أرشيف المقالات

بين الفتوى والعلم

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
بين الفتوى والعلم

 
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على نبينا محمدٍ وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
 
ففقه الفتوى فنٌّ يحتاج إليه طالبُ العلم؛ فالفتوى هي التي تربط بين العلم والواقع، فالعلمُ وحده لا يصنع المفتي، إنما يصنعه فَهمُ الواقع وتنزيل العلم عليه، وقد قال ابن عابدين: "لو أن رجلًا حفظ جميعَ كتب أصحابنا، لا بد أن يتتلمذ للفتوى حتى يهتدي إليها"[1]، وجاء عن أحد علماء المالكية أنه ابتُلي بالفتيا، فما درى ما يقول في أول مجلس وهو يحفظ المدونة والمستخرجة الحفظَ المتقن، وقال: "الفتوى صنعةٌ...
والتجربةُ أصلٌ في كل فن ومعنى مفتقر إليه"[2].
 
 
وقد يُرزق المرءُ علمًا لكنه لا يُرزق فهمًا للواقع، فيُفتي فيَضل ويُضل، قال ابن القيم: "ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرفهم وعوائدهم، وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم، وقرائن أحوالهم - فقد ضلَّ وأضلَّ"[3].
 
 
وعدمُ التفريق بين العلم والفتوى جعل كثيرًا من الباحثين ينسُب القول الذي في الفتوى إلى العالم، ويرى أن هذا هو الرأي الراجح عند هذا العالم في هذه المسألة، ويكون مرجعه الوحيد في ذلك هذه الفتوى، وهذا ليس بصحيحٍ على كل حال؛ فإن العالم قد يفتي في مسألة اجتهادية بقول مرجوح عنده لمصلحة يراها، قال ابن رجب: "وقد يُتْرَك القول الراجح المجتهَدُ فيه إلى غيره من الأقوال المرجوحة إذا كان في الإفتاء بالقول الراجح مفسدة"[4]، وقد ذكر ابن تيمية "أن المفضول قد يصير فاضلًا لمصلحة راجحة"[5]، وأنه "قد يكون فعلُ المرجوح أرجحَ للمصلحة الراجحة، كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانًا لمصلحة راجحة"[6]، وقال ابن عثيمين: "وأما المسائل الاجتهادية فإنها مبنيَّة على الاجتهاد، وإن كان الاجتهاد فيها في الحكم، فكذلك في محله ...
فإذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه تقتضي أن يعامل معاملة خاصة، عومِل بمقتضاها ما لم يخالف النص، كذلك إذا كان الأمر قد وقع وكان في إفتائه بأحد القولين مشقة، وأفتى بالقول الثاني، فلا حرج"[7]، وقال: "يذكر عن بعض السلف أنه قال لابنه مرة: افعل كذا وكذا في حكم من الأحكام، فلم يفعل، فقال الوالد: افعل وإلَّا أفتيتُك بقول فلان، وهو قول أصعبُ وأشقُّ[8]، فهذه المسائل التي مصدرها الاجتهاد، وليس فيها نص يلزم الإنسان بأن يأخذ به، فلينظر إلى ما يصلح الخلق"[9]، وقال: "وقد يرى المفتي أن يمنع الناس من شيء أحلَّه الله لهم؛ لما يترتب على فعل الناس له من المحرم"[10].
 
 
والشاطبي وابن عاشور مثلًا كتَبا في المقاصد وأبدعا في فَهم النصوص وتفسيرها، وفَهْم الشريعة، واستخراج نفائس الدُّرر، لكن مَن قرَأَ في فتاويهما وجَد أنهما لم يخرجا في غالبها عن المذهب المالكي الذي كان سائدًا في عصرهما وفي ديارهما، حتى لو خالف المذهب مقصدًا، فقد ذكر الشاطبي في مسألة الاشتراك باللبن أن من الأدلة على الاشتراك فيه، رفع الحرج والرفق بالناس، ومع ذلك توقَّف فيها؛ لأنه لم يجد نصًّا في المذهب بخصوصها، فقال: "هذا ما ظهر لي فيها من غير نص في خصوص المسألة أستند إليه؛ ولذلك توقفت عن الجواب فيها"، ثم وجد مسألة في المذهب تُشبهها قال الإمام مالك بجوازها لحاجة الناس، ثم ختم الجواب بقوله: "فهذا كله مما يدل على صحة ما ظهر لي في اللبن، والله أعلم، والظاهر جوازه عملًا بهذا الأصل المقرر في المذهب"[11]، فمع أن في المسألة مقصدًا، وهو رفع الحرَج والتيسير على الناس لم يفتِ الشاطبي بها حتى وجد مسألة تُشبهها في المذهب، أما ابن عاشور فقد سُئل عن رجل اشتد غضبُه، فطلق زوجته ثلاثًا بلفظ واحد، فأجاب بأن المتفق عليه عند أئمة المذاهب التي تقلَّدتْها الأمة أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يلزم منه البتات، وأنه لا يُلتفت إلى قول مَن شذَّ مِن العلماء، ثم قال في آخر الفتوى وهو وجه الشاهد: "فكل من يستفتي عالمًا اليوم، فإنما يريد من استفتائه أن يخبره بقول إمامه الذي قلَّده، فالمالكي مثلًا إنما يسأل عن مذهب مالك الذي اتَّبعه؛ لأنه لا يجوز له العمل بغيره إلا عند الضرورة، وهذا كله مبني على ما رجَّحه العلماء من أنه يجب على العامي التزام مذهب معين، وبذلك عملت الأمة منذ قرون طويلة، فلا تجد مسلمًا إلا وهو مقلد مذهبًا ينسب نفسه إليه، ثم إذا التزمه لا يجوز له الخروج عنه؛ لأنه تلاعب بالدين، وميل مع الهوى والشهوة، إلا إذا نزلت به ضرورة"[12]، وقد رأى أحد الباحثين أن الشاطبي لم يُعمل مقاصده في فتاويه[13].
 
