أرشيف المقالات

لماذا لا نتوب؟

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
الموعظة الثالثة والعشرون:
لماذا لا نتوب؟
 
الحمد لله الذي تفرَّد بجلال ملكوته، وتوحَّد بجمال جبروته، وتعزَّز بعلو أحديته، وتقدَّس بسمو صمديته، وتكبَّر في ذاته عن مضارعة كل نظير، وتنزَّه في صفائه عن كل تناهٍ وقصور، له الصفات المختصة بحقه، والآيات الناطقة بأنه غير مشبه بخلقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة موقن بتوحيده، مستجير بحسن تأييده.

يا واحد في ملكه أنت الأحد
ولقد علمت بأنك الفرد الصمدُ

لا أنت مولودٌ ولست بوالدٍ
كلَّا ولا لك في الورى كفوًا أحدُ

 
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه.
 
أخي المسلم، فإن سألت عن الموانع التي تحول بين العبد وبين الرجوع إلى الله تعالى، وتجعله سادرًا في غيه راضيًا بغفلته، منتهكًا للمحرمات مضيعًا للواجبات.
 
اعلم علَّمني الله وإياك أن موانع التوبة كثيرة متنوعة، يجب على العبد أن يتعرف عليها؛ حتى لا يقع فيها:

عرَفتَ الشر لا للشرِّ ولكن لتوقِّيه
ومَن لا يعرِف الخيرَ من الشر يقعْ فيه


✍أولا: الاغترار بستر الله وتوالي نعمه:
فإن العبد ربما يذنب الذنب، ثم لا يؤاخذ به في الحال، فيغترَّ بستر الله تعالى له، ويتمادى في ارتكاب الذنوب والمعاصي، وما عَلِمَ أن ذلك قد يكون استدراجًا له من الله تعالى، حتى إذا أخذه لم يُفلته، عن عقبة بن عامر قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحبُّ وهو مُقيم على معاصيه، فاعلم إنما ذلك منه استدراج"[1].
 
وقال تعالى: ﴿ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [القلم: 44، 45].
 

✍ثانيًا: التسويف:
التسويف: وهو داء عضال ومرض قتال؛ إذ إن (سوْف) جند من جنود إبليس، وقد قيل: إن عامة دعاء أهل النار: يا أُف للتسويف، وكم من الناس مَن سوَّف وسوَّف، فانقضى أجله ولم يدرك شيئًا من أمانيه الدنيوية، ولم يحصِّل شيئًا لحياته الأخروية.
 

✍طول الأمل:
ومن أسباب ومانع التوبة طول الأمل وهو أن يؤمل العبد طول البقاء ويتمادى في المعصية والإباء فإذا قيل له: تُب إلى الله، يقول: العمر طويل، ودعنا نتمتع بالحياة، ثم في الأيام الأخيرة من العمر سوف أتوب!

مالي أراك على الذنوب مواظبَا
أأخذتَ من سوء الحساب أمانَا

وقال آخر:

أؤمِّل أن أحيا وفي كل ساعة
تَمرُّ بي الموتى تهزُّ نعوشَها

وهل أنا إلا مثلُهم غير أن لي
بقايا ليالٍ في الزمان أعيشُها

 
قال بعض السلف: من طال أملُه، ساء عمله، وذلك أن طول الأمل يحمل الإنسان على الحرص على الدنيا، والتشمير لها لعمارتها وطلبها حتى يقطع وقته - ليله ونهاره - في التفكير في جمعها وإصلاحها، والسعي لها مرة بقلبه، ومرة بالعمل، فيصير قلبُه وجسمه مستغرقين في طلبها، وحينئذ ينسى نفسه والسعي لها بما يعود عليها بالصلاح، وكان ينبغي له المبادرة والاجتهاد، والتشمير في طلب الآخرة التي هي دار الإقامة والبقاء، وأما الدنيا فهي دار الزوال والانتقال.

