أحاديث إسبال الثوب
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
ينطلق الفقهاء في فهمهم للنصوص من قواعد أصولية ثابتة، قد يتفقون في النتائج وقد يختلفون، لكن الأهم من ذلك أن الجميع ينطلق في دراسة النص من خلال قواعد وأسس حاكمة للفهم، فدلالات الألفاظ التي من جملتها على سبيل المثال: النص الجمعي، وذلك بأن تجمع نصوص الباب الواحد، ثم يرد بعضها على بعض تفسيرا، وبيانا، فقد تأتي نصوص في الباب توسع دلالة النص المراد فهمه، وربما ضيقت تلك النصوصُ دائرةَ دلالته تخصيصا، أو تقييدا، بل قد يتعدى الأمر إلى النسخ والإلغاء، وهذا مسلك الأئمة من الفقهاء والأصوليين في فهم النصوص مجموعة والنظر في النصوص الواردة في المسألة كدليل واحد، من غير اجتزاء موجب لخلل الفهم والاستدلال.
وعلى سبيل المثال: أحاديث الإسبال الواردة في الباب، جاء بعضها بذكر العقوبة على فعل الإسبال مطلقا، وجاء بعضها بإضافة قيد الخيلاء على مطلق الإسبال، فبنى بعض الفقهاء فهمه لهذه الأحاديث على أساس دلالة المطلق والمقيد، وهي قاعدة أصولية مشهورة في مباحث دلالات الألفاظ، وخرجه الآخرون على الإضافة غير المقيِّدة، وهو الوصف الذي خرج مخرج الغالب.
روى مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله إلى من جرَّ ثوبه خيلاء».
في فقه هذا الحديث ذهب جمهور فقهاء المذاهب الأربعة إلى تقييد الأحاديث الناهية عن الإسبال مطلقا، بالأحاديث التي تقيد النهي بوصف الخيلاء الوارد في الحديث.
ففي مسائل أحمد وابن راهويه سأل الكوسج الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه عن ذلك فقال: «قلتُ: جَرُّ الإزار وإسبال الثوب في الصلاة؟ قال: "إذا لَمْ يُرِدْ به الخيلاء، فلا بأس به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن جَرَّ ثوبه مِن الخيلاء» . قال إسحاق: كما قال».
اهـ قال النووي في شرح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: «المُسْبِل إزارَه» فمعناه: المُرخي له، الجارُّ طرَفَه خيلاءً، كما جاء مفسرا في الحديث الآخر: «لا ينظر الله إلى من يجُرُّ ثوبه خيلاء»، والخيلاء الكبر، وهذا التقييد بالجر خيلاء يخصص عموم حديث: «المسبل إزاره» ويدل على أن المراد بالوعيد من جَرُّه خيلاء، وقد رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وقال «لستَ منهم» إذ كان جره لغير الخيلاء...
وقال في موضع آخر: لا يجوز إسباله تحت الكعبين إن كان للخيلاء، فإن كان لغيرها فهو مكروه، وظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء تدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء، وهكذا نص الشافعي على الفرق كما ذكرنا.
أ.هـ قال الباجي في المنتقى: وقوله صلى الله عليه وسلم الذي يجر ثوبه خيلاء يقتضي تعليق هذا الحكم بمن جره خيلاء، أما من جره لطول ثوب لا يجد غيره، أو عذر من الأعذار، فإنه لا يتناوله الوعيد. وقال ابن قدامة: ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر برفع الإزار، فإن فعل ذلك على وجه الخيلاء حرُم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في شرح العمدة: وهذه نصوص صريحة في تحريم الإسبال على وجه المخيلة، والمطلق منها محمول على المقيد، وإنما أطلق ذلك؛ لأن الغالب أن ذلك إنما يكون مخيلة.
ثم قال: ولأن الأحاديث أكثرها مقيدة بالخيلاء فيحمل المطلق عليه، وما سوى ذلك فهو باقٍ على الإباحة، وأحاديث النهي مبنية على الغالب والمظنة.
ثم قال: وبكل حال فالسنة تقصير الثياب، وحدُّ ذلك ما بين نصف الساق إلى الكعب، فما كان فوق الكعب فلا بأس به، وما تحت الكعب في النار.
أ.هـ. ومع قول الفقهاء بأن العقوبة الواردة في الحديث مقيدة بالخيلاء إلا أنهم يكرهون جر الإزار عموما ولو لم يكن للخيلاء، قال ابن عبد البر: مفهومه أن الجر لغير الخيلاء لا يلحق الوعيد، إلا أن جر القميص وغيره من الثياب مذموم على كل حال. وقال النووي في روضة الطالبين: ويحرم إطالة الثوب عن الكعبين للخيلاء ويكره لغير الخيلاء ولا فرق في ذلك بين حال الصلاة وغيرها والسراويل والإزار في حكم الثوب.
أ.هـ. وأما القول بالتحريم مطلقا، فهو قول بعض المعاصرين كابن باز وابن عثيمين، وغيرهما ممن رأوا تحريم الإسبال مطلقا، ولو من غير قصد الكبر والخيلاء، وقد قال بهذا القول ابن حزم، والمقبلي، وانتصر للقول بالتحريم مطلقا الإمام الصنعاني برسالة نحو خمسين صفحة سماها "استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال"، أورد فيها الأحاديث، وشرحها، وفصل بين الإسبال في الصلاة وخارج الصلاة.