أرشيف المقالات

الوجيز في حكم الأخذ من الشعر وتقليم الأظافر لمن أراد أن يضحي

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
الوجيز في حكم الأخذ من الشعر
وتقليم الأظافر لمن أراد أن يضحي


مدار هذه المسألة على الحديثين التاليين:
الحديث الأول الدال على منع الأخذ من الشعر والأظافر:
لم يُروَ في هذا الباب إلا حديثُ أم سلمة رضي الله عنها، ولم يروه عنها إلا سعيد بن المسيب التابعي الجليل، وعنه أخذ الناس، ونصُّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره»؛ رواه مسلم في كتاب الأضاحي، برقم (1977).
 
اختلف المحدثين في الحديث على قولين:
القول الأول وجود عله في الحديث:
وهو من تفرُّد أم سلمة كما ذكر المحدِّثون، وكذلك من أحاديث الآحاد التي لا تعارض المتواترَ، وقد نقل عن الدارقطني أنه حكمٌ على حديث أم سلمة بالوقف وألْمَح الطحاوي إلى التضعيف بقوله: مجيء حديث عائشة رضي الله عنها أحسن من مَجيء حديث أم سلمة رضي الله عنها؛ لأنه جاء مجيئًا متواترًا، وحديث أم سلمة رضي الله عنها لم يَجئ(؛ ينظر: البدر المنير 9/ 276 والتلخيص الحبير 4/ 342.
 
القول الثاني لا يوجد علة وله حكم الرفع:
وهناك من قال برفعه وله حكم المرفوع، ومن الأدلة على ذلك:
حيث قال صاحب تحفة الأحوذي بعد أن ذكر الطرق المرفوعة لحديث أم سلمة: وهذه الطرق المرفوعة كلها صحيحة، فكيف يصح القول بأن حديث أم سلمة الموقوف هو أصل الحديث، بل الظاهر أن أصل الحديث المرفوع؛ (تحفة الأحوذي 5/ 100).
 
وحكم عليه أكثرُ أئمة الحديث أنه صحيح مرفوع، وروي في صحيح مسلم مرفوعًا، وقال بصحته الإمام أحمد وغيره، وقد بيَّن الشيخ الألباني أن هذا الحديث مرفوع، حتى وإن لم يصرِّح سعيد بن المسيب برفعه، فله حكم الرفع؛ لأنه لا يقال بالاجتهاد والرأي؛ (إرواء الغليل 4/ 378).
 
الحديث الثاني في المسألة وهو المعارض للحديث الأول:
وهو حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم يبعث بها وما يُمسك عن شيء مما يمسك عنه المحرم، حتى ينحر هديه»؛ رواه مسلم في كتاب الأضاحي، رقم (1321).
 
هنا لم يُمسك الرسول عن شيء من تقليم الأظافر أو حلق الشعر، ومنهم من جعل هذا في الهدي لا في الأضحية، ولا يمكن تشبيهها بذلك؛ إذ يجوز للمضحي الجماع والطيب وغيرها، خلافًا للمحرم وصاحب الهدي.
 
أما القائلون بصحة هذا الحديث فقد قالوا بالوجوب:
أخذ بظاهر الحديث كثيرٌ من الفقهاء، ومال إلى القول بالتحريم؛ لأن الكراهة حملوها على التحريم لعدم وجود صارف عندهم، واعتبار حديث عائشة عامًّا، وهذا خاص، فيعمل بكلٍّ في بابه، العام في بابه، والخاص في بابه، وممن قال بذلك:
1- قال الموفق ابن قدامة: (المغني لابن قدامة 9/ 436):
ظاهر هذا الحديث تحريم قص الشعر، وهو قول بعض أصحابنا، وبه قال الطحاوي في آخر قوليه.
 
2- ابن القيم حيث يقول:
وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره لصحته وعدم ما يعارضه، ولهذا كان أحمد وغيره يعمل بكلا الحديثين، هذا في موضعه وهذا في موضعه، وقد سأل الإمام أحمد أو غيره عبد الرحمن بن مهدي عن هذين الحديثين؟ فقال: هذا له وجه وهذا له وجه؛ (شرح ابن القيم على سنن أبي داود 7/ 348).
 
3- ابن حزم رحمه الله:
حيث يقول في (المحلى بالآثار 6/ 3): من أراد أن يضحي، ففرض عليه إذا أهلَّ هلال ذي الحجة ألا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحي، لا بحلقٍ، ولا بقصٍّ، ولا بغير ذلك، ومن لم يُرد أن يضحي لم يلزمه ذلك .
 
4- الشيخ محمد الأمين الشنقيطي:
حيث يقول (في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 5/ 220):
النهي يقتضي التحريم إلا لصارف عنه يجب الرجوع إليه كما تقرَّر في الأصول، والتحريم أظهر لظاهر الحديث، ولأنه صلى الله عليه وسلم يقول: وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.
 
5- الشوكاني:
حيث يقول في نيل الأوطار، ولا يخفى أن حديث الباب - أي حديث أم سلمة - أخص منه - أي من حديث عائشة - مطلقًا، فيُبنى العام على الخاص، ويكون الظاهر مع من قال بالتحريم، ولكن على من أراد التضحية؛ (نيل الأوطار 5/ 128).
 
ثانيًا: دليل من لا يرى الوجوب في ذلك:
لم يرَ صحة حديث أم سلمة وفيه تفرُّد وعلة، ولم يُنادَ بالعمل به على وجه الإلزام، ونقل ابن عبدالبر في (التمهيد 17/ 234)؛ حيث يقول: ومذهب مالك أنه لا بأس بحلق الرأس وتقليم الأظفار وقص الشارب في عشر ذي الحجة، وهو مذهب سائر الفقهاء بالمدينة والكوفة، وقال الليث بن سعد - وقد ذكر له حديث أم سلمة -: قد روي هذا والناس على غير هذا.
 
ومنهم مَن جعله في معارضة حديث عائشة، وقدم حديث عائشة، وعمل به، فحديث عائشة عام وحديث أم سلمة خاصة، فيُقدم العام على الخاص، ولذلك ذهب العلماء فيه مذاهب:
الأول منهم من قال بالكراهة:
وخرج النهي في حديث أم سلمة إذا سُلمِّ بصحته ورفعه على كراهة تنزيه لا تحريم، لوجود صارف وهو حديث عائشة، وقال النووي: (المجموع شرح المهذب 8/ 392 ): مذهبنا أن إزالة الشعر والظفر في العشر لمن أراد التضحية مكروهٌ كراهةَ تنزيهٍ حتى يضحي، وعليه بعض المالكية وخاصة المتأخرين.
 
الثاني منهم من قال بالاستحباب:
نقل ابن المنذر عن مالك والشافعي أنهما يستحبان الوقوف عن ذلك عند دخول العشر إذا أراد أن يضحي؛ ينظر: (الإشراف على مذاهب العلماء 3/ 412)، وهو قول الجمهور.
 
قال ابن عابدين في (رد المحتار على الدر المختار 2/ 181) مجيبًا عن حديث الباب: فهذا محمول على الندب دون الوجوب بالإجماع.
 
والإجماع الذي ذكره ابن عابدين فيه نظرٌ لوجود مخالفين، ولديهم أدلة على ذلك فلا عبرة بالإجماع هنا.
 
ما يمكن ترجيحه:
لعل الراجح أن حديث الباب يشوبه بعض الاعتراضات كما ذكرها البيهقي، ورجَّحها كثيرٌ من المحدثين، وكذلك الإيرادات التي لا يسعفه الانفراد بظاهر الحكم الفقهي المتبادر، وهو الوجوب لذلك، وتحريم الأخذ من الشعر والأظافر لمن أراد أن يضحي، وكذلك وورود صارف، وهو حديث عائشة، وهو عام والآخر خاص عند بعض العلماء.
 
ولذلك لم يقل به إلا القلة من أهل العلم بالحديث والفقه، فنقول وبالله التوفيق:
1- من لم يعمل به لم يخالف، وله وجه ودليلٌ وسند في ذلك من العلماء المتقدمين، وحمل الكراهة على التنزيه لا التحريم.
 
2- ومن استحسن العمل فله سندٌ وسلف في ذلك، ولا ينبغي الإنكار هنا على المخالف ونعته بأبشع الألفاظ.
 
3- وخاصة إذا علمنا أن الأضحية نفسها سنة مؤكدة عند جمهور أهل العلم خلافًا للحنابلة والظاهرية القائلين بوجوبها، فانعكس الوجوب عندهم لهذا.
 
فما بالكم فيما يُسَنُّ لها من شروطٍ وتفاصيلَ في توزيعها ووقت ذبْحها، فهي سنة مؤكدة.
 
حكم أضحية من ضحى وقد أخذ من شعره وقلَّم أظافره:
وإذا أخذ من شعره وأظفاره فأضحيته صحيحة، ولا شيء عليه إجماعًا؛ قال ابن قدامة: "فإن فعل استغفر الله تعالى، ولا فديةَ فيه إجماعًا، سواء فعله عمدًا أو نسيانًا"؛ (المغني (13/ 363).
 
وهو ما نرجِّحه فلا يجب ذلك، والحكم بالاستحباب والسنيَّة أَولى من الوجوب، والله أعلم بالصواب.
 
الحكمة من عدم الأخذ من الشعر والأظافر:
قال الإمام الشوكاني في (نيل الأوطار 5 / 133): “… والحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء للعتق من النار، وقيل: للتشبه بالمحرم، حكى هذين الوجهين النووي وحُكي عن أصحاب الشافعي أن الوجه الثاني غلط؛ لأنه لا يعتزل النساء، ولا يترك الطِّيبَ واللباس، وغير ذلك مما يتركه المحرم".
 
أبو إلياس عبد السلام الأنسي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة النجاح برعو صوملاند، غرة ذي الحجة 1443هجرية.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