أرشيف المقالات

الدليل الشرعي ومحاذير التعامل معه

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
الدليل الشرعي ومحاذير التعامل معه


كنَّا نتعلَّم منذ نعومة أظفارنا في الطريق إلى الله أن نحبَّ الله تعالى، ونَعلم به قبلَ أن نتعلَّم أحكامه، فمَعرفتك بالخالِق تيسِّر لك اتِّباع أوامره واجتناب نواهيه، وتَعلَّمْنا فيما تعلمْنا أنَّ الأحكام الشرعية لا تثبت إلاَّ بـ: قال الله قال رسوله، فهذا هو العِلم، وعرفنا أنَّه لولا الدليل لقال مَن شاء ما شاء، وكم كان الناس قبل ذلك يتوارثون الدِّين دون فَهم، إنما اتِّباع وتقليد، وحين تعلَّمْنا مسائل الفقه كان مشايخنا يحرِصون على تحفيظنا الدليلَ على الحُكم مع الحُكم نفسه، حتى ولو لم نفهم وجهَ الاستدلال، وكانوا ينهروننا لو فَكَّرنا في تأصيل فعلٍ أو قولٍ أو الاستدلال عليه بما نحفَظ مِن القرآن والسُّنة يقولون لنا: ومَن أنتم وكيف تتعاملون مع الدَّليل مِن غير عِلم، وتعاقبتِ السنوات وصار الوعي الإسلامي منتشرًا بصورة تُفرِح قلوب المؤمنين، وتولَّت القنوات الفضائية تبيينَ الدِّين لكلِّ الناس لكنَّها رغم ما نقلتْه للناس من وعي جعلتْ تعامل الشباب مع الدليل مشوبًا - ربَّما - بجرأة أقلقتْني، فأحببتُ أن أقدِّم بين يدي إخواني هذه الكلمات، آملاً أن تصيبَ الحق وتلامس قلوبَ الشباب التلامُسَ الذي أرْجو.
 
فقد حكَتِ السُّنة عن أمِّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنَّها سألتِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن قولِ الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158]، فقالت: لا جناحَ عليه إذًا ألاَّ يطوف بهما، لما فهمتْه مِن نص الآية، فرفْع الجناح في الأصل يرفَع الإثم ويُبقي على الجواز، وهو ما قالتْ به عائشة من فَهْمها للدليل، فبيَّن لها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ السعي واجبٌ، وأنَّ الآية في تطمين المسلمين بجوازِ ذلك رغمَ ما شرعتْه العربُ في الجاهلية مِن السعي بيْن صنمين لإساف ونائلة، فتحرَّجوا مِن فعل ذلك في الإسلام فبيَّنتِ الآية الكريمة رفْع الإثم في السعي، وكان تاريخ العرب مدخلاً لفَهم الحُكم وأسباب نزول النصّ.
 
ومثلها ما عرَفْناه عن أحدِ أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في احتفاظه بخَيطٍ أبيض وخيطٍ أسود؛ ليتبيَّن دخول الفجر، فقيل له: إنَّ المقصود هو ما يظهر في السماء عندَ الفجر، فدلالة النصِّ ها هنا لا تفي وحْدَها لبيان الحُكم حتى يُضاف إليها غيرها مِن العلوم الشرعيَّة بالكتاب والسنَّة وأدوات العالِم مِن نحوٍ وأسباب نُزول ونسْخ وغيرها، فقد يحتاج النصُّ لفَهم اللغة العربيَّة باختلاف لهجاتها ودَلالات النحو والبلاغة، أو يعرف سبَب النزول للآية، وما إذا كانتْ مُحكَمة أم نُسِخَتْ بنص آخَر، وما جاء الحديثُ الشريف لتبيانِه، ومِن هنا يجب أن نستبينَ دَلالة النص الشرعي بصورةٍ واضحة.
 
فدلالة اللفظ على المعنى قسمان:
1- منطوق النصِّ الشرعي وكلماته، مِثل: وكُلوا واشربوا، ومثل: أقِم الصلاة..
إلخ.
 
2- مفهوم هذا النصِّ ودَلالته المسكوت عنها، سواء كان بالموافقة أو المخالفة، مثل قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تَنتقب المحرِمة ولا تلبس القفَّازين))، حمل بمنطوقه تحريمَ أو كراهةَ لُبس المرأة المحرِمة للنِّقاب والقفَّاز، وحمل بمفهومه دليلاً على مشروعية النِّقاب لغير المحرِمة بمفهوم المخالَفة.
 
أولاً: اللغة العربيَّة ودورها:
قال أهل العلم: إنَّ المعاني المرادة في النص بيْن تفسير اللفظ والمراد مِن اللفظ، فمثلاً قوله - تعالى -: ﴿ وَالضُّحَى ﴾ [الضحى: 1]: الضحى هي ساعةٌ مِن ساعات النهار، والمراد هنا: قسَمٌ أراد الله - عزَّ وجلَّ - به تعظيمَ هذا المخلوق الذي خلَقه، وهو وقت الضحى، ولفت الأنظار إليه؛ إذ إنَّه من الأوقات...
إلخ، وهذا يسمُّونه: بيان المراد، فتفسير اللفظ شيءٌ وبيان المراد شيءٌ آخَر، والاستدلال على أنَّ الواو هنا واو القسَم مِن خصوصيات اللُّغة العربيَّة وآدابها، وفي الإعراب تفصيلاتٌ كثيرة يفترِق بها المعنى مِثل: ﴿ وأرجلَكم ﴾ [المائدة: 6] في آية الوضوء حيث يفرق الجر والنصب في الحُكم، وليس كل ما يصحُّ إعرابًا يصحُّ اعتمادُه تفسيرًا، وكثيرًا ما يَحذِف النص القرآني كلمةً يوجبها الفَهم الصحيح للآيات، كقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، وحُذفت كلمة‏ فأفطر؛ أي: ‏ فمَن كان منكم مريضًا أو على سفَر فأفْطر فعدَّة مِن أيام أُخر، ومنه قوله تعالى‏:‏ ﴿ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ﴾ [آل عمران: 119]؛ أي:‏ وهم لا يؤمنون به كلِّه فحُذفت، ‏وقد اشترطوا في الأصولِ للعالِم أن يفهم لُغةَ العرَب بكلِّ فنونها.
 
ثانيًا: الأصول بأحكامها في العامِّ والخاصِّ، والمطلَق والمقيَّد:
فقدْ جاء النصُّ الشرعيُّ بصُور متعدِّدة تارةً عامَّة وتارةً خاصَّة، وتارة مطلقة وتارةً مقيَّدة، وكل هذا يرتِّب تفاصيلَ تخفَى على الكثيرين، ومِن ذلك ما ذكرتُه في المحرِمة، فهذا خاصٌّ مِن وصف أعمُّ هو النساء المؤمنات اللاتي قال الله فيهنَّ: ﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ﴾ [النور: 31]، والمطلَق ما خلا مِن وصف مقيَّد، والمقيد ما قُرِن بقيْد مثل ﴿ رقبة مؤمِنة ﴾.
 
ثالثًا: الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول:
ففي القرآن الكريم آياتٌ عديدة بقِي خطُّها ونُسِخ حُكمها، مثل قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ [البقرة: 240]، نُسِخت بقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234]، وهناك آياتٌ بقِي حُكمها ونُسخ خطُّها، مثل آية رجْم الزاني والزانية المحصَنَيْن، وكان نصُّها: "والشيخ والشيخة إذا زنَيا فارجموهما البتة"، ووردت في سورة الأحزاب، وهناك آياتٌ نُسِخت خطًّا وحُكمًا.
 
كما جاء النَّسخ في سُنَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيضًا فقد حفظتْ لنا السنةُ أمثلةً عديدةً على أحكام وردتْ ثم نُسخت مثل زيارة القبور مِن التحريم للحِلِّ، ومن أمثلة النَّسخ مِن الحِل للتحريم قولُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا أيها الناس، إنِّي قد كنتُ أذنتُ لكم في الاستمتاع مِن النساء، وإنَّ الله قد حرَّم ذلك إلى يومِ القيامة، فمَن كان عنده منهنَّ شيء فليخل سبيلَه، ولا تأخذوا ممَّا آتيتموهنَّ شيئًا))؛ رواه مسلم وغيره.
 
والشاهد: أنَّ مجرَّدَ الاطلاع على النصِّ والفَهم الظاهِر لألفاظه ليس بكافٍ لأن يستخرجَ المرء منه الحُكم الشرعي، وليس من حقِّ العامة أصلاً استنباط الحُكم مِن دليل ورَد في كتاب الله أو السُّنة، وكم مِن ضالٍّ سار وراءَ فَهمه لنصٍّ، أو قراءته لكتاب دون أن يَفهم أقوالَ العلماء في شرْحه وتبيان ما ورَد معه من أدلَّة! بل قد يأتي الدليلُ الشرعي مستوفيًا أسبابَ الصحَّة، ويُعارضه نصٌّ آخَر في الظاهر، وقدْ وضَع العلماء قواعدَ وأصولاً في هذا الباب، ولا أزال أتذكَّر هذا التشبيهَ حين وصف مَن يتعامل وحده مع الدليل بمَن يحاول أن يُفكِّك عبوةً ناسفة قد ينجح في فكِّها فيفوز، وقد يفشل فيهلِك، وربَّما أهلك مَن معه!

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