أتبني بناءَ الخالدين وإنما
مقامُك فيها لو عرَفت قليلُ

لقد كان في ظل الأراك كفايةٌ
لمن كان يومًا يقتفيه رحيلُ

 

✍ثالثًا: البيئة السيئة:
اعلم علَّمني الله وإياك أن من موانع التوبة البيئة السيئة التي تألف المعاصي والمنكرات، ولا تستحيي من رب الأرض والسماوات، فتدفع العبد إلى الانخراط فيها واللامبالاة بالمعصية، فتصبح المعصية أمرًا عاديًّا لا ينكرها منكر كحال بني إسرائيل؛ يقول الله تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُون ﴾ [المائدة: 78 - 80].
 
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن نَبِي الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ فِيمَن كَانَ قبلكُمْ رجلٌ قتل تِسْعَة وَتِسْعين نفسًا، فَسَأَلَ عَن أعلم أهل الأَرْض، فَدلَّ على رَاهِب، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّه قتل تِسْعَة وَتِسْعين نفسًا، فَهَل لَهُ من تَوْبَة؟ فَقَالَ: لَا، فَقتله، ‌فكمَّل ‌بِهِ ‌مائة، ‌ثمَّ سَأَلَ عَن أعلم أهل الأَرْض، فَدلَّ على عالمٍ، فَقَالَ: إِنَّه قتل مائَة نفسٍ، فَهَل لَهُ من تَوْبَة؟ فَقَالَ: نعم، وَمن يحول بَينه وَبَين التَّوْبَة؟ انْطلق إِلَى أَرض كَذَا وَكَذَا، فَإِن بهَا أُنَاسًا يعْبدُونَ الله، فاعبد الله مَعَهم، وَلَا ترجع إِلَى أَرْضك، فَإِنَّهَا أَرض سوء، فَانْطَلق حَتَّى إِذا نصف الطَّرِيق أَتَاهُ الْمَوْت، فاختصمت فِيهِ مَلَائِكَة الرَّحْمَة وملائكة الْعَذَاب، فَقَالَت مَلَائِكَة الرَّحْمَة: جَاءَ تَائِبًا مُقبلًا بِقَلْبِه إِلَى الله، وَقَالَت مَلَائِكَة الْعَذَاب: إِنَّه لم يعْمل خيرًا قطُّ، فَأَتَاهُم ملكٌ فِي صُورَة آدَمِيٍّ، فجعلوه بَينهم، فَقَالَ: قيسوا مَا بَين الْأَرْضين، فَإلَى أَيَّتهمَا كَانَ أدنى فَهُوَ لَهُ، فقاسوا، فوجدوه أدنى إِلَى الأَرْض الَّتِي أَرَادَ، فقبضته مَلَائِكَة الرَّحْمَة"[2].
 
قَالَ الْعُلَمَاء: فِي هَذَا اِسْتِحْبَاب مُفَارَقَة التَّائِب الْمَوَاضِع الَّتِي أَصَابَ بِهَا الذُّنُوب، وَالْأَخْدَان الْمُسَاعِدِينَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَمُقَاطَعَتهمْ مَا دَامُوا عَلَى حَالهمْ، وَأَنْ يَسْتَبْدِل بِهِمْ صُحْبَة أَهْل الْخَيْر وَالصَّلَاح وَالْعُلَمَاء وَالْمُتَعَبِّدِينَ الْوَرِعِينَ وَمَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ، وَيَنْتَفِع بِصُحْبَتِهِمْ، وَتَتَأَكَّد بِذَلِكَ تَوْبَته)[3].

[1] أخرجه الإمام أحمد (16860) في مسند الشاميين، وقال الشيخ الألباني رحمه الله إسناده جيد؛ انظر حديث رقم : 561 في صحيح الجامع.

[2] أخرجه أحمد ح 10727، وصحيح مسلم - (ج 13 / ص 338).

[3] شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 143).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