 
ولعل السبب والله أعلم أن الشاطبي، وكذلك ابن عاشور، رأَيَا أن من مقاصد الشريعة اجتماع الناس وعدم تفرُّقهم، والناس في بلادهم مجتمعون على المذهب المالكي، والخروج عنه ببعض الآراء قد يسبب لهم فتنة وشرًّا مستطيرًا، وعلم المقاصد يُعنى بقراءة ما بين السطور وما خلفها، فكيف للعامي - وهم غالب الذين يستفتون العلماء - الذي لا يستطيع قراءة السطور أن يُفتَى بما بينها وما خلفها؟! وقد قال ابن عاشور: "فحقُّ العامي أن يتلقَّى الشريعة بدون معرفة المقصد؛ لأنه لا يُحسن ضبطه ولا تنزيلَه"[14].
 
 
فالعلم شيء والفتوى شيء زائد عن مجرد العلم؛ لذا ينبغي الاهتمام بصناعة المفتي وتكوينه؛ كي تسلَم الأمة من الاختلاف والتشرذم، ومن الأشياء التي تعين على ذلك وضعُ مقررٍ عن صناعة المفتي يُدرَّسُ في الكليات الشرعية نظريًّا وتطبيقيًّا بالتعاون مع دُور الفتوى، وهذا أمره إلى أهل الإصلاح في الكليات الشرعية، ومن الأشياء التي تُعين على فقه الفتوى القراءة في كتب الفتاوى ودراسة مناهج الفتوى عند العلماء؛ لينظر طالب العلم كيف كانت فتوى العالم؟ وكيف كان تنزيله للعلم على الوقائع والأحداث؟ وما الطريق الذي خطَّه لنفسه في الفتوى؟[15]، ومنها متابعة برامج الإفتاء، ومحاولة طالب العلم الإجابةَ على الأسئلة المقدمة من المشاهدين قبل أن يجيب عليها المفتي، ثم ينظر في جواب المفتي ومدى الموافقة والمخالفة له، وسبب المخالفة إن وُجِدت، هذا إن كان طالب العلم مهيَّأً للإفتاء، يَمتلك الفطنة، والفقه النفسي، وفَهْم الناس، وواقعهم، فبعض الناس قد يُعطَى مَلكةً لحفظ العلم وتبليغه، لكنه غير مهيأ للإفتاء، إما لعدم بعده في الفهم، أو أن يكون فيه غفلة يستغلها بعضُ المتحايلين ليُفتيهم حسب رغبتهم وهواهم، وقبل كل ذلك على طالب العلم أن يُكثر من دعاء الله والتذلل بين يديه؛ ليوفِّقه ويُسدده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.



[1] رسائل ابن عابدين 1/ 46.


[2] المعيار المعرب، للونشريسي 10/ 79.


[3] إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 66.


[4] الاستخراج لأحكام الخراج، لابن رجب صـ89.


[5] مجموع الفتاوى، لابن تيمية 22/ 345.


[6] مجموع الفتاوى، لابن تيمية 24/ 198.


[7] مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 26/ 400-401.


[8] روي ذلك عن ابن القاسم؛ وهو أن ولده حنث في يمين حلف فيها بالمشي إلى بيت الله الحرام، فاستفتى أباه، فقال له: "أفتيك فيها بمذهب الليث كفارة يمين، وإن عدت أفتيتك بمذهب مالك؛ يعني بالوفاء"؛ انظر: الاستذكار لابن عبدالبر 5/ 181، والبحر المحيط للزركشي 8/ 381.


[9] الممتع، لابن عثيمين 14/ 28.


[10] كتاب العلم، لابن عثيمين صـ229.


[11] فتاوي الشاطبي صـ207-211.


[12] الفتاوي التونسية في القرن الرابع عشر الهجري 2/ 943-946.


[13] انظر مقال: هل كان الشاطبي مقاصديًّا؟ لياسر المطرفي، منشور في موقع نماء.


[14] مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور صـ188.


[15] كُتبت بحوث في مناهج العلماء في الفتوى منها: منهج الإفتاء عند الإمام ابن القيم، لأسامة الأشقر، ومنهج الشيخ ابن باز في الفقه والفتوى، لخالد الحامد، وبديع الطراز في معالم منهج الفتوى عند الإمام ابن باز، لعبدالرحمن السديس، ومنهجية الفتوى عند الشيخ ابن عثيمين، لمسعود صبري، ومعالم التميز في الفتوى عند الشيخ ابن عثيمين، لوليد الودعان، منهج البحث والفتوى في الفقه الإسلامي بين انضباط السابقين واضطراب المعاصرين، لمصطفى الطرابلسي.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير