الصرف في الوديعة
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الصَّرف في الوديعةصورة المسألة[1]:
صورة أولى: أن يكون لعبدالله في يد محمدٍ وديعةٌ من الذَّهب قدرها 1.000 ألف جرامٍ، فيُبْقِي محمدٌ الوديعة في بيته، ويلتقيان في السُّوق، وهما بعيدان عن الوديعة، فيقول محمدٌ: خذ 2.000 ألفي جرامٍ من الفضَّة عوضًا عن الوديعة التي لك في بيتي، فهل يجوز عقد الصَّرف هذا أم لا؟
صورة ثانية: أن تكون الوديعة من جنس المال المصارَف به: فيكون في يد محمد وديعةٌ من ذهبٍ وزنه 10 عشرة جرامات، فيصارِف محمَّدٌ عبدَالله بما في يده من الوديعة بسبيكةٍ ذهبيَّةٍ وزنها عشرة جرامات مساويةً للوديعة في النَّقاء.
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: إنَّ هذا العقد لا يصح، وبهذا قال الحنفيَّة[2]، والمالكيَّة في القول المشهور عندهم[3].
القول الثاني: إنَّ هذا العقد جائزٌ إن علما بقاء الوديعة ظنًّا أو يقينًا، ولا يصحُّ فيما عداه، وبهذا قال الشافعيَّة[4]، والحنابلة[5]، وهو قول مرويٌّ عن مالك ذكره ابن الموَّاز عن أشهبٍ عنه[6].
دليل أصحاب القول الأول:
علَّل الحنفية قولَهم بالمنع: بأنَّ قبض الوديعِ للوديعة قبضُ أمانةٍ، لا قبض ضمانٍ، ولا ينوب قبضُ الأمانة عن قبضِ الضَّمان، ولأجل ذلك جوَّزوا العقد بهذه الصِّيغة إن كان مع غاصبٍ؛ لأنَّ يد الغاصب يد ضمانٍ[7].
ويمكن أن يناقش: بعدم التَّسليم بالتَّفريق بين يد الضَّمان ويد الأمانة عند التَّصرُّف، فإن المعيار الشرعيَّ هو التَّقابض، وهو متحقِّق حكمًا بحكم القبض الأوَّل، والقول بأنَّه لا بدَّ من تقابضٍ جديدٍ إيجابُ حكمٍ زائدٍ لا بدَّ فيه من دليلٍ.
وعلَّل المالكيَّة قولهم بالمنع: بأنَّ حقَّ المودِع متعلِّق بعين ماله لا بذمَّة الوديع، وعليه فلا يرتفع حكم الوديعة حتى يعود عين المال إلى المودِع، فإن لم يكن المال حاضرًا فلا تصحُّ المصارفة به[8].
ويمكن أن يناقش من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ تعلُّقَ حقِّ المودِع بعين ماله ليس بأولى من تعلُّق الدائن بما في ذمَّة المدين، وقد أجاز النبيُّ صلى الله عليه وسلم المصارفة عمَّا في الذِّمَّة كما جاء في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه، فقد اعتبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم القبض الحكمي المتحقِّقَ في كون الدَّين حالًّا، واشتَرَطَ معه ألَّا يفترقا وبينهما شيءٌ، فإذا جاز ذلك مع كون متعلَّق الدين في الذِّمَّة، فلأَن يجوز في المقبوض المتعيِّن من باب أولى.
الوجه الثاني: أنَّ المعيار الشرعي لجواز المصارفة أن يكون يدًا بيدٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الذَّهب بالذَّهب رِبًا إلا هاء وهاء..» الحديث[9]، وقَبْضُ أحد المتصارفين للمال قبل العقد وتيقُّنه أنَّه في يده أقوى من القبض الحكميِّ، وعليه فقد تحقَّق القبض المشترط شرعًا، وعلى مدَّعي عدم الجواز الدليل، والله أعلم.
