أرشيف المقالات

تاريخ فنون الحديث [*]

مدة قراءة المادة : 31 دقائق .
(1) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل من السنة تبيانًا للكتاب، ونورًا يهتدي به أولو الألباب، وبعث إليها من الحفاظ المتقنين، والرواة الصادقين، والنقدة الباصرين، من قام بصادق خدمتها، وحفظ عليها جلال حرمتها، ونفى عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين [1] ، وصانها من إفك المفترين، ودغل الدجالين، فحفظت على مر العصور، من يد الدثور، وصينت - بعناية الله - من أرباب الفجور، فلله مزيد الحمد والمنة على ما حفظ من معالم دينه وسبل رشاده، وعلى صفيه وخليله محمد بن عبد الله صلواته وسلامه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فإن من لا علم له بالكتاب والسنة لا حظّّ له من الملة الحنيفية، والشرعة المحمدية، وليس له من نور الهداية ومصباح النبوة ما يهتدي به في دياجير الشبهات، وظلمات الترهات، وإن صدره لغفل من برد اليقين، وعقله بمعزل من إصابة الحق المبين، وقلبه خلو من واعظ الإيمان وخشية الديان، فالخير كل الخير في اتباع الكتاب والسنة واقتفاء هديهما، والاغتراف من بحرهما الواسع، وجودهما السابغ، ولا شيء أهدى للنفوس وأجلب لسعادتها، وأرجى لطهارتها، من تفهم هذين الصنوين والعكوف على درسهما، وتدبر معانيهما، والنفوذ إلى مغزاهما، فهناك طهارة القلب، وصفاء العقل، وكمال النفس. فكان خليقًا بالعلماء ورواد الدين أن يجعلوا مقصدهم الأسمى وغايتهم القصوى معرفة هذين الأصلين، والاستظلال بظل هاتين الدوحتين، والاحتماء بحماهما وابتغاء الهداية من سبيلهما، ولكن - واأسفاه - صرفوا عنهما العناية، وولوا وجوههم نحو الفروع وما إليها، وتحكموا بها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فآثروا الفروع على الأصول، وقدموا آراء الرجال على قول الله وقول الرسول، وما ذلك إلا إغماص لمقام الكتاب والسنة، وتغال في وضع الآراء مواضع النصوص، وإنه لخطأ - لو يعلمون - عظيم تنكره أصولهم، وتأباه عليهم - لو أنصفوا - عقولهم. ومن عجيب أمرهم أن يعدوا من كبار المفسرين مَنْ درس مثل تفسير الجلالين أو النسفي دون أن تكون له ملكة فهم في القرآن وذوق يدرك به سر فصاحته وكمال اقتدار على تطبيقه على سير الناس ومعاملاتهم، وأعجب من ذلك أن يعدوا بخاري زمانه ومسلم أوانه مَن مر على صحيح البخاري مر السحاب دون أن يطلق لنفسه العنان في تفهم الأحاديث واستنباط الأحكام، ومقارنة ذلك بأفهام المتقدمين وما استنبطوه منها، وأين صحيح البخاري من كتب الصحاح والمسانيد والأجزاء التي يكاد يخطئها العد ولا يضبطها الحساب؟ وإن من المضحكات المبكيات أن نسأل كثيرًا من العلماء عن أسماء الكتب الستة فلا يحير جوابًا، كأن ذلك ليس لديه من الدين في ورد ولا صدر، ولا قبيل أو دبير، فلا حول ولا قوة إلا بالله. تنكرت معالم الدين وطبق الجهل على المنتسبين إليه، وسادت الفروع وعبدت لها الأصول، وأنكر على المؤثر لها، المقتفي هديها، فزال جلال الدين من النفوس، وكاد يرحل من دول القضاء، ويهاجر من أرض المعاملات. فكل ذلك دعاني لأن أجعل رسالتي التي أقدمها لمدرسة القضاء الشرعي في السنة الختامية، في تاريخ فنون الحديث، والكشف عما طرأ عليها من جمع وتصنيف، وترتيب وتهذيب، وشرح وتبيين حتى تتمثل لك - أيها القارئ الكريم - صورة واضحة ترى فيها كتب السنة ماثلة، وتلمح في ثناياها تلك الخدمات الجليلة التي أداها للسنة سلفنا الصالح، وتبصر في أساريرها رفيع مقام السنة، وناصع بياضها وجليل أمرها، وإني وإن لم أسبق إلى هذا النوع من الكتابة، حسب ما أعلم، ولم يمهد أحد قبلي صعابه، فإن أملي في الله عظيم، ورجائي في واسع فضله كبير أن يسدد لي خطاي، ويوفقني لمسعاي، ويمدني بروح من عنده يهديني بها قصد السبيل، إنه نعم المولى ونعم النصير. *** معنى تاريخ السنة السنة في اللغة: الطريقة المسلوكة، من سننت الشيء بالمسن إذا أمررته عليه حتى يؤثر فيه سنًّا؛ أي: طريقًا، وهي إذا أطلقت تنصرف إلى الطريقة المحمودة، وقد تستعمل في غيرها مقيدة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) رواه مسلم، وتطلق في عرف الشرعيين على قول النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، عدم إنكاره لأمر رآه أو بلغه عمن يكون منقادًا للشرع فهي مرادفة للحديث، وأعني بتاريخها الأداوار التي تقلبت فيها من لدن صدورها عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم إلى أن وصلت إلينا من حفظ في الصدور، وتدوين لها في الصحف، وجمع لمنشورها وتهذيب لكتبها ونفي لما اندس فيها، واستنباط من عيونها، وتأليف بين كتبها، وشرح لغامضها ونقد لرواتها، إلى غير ذلك مما يعرفه القائمون على خدمتها والعاملون على نشر رايتها. *** أدوار تاريخ السنة حفظها في الصدور، تدوينها مختلطة بالفتاوى، إفرادها بالتدوين، تجريد الصحيح، تهذيبها بالترتيب والجمع والشرح، فنون الحديث المهمة، وتاريخ كل علم، وأحسن المصنفات فيه. وسنعقب ذلك بخاتمة فيها مسائل قيمة. *** مكانة السنة من الكتاب قبل أن نشرع في موضوعنا نقدم لك بين يديه فصلاً نبين فيه مكانة السنة من الكتاب ومنزلتها منه حتى تنجلي لك مكانة الموضوع الذي نحن بصدده، فنقول وبالله توفيقنا وعليه اعتمادنا: إن للسنة عملين: 1- تبيين الكتاب. 2- والاستقلال بتشريع الأحكام.
أما الأول؛ فلقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، فلا سبيل إلى العمل بجل الشرائع التي تضمنها الكتاب إلا ببيان من المعصوم يفصل مجملها، ويوضح مشكلها، ويعين محتملها، ويقيد مطلقها، وكيف تراك مصليًا إذا وقفت إلى ما نطق به الكتاب فحسب، ولم تعرض على السنة فتتعرف أوقاتها وعدد ركعاتها وسجداتها وما يقيمها أو يبطلها إلى سائر أحكامها وكثير أنواعها؟ وما الذي تخرجه من مالك زكاة إذا لم تسترشد بكتاب الصدقات من السنة؟ ثم كيف تؤدي مناسك الحج إذا لم تأتس بالرسول في قاله وحاله يوم أن حج بالناس حجة الوداع، فلا جرم كان القرآن في حاجة إلى السنة ورحم الله الأوزاعي إذ يقول: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب.
