كلمات في القدوة الحسنة
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
كلمات في القدوة الحسنة دعوة إلى الوعظ العملي (1)
الأعم الأغلب في الوعظ، والشائع المعروف فيه، أنه ترغيب في الخير، وترهيب من الشر، وحث على الفضيلة، وتنفير من الرذيلة، وتذكير بالله والدار الآخرة؛ ليتعلم جاهل، ويتنبه غافل، ويهتدي ضالّ، وتخشع قلوب بعد قسوتها، وتستنير نفوس بعد ظلمتها، وترتفع أرواح بعد سفالتها، وهو مِن صفات المؤمنين، وسمات المفلحين، وأمارات الفائزين.
وأنواع هذا الوعظ كثيرة معروفة، فمنها الخُطَب المنبرية، والنصائح الدينية، والدروس في المساجد، والمحاضرات في الإذاعة، إلى غير ذلك مما يطول بنا شرحه وتفصيله، غير أن هذا الوعظ القولي لا يُحقق غرضه، ولا يؤتي أكله، إلا إذا اقترن بقدوة حسنة، وسيرة زاكية، وعمل خالص، وهذا بعض ما أدعوه بالوعظ العملي، وإن شئتَ فسَمِّه: الوعظ الصامت، بل هي ولا ريب أهم أركان هذا الوعظ.
وإذا كان الواعظ أشد الناس ائتمارًا بما أمر، وأبلغ الناس انتهاء عما نهى، فما أجل الأثر! وما أينع الثمر! قيل لعبدالواحد صاحب الحسن البصري: بأي شيء بلغ فيكم الحسن ما بلغ وكان فيكم علماء وفقهاء؟ فقال: إن شئت عرَّفتك بواحدةٍ أو باثنتين؟ فقلتُ: عرفني بالاثنتين، فقال: كان إذا أمر بشيءٍ أعمل الناسِ له، وإذا نهى عن شيء أتركَ الناسِ له، قلت: فما الواحدة؟ قال: لم أر أحدًا قط سريرته أشبه بعلانيته من الحسن!
والناسُ جميعًا حتى الفُسَّاق منهم يجدون من تأثير الواعظ العامل في نفوسهم ومن حلاوة قوله، وإن لم يكن بليغًا - ما لا يجدون من غير العامل، مهما كان فصيحًا بليغًا؛ ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، ويدخل في باب القدوة الحسنة الجهرُ بالعمل الصالح للترغيب فيه، والحث عليه، إن سكن صاحبُه إلى الإخلاص، وأمن شائبة الرياء، وله بهذا أجران؛ أجر العمل، وثواب القدوة.
روى مسلم عن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن دلَّ على خيرٍ، فله مثل أجر عامله))، وروى مسلم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك مِن أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)).
ولا يعارض هذا قولَه تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾[البقرة: 271]؛ حيث دلَّ ذلك على فضل إخفاء الصدقة، كما دل على فضل إخفائها حديثُ السبعة الذين يُظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله؛ لأن الآية الكريمة والحديث الصحيح في شأن المتصدق الذي لا يقصد أن يقتدى به، وأغلبُ الناس كذلك، أما الذي يبدأ بالخير ويُظهره حثًّا عليه، وترغيبًا فيه؛ حيث لا إيذاء ولا رياء - وهؤلاء قليل - فلا ريب أن جهره أفضل مِن سره، كما يشهد بذلك الحديثان السابقان، وكما يدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2]، وأي تعاونٍ بعد المسابقة إلى الخير والدلالة عليه؟!
ولا يعزب عن البال أنَّ موضوعَ التفاضل اثنان استويا في الإخلاص؛ فزاد أحدُهما الترغيب بالقدوة الصالحة، وإلا فإنَّ الرِّياء محبط للأعمال، والأعمالُ بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
ومما يدل على فضل القدوة، وعظيم أثرها، وأنها أفضل في النفوس من السيوف - أن الصحابة رضوان الله عليهم تباطؤوا في الحَلْق لَمَّا أمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم عقب صلح الحديبية تحللًا من العمرة التي لم يُمَكِّنهم المشركون منها، حتى دخل صلوات الله عليه على أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها - ومكانُها من العقل والفضل مشهور - فقال: ((هلك المسلمون؛ أمرتهم فلم يمتثلوا))! فقالتْ: يا رسول الله، اعذرهم، فقد حملتَ نفسك في الصلح أمرًا عظيمًا، ورجع المسلمون من غير فتح، فهم لذلك مكروبون، ولكن اخرجْ يا رسول الله، وابدأهم بما تريد، فإذا رأوك اتبعوك؛ فتقدم صلى الله عليه وسلم إلى هديه فنحره، ودعا بالحلاق فحلق رأسه، فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا!
ولا تقرأ هذه القصة دون أن تتأمل طويلًا في مشاورته صلى الله عليه وسلم وأخذه برأي أم سلمة؛ ففي ذلك من الرحمة والعطف والعقل والفضل ما لا يقف عند حدٍّ، ثم انظر إلى مبلغ تأثير حمله اللبن[1]صلى الله عليه وسلم في بناء مسجده الشريف، ونقله التراب على ظهره في غزوة الخندق، وهو يتمثل في الحمالين بقول عبدالله بن أبي رواحة رضي الله عنه[2]، انظرْ إلى مبلغ هذا التأثير في نفوس أصحابه رضي الله عنهم، ومقدار ما يثمر مِن الهمة والإقدام والتضحية والإخلاص.
هذا وسنبين لك نوعًا آخر مِن الوعظ العملي في مقال تالٍ إن شاء الله.
مجلة الإسلام: السنة العاشرة، العدد 34، 27 شعبان سنة 1360هـ، 19 سبتمبر 1940م
[1] الطوب النيئ.
[2] انظر تفصيل ذلك كله في السيرة النبوية.