دليل أصحاب القول الثاني:
الدليل الأول: حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: رويدك أسألك: إنِّي أبيع الإبل بالبقيع بالدَّنانير، وآخذ الدَّراهم، قال: ((لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيءٌ))[10].
وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أوجب في المصارفة أن يكون يدًا بيد، وأجاز مصارفة الحال الذي في الذِّمَّة مع أنَّ القبض فيه حكميٌّ، فلأَن يجوز في المقبوض حقيقةً في يد الوديع من باب أولى.
الدليل الثاني: القياس على جواز بيع الحيوان المعيَّن الغائب مع عدم الجزم ببقائه حيًّا وقت التعاقد[11].
الترجيح: يظهر للباحث رجحان القول الثاني لأمور:
أولًا: قوة أدلتهم، وسلامتها عن المعارضة.
ثانيًا: أن الحنفيَّة -وهم من القائلين بالقول الأول- فرَّقوا بين مسألة قبض الغاصب ومسألة قبض الوديع، مع أنَّ الصورة واحدةٌ، والمطلوب شرعًا هو التَّقابض لا كونُ اليد يد ضمانٍ أم غيره.
ثالثًا: أن المالكيَّة يجيزون المصارفة عن الحال في الذِّمَّة، فلأَن تجوز المصارفة عمَّا هو مقبوضٌ في يد الوديع أولى.
سبب الخلاف:
يظهر ممَّا سبق أنَّ سبب الخلاف في المسألة راجع إلى أمرين:
الأول: قبض الوديع للوديعة: هل يقوم مقام القبض الواجب في المعاوضة المحضة أم لا؟
الثاني: هل لكون يد الوديع يد أمانةٍ أثَرٌ في عدم تحقُّق القبض الواجب في الصَّرف أم لا.
أمَّا الوصف الطارئ فقد سبق أنَّ شرط صحَّة عقد الصَّرف التَّقابض فقط إن اختلفا في الجنس، ويشترط لصحَّة الصَّرف إن اتفقا في الجنس أن يكونا متساويين، وأن يتقابض المتعاقدان قبل التَّفرُّق.
هذا ما تيسَّر جمعه وإيراده، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] ما جاء في هذه الورقات مُسْتلٌّ من رسالتي في مرحلة الدكتوراه بعنوان: (أوصاف عقود المعاوضات المؤثرة في التكييف دراسةً وتحليلًا).
[2] ينظر: الأصل للشيباني (3/ 63)، والمبسوط للسرخسي (14/ 53)، والبحر الرائق (6/ 210)، ورد المحتار (5/ 257).
[3] ينظر: المدونة (3/ 13)، والمنتقى شرح الموطأ (4/ 263)، ومواهب الجليل (4/ 311).
[4] ينظر: الأم للشافعي (3/ 32)، والبيان في مذهب الإمام الشافعي (5/ 181).
[5] ينظر: الشرح الكبير على المقنع (12/ 124)، وكشاف القناع (3/ 270)، ومطالب أولي النهى (3/ 180).
[6] ينظر: المنتقى شرح الموطأ (4/ 263).
[7] ينظر: المبسوط للسرخسي (14/ 53)، والبحر الرائق (6/ 210).
[8] ينظر: المنتقى شرح الموطأ (4/ 263).
[9] متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة برقم (2134) (3/ 68)، ومسلم في صحيحه، كتاب البيوع، باب الصرف وبيع الذهب بالورق برقم (1586) (3/ 1209) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[10] أخرجه النسائي في سننه الصغرى، كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة برقم (4582) (7/ 281)، وأبو داود في سننه، كتاب البيوع، باب اقتضاء الذهب من الورق برقم (3354) (5/ 241-242)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وصححه الحاكم وقال الذهبي: (على شرط مسلم)، وكذا قال ابن كثير، ينظر: المستدرك على الصحيحين (2/ 50) وإرشاد الفقيه (2/ 7).
[11] ينظر: المغني لابن قدامة (4/ 44).