلامي العالمي.
وفي مقدمة هذه المسؤوليات إعداد شخصيات مؤهلة شرعياً وعلمياً للمشاركة في هذه المؤتمرات لإجهاض كل محاولات تمرير البنود التي تدعو للإباحية وتتصادم مع الإسلام ، وحسناً فعلت اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل التي شاركت بفاعلية في مؤتمرات الأمم المتحدة الخاصة بالمرأة ، واستطاعت بالتنسيق مع الوفود النسائية للدول الإسلامية والمنظمات النسائية المسيحية المحافظة إبطال عدد من البنود الإباحية التي تضمنتها الوثيقة العالمية حول المرأة ، ومن المأمول أن يستمر الدور الإسلامي من خلال اللجنة والمنظمات الإسلامية المماثلة في إسقاط مخططات المنظمات الغربية الإباحية خلال مؤتمر القمة العالمية للطفولة القادم.وتتطلب المواجهة مع تيار الغزو الثقافي الغربي تفعيل دور القنوات الفضائية المملوكة للعرب والمسلمين في توعية المشاهدين بأخطار منظومة القيم الغربية على مسيرة الإنسان المعاصر عامة وعلى المسلم خاصة، وكشف الدور المشبوه للمنظمات النسوية الغربية التي تتستر خلف حقوق المرأة والطفل لفرض قيمها المنحرفة على شعوب العالم.