أرشيف المقالات

فضائل يوم عرفة وكيف نستثمره ونغنمه؟

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
فضائل يوم عرفة وكيف نستثمره ونغنمه؟


الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد نبيِّه وعبده، أما بعد:
ركن الحج الأعظم هو الوقوف بعرفة يَوْمٌ عَظِيمٌ مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ تَعَالَى، إنه يوم أقسم الله به، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، فهو اليوم المشهود في قوله تعالى: ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [البروج: 3]، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة..
"؛ رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني.

وهو الوَتْر الذي أقسم الله به في قوله: ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ [الفجر: 3]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشفع يوم الأضحى، وَالْوَتْر يوم عرفة، وهو قول عكرمة والضحاك.

وَهُوَ الْيَوْمُ الذي نزل فيه على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

مَا أَعْظَمَهُ مِنْ يَوْمٍ! فَهُوَ يَوْمُ كَمَالِ الدِّينِ، وَتَمَامِ النِّعْمَةِ، وَرِضَا الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾، قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَكَمَالُ الدِّينِ يَعْنِي كَمَالَ بَيَانِ عَقَائِدِهِ وَشَرَائِعِهِ.

يوم عرفة، إنه اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أخذ الميثاق مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ - يعني عرفة - وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا، قال: ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [الأعراف: 172، 173]"؛ رواه أحمد، وصحَّحه الألباني، فما أعظمه من يوم! وما أعظمه من ميثاق!

يَوْمُ عَرَفَةَ من عظمته أنه ضمن أيام الأشهر الحُرُم، وأحد الأيام المعلومات التي قال الله فيها: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج: 28]، وأحد أيام عشر ذي الحجة المفضلة التي أقسم الله بها بقوله: ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 2]، وَهُوَ عِيدٌ كَبِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَمِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنَّهُ جَعَلَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَكْثَرَ أَيَّامِ السَّنَةِ عِتْقًا مِنَ النَّارِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قال ابن عبد البر: (وهذا يدل على أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران).

وقال الملا علي القاري في كتابه مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: وقال: (فيقول ما أراد هؤلاء): أي شيء أراد هؤلاء حيث تركوا أهلهم وأوطانهم، وصرفوا أموالهم، وأتعبوا أبدانهم، إنهم أرادوا المغفرة والرضا، والقرب واللقاء، ومن جاء هذا الباب لا يخشى الرد، فالمغفرة شيء سهلٌ يسيرٌ على الله؛ إذ المغفرة لمن خُلق من التراب، لا يتعاظم على رب الأرباب).

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «وَيَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ يَوْمُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ، فَيُعْتِقُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ النَّارِ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَمَنْ لَمْ يَقِفْ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلِذَلِكَ صَارَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِيهِ عِيدًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فِي جَمِيعِ أَمْصَارِهِمْ، مَنْ شَهِدَ الْمَوْسِمَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْهُ؛ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْعِتْقِ وَالْمَغْفِرَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ»؛ ا هـ.

يَوْمُ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ، وَرُوِيَ فِي عَرَفَةَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»؛ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

فَلْنُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ عَشِيَّةَ هَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ، فَلَرُبَّ دَعْوَةٍ فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَسَعِدَ بِهَا صَاحِبُهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.


قال الأوزاعي: "أدركت أقوامًا كانوا يخبّئون الحاجات ليوم عرفة؛ ليسألوا الله بها".
فيا أيها الحاج والحاجة: ماذا أعددت وخبأت من أدعية ليوم عرفة؟

قال النووي - رحمه الله -: (هذا اليوم أفْضَلُ أيامِ السَّنَة للدُّعاء، وهو مُعْظَمُ الحَجِّ ومَقْصُودُه، والمُعَوَّلُ عليه، فينبغي أنْ يَسْتَفْرِغَ الإنسانُ وُسْعَهُ في الذِّكر والدُّعاءِ وفي قراءةِ القرآنِ، وأنْ يدعوَ بأنواعِ الأدعية، ويأتي بأنواعِ الأذكار، ويدعو لِنَفْسِه ووالديه وأقارِبِه، ومشايِخِه وأصحابِه وأصدقائِه وأحبابِه، وسائِرِ مَنْ أحْسَنَ إليه، وجميعِ المسلمين".

خطوات عملية لاستثمار يوم عرفة العظيم:
1- تعظيم هذا اليوم بتذكُّر فضله ومكانته عند الله، كيف وقد أقسم به ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [البروج: 3] ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ [الفجر: 3].

2- التأمل في مُباهاة الله بأهل عرفة: ماذا أراد هؤلاء؟ إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا.

3- أن يعيش المسلم بقلبه حال النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف في هذا اليوم...تذكَّر حال النبي صلى الله عليه وسلم في عرفات ماذا صنع؟ كيف وقف في عرفة؟ ما أحواله في يوم عرفة؟ بعدما صلى انطلق إلى الصخرات آخر عرفات، وأناخ بعيره، وبقي عليه لم ينزل مستقبل القبلة، يدعو إلى أن غربت الشمس، لم يشتغل بأي عمل آخر، حتى إن الصحابة شكوا هل كان النبي صلى الله عليه وسلم صائمًا؟

فأرسلت إليه أم الفضل بلبن بعد العصر فشرب منه والناس ينظرون، بل إنه عليه الصلاة والسلام سقط خطام ناقته فأخذه بإحدى يديه وبقيت يده الأخرى مرفوعة يدعو.

4- البعد عن المضيعات والمشتِّتات؛ مثل: إمضاء أكثر ساعات عرفة بالنوم، كثرة الانشغال بالجوال والتصوير، كثرة التحدُّث والسواليف، والمماراة والجدال، والنظر المحرم والتدخين.

مهم جدًّا حِفْظ الجوارح عنِ المُحَرَّمات في ذلك اليوم؛ وروي في حديث لابن عباس، قال: كان الفضل بن عباس رديف النبي -صلى الله عليه وسلم - من عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهنَّ، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجهه بيده من خلفه، وجعل الفتى يُلاحظ إليهنَّ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم: ((ابنَ أخي، إنَّ هذا يومٌ مَن مَلك فيه سمعه وبصره ولسانه، غُفِر له))؛ رواه أبو يَعْلى، وهو صحيح، وصَحَّحه المنذري.

5- استجماع شروط الدعاء وآدابه من الإخلاص والرجاء واليقين وحسن الظن والجزم في المسألة والانكسار والتضرع والطهارة واستقبال القبلة والسؤال بالأسماء الحسنى والأدعية القرآنية والنبوية وجوامع الدعاء والاعتراف بالذنب وطلب المغفرة والرحمة ورفع اليدين وتكرار الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال عبدالله بن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تذرفان فالتفت إليَّ، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالًا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.

يا عبدالله، أتدري من تدعو؟ تدعو القريب المجيب الغني القائل: (لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنْسَكم وجِنَّكمُ اجتَمَعوا في صَعيدٍ واحِدٍ فسأَلوني فأعطَيتُ كُلَّ واحِدٍ منهم مَسألَتَه، ما نَقَصَ ذلك مِن مُلْكي إلَّا كما يَنقُصُ المِخْيَطُ إذا غُمِسَ في البَحرِ).

6- لا يصدك تقصيرك في طاعة الله، ولا يقطعك الشيطان عن الإقبال على الله بحجة أن عندك المعصية الفلانية، المقصر -وكلنا كذلك- أشدُّ حاجة للحسنات؛ إن الحسنات يُذهِبْنَ السيئات.

7- استشعر فقرك وغِنى الله عن الخلق؛ قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عِبادي، لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أتْقى قَلبِ رَجُلٍ واحِدٍ منكم، ما زادَ ذلك في مُلكي شَيئًا، يا عِبادي، لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ واحِدٍ منكم، ما نَقَصَ ذلك مِن مُلْكي شَيئًا).






يا من يرى ما في الضمير ويسمعُ
أنت المُعدُّ لكل ما يُتوقعُ


يا من يُرجَّى للشدائد كلها
يا من إليه المُشتكى والمفْزعُ


يا من خزائن رزقه في قول (كن)
امْنُن فإن الخير عندك أجْمعُ


ما لي سوى فقري إليك وسيلة
فبالافتقار إليك فقري أدفعُ


ما لي سوى قرعي لبابك حيلةٌ
فلئن رُدِدت فأيَّ باب أقْرعُ






 
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.

اللهم يَسِّر لنا الوقوف في عرفات، واجعلنا مع أهل الموقف من المرحومين والمقبولين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