ولا عجب في ذلك، فإن المجمل في حاجة إلى البيان، ولا كذلك المفصل. وأما الثاني؛ فلقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الحشر: 7) ، وقوله جل شأنه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (المائدة: 92) إلى غير ما آية، وكيف ننكر استقلال السنة بتشريع الأحكام وقد أخرج أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (يوشك رجل منكم متكئًا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله) زاد أبو داود: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) ، وقد حرمت السنة نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وحرمت الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وأوجبت رجم المحصن، إلى كثير مما ملئت به مدونات فقه الحديث والكتب الجامعة لأحاديث الأحكام، كبلوغ المرام لابن حجر، والمنتقى للمجد ابن تيمية، وشرحه نيل الأوطار للشوكاني. ولا تنس ما في السنة من آداب وآخلاق وقصص ومواعظ ورقائق وعقائد، وإن كانت لا تعدو شرح الكتاب. وجملة القول أن الكتاب والسنة ينبوع هذا الدين المتين، ومعتمد المسلمين وناموس المشرعين. *** الدور الأول حفظ السنة في الصدور لم تكن السنة في القرن الأول - عصر الصحابة وأكابر التابعين - مدونة في بطون الكتب، وإنما كانت مسطورة على صفحات القلوب، فكانت صدور الرجال مهد التشريع النبوي ومصدر الفتيا ومنبعث الحكم والأخلاق. ولم يقيدوا السنة بكتاب لما ورد من النهي عن كتابتها، روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني فلا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) ، قال كثير من العلماء: نهاهم عن كتابة الحديث خشية اختلاطه بالقرآن، وهذا لا ينافي جواز كتابته إذا أمن اللبس، وبذلك يحصل الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده) وقوله عام الفتح: (اكتبوا لأبي شاه) ، وإذنه لعبد الله بن عمرو بتقييد العلم، ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم بادر الصحابة إلى جمع ما كتب في عهده في موضع واحد وسموا ذلك (المصحف) واقتصروا عليه ولم يتجاوزوه إلى كتابة الحديث وجمعه في موضع واحد كما فعلوا بالقرآن الكريم، وصرفوا همهم إلى نشره بطريق الرواية، إما بنفس الألفاظ التي سمعوها منه صلى الله عليه وسلم إن بقيت في أذهانهم، أو بما يؤدي معناها إن غابت عنهم، فإن المقصود بالحديث هو المعنى، ولا يتعلق في الغالب حكم بالمبنى بخلاف القرآن، فإن للألفاظ مدخلا ًفي الإعجاز، فلا يجوز إبدال لفظ منه بآخر، ولو كان مرادفًا له؛ خشية النسيان مع طول الزمان، فوجب أن يقيد بالكتابة، وأما السنة فتقييدها مباح ما أمن الاختلاط. فأنت تراهم سلكوا مسلك الجمع بين هذه الأحاديث المتضاربة، لكن نظرت لابن القيم في كتابه (زاد المعاد) أثناء الكلام على قصة الفتح ما يأتي: وفي القصة أن رجلاً من الصحابة يقال له: أبو شاه قام فقال: اكتبوا لي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتبوا لأبي شاه) يريد خطبته.
ففيه دليل على كتابة العلم، ونسخ النهي عن كتابة الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه) ، وهذا كان في أول الإسلام خشية أن يختلط الوحي الذي يتلى بالوحي الذي لا يتلى، ثم أذن بالكتابة لحديثه. وصح عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب حديثه، وكان مما كتبه صحيفة تسمى الصادقة، وهي التي رواها حفيده عمرو بن شعيب، عن أبيه، عنه، وهي من أصح الأحاديث، وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها في درجة أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها. وإلى القول بالنسخ أميل: ذلك أن القرآن وإن كان بدعًا في أسلوبه، فريدًا في نظمه يمتاز على غيره بالإعجاز، لكن المسلمين في أول الإسلام كانوا حديثي عهد بنزوله، وكان النازل منه يسيرًا، فلم تكن ميزته المثلى قد توطنت النفوس جد التوطن، ولا تمكنت فيها فضل التمكن، فكان من الممكن أن يشتبه على من دون فرسان البلاغة الوحي المتلو بغير المتلو، فوجب التمييز بالكتابة، فلما مرنوا على أسلوبه، وطال عهدهم بسماعه وتلاوته حتى أصبحوا إذا سمعوا الآية تتلى أو السورة تقرأ أدركوا لأول كلمة تقرع أسماعهم أن ذلك وحي الله المتلو، ولم يحم الاشتباه حول نفوسهم، لما مرنوا على ذلك أَذِن لهم بكتابة الحديث لأمن اللبس. ولعل من دواعي النهي عن كتابة الحديث أولاً، ثم الإذن بكتابته ثانيًا أن العارفين بالكتابة كانوا في غربة الإسلام قليلين فاقتضت الحكمة قصرهم على كتابة القرآن، فلما توافر عددهم أَذِن صلوات الله وسلامه عليه بكتابة الحديث. ولا يقعن في نفسك مما أسلفت أنه لم يدون شيء من الأحاديث في القرن الأول، ولكن كان هذا هو الشأن الغالب، فقد كان عبد الله بن عمرو يقيد كل ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أبو عمر يوسف بن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) عن مطرف بن طريف قال: سمعت الشعبي يقول: أخبرني أبو جحيفة قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا أن يعطي الله عبدًا فهمًا في كتابه، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل كافر بمسلم) . وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقات والديات والفرائض والسنن لعمرو بن حزم وغيره، وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: (وجد في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيفة مكتوب فيها: (ملعون من أضل أعمى في سبيل، ملعون من سرق تخوم الأرض، ملعون من تولى غير مواليه، أو قال: ملعون من جحد نعمة من أنعم عليه) وعن معن قال: (أخرج إليّ عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتابًا، وحلف لي أنه خط أبيه بيده) ، وعن سعيد بن جبير أنه كان يكون مع ابن عباس فيسمع منه الحديث فيكتبه في واسطة الرحل، فإذا نزل نسخه، وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: (كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس) وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه احترقت كتبه يوم الحرة في خلافة يزيد، وكان يقول: لو أن عندي كتبي بأهلي ومالي. *** تثبت الصحابة في رواية الحديث عساك تقول: إذا كانت الصدور وعاء السنة في القرن الأول فكيف يؤمن عليها النسيان، وأن يندس بين المسلمين من يتقول على الرسول؟ فنقول إجابة على ذلك: إن الصحابة وأكابر التابعين كانوا على علم بالكتاب، وكانوا أسبق الناس إلى الائتمار بأمره والانتهاء بنهيه، وقد علموا ما أوعد الله به كاتم العلم من لعن وطرد وإبعاد عن رحمة الرب، فكانوا إذا علموا شيئًا من سنن الرسول بادروا إلى تعليمه وإبلاغه خروجًا من التهمة، وابتغاءً للرحمة، فسرعان ما ينتشر بين الجماهير، فلئن نسي بعض منهم، فرب مبلغ أوعى من سامع، فمن البعد بمكان أن يضيع شيء من السنة أو يخفى على جمهور المسلمين، ولم يكن الصحابة يقبلون الحديث من كل محدث، بل علموا أن من الحديث محرمًا ومحللاً ومخطئًا ومصوبًا، وأن سبيل ذلك اليقين أو الظن الآخذ بأهدابه، لذلك تثبتوا في رواية الحديث جد التثبت، فكان لهم في الراوي نظرة، كما كانت لهم في المروي، وكان كثير منهم يأبى إلا شاهدًا معضدًا أو يمينًا حاسمة تميط لثام الشك عن وجه اليقين، فهذا أبو بكر الصديق كان أول من احتاط في رواية الحديث، روى ابن شهاب عن قبيصة (أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس فقال: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه) . وعمر بن الخطاب سنَّ للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب، روى الجربزي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلَّم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في أثره فقال: لم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سلم أخوكم ثلاثًا فلم يجب، فليرجع) قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك.
فجاء أبو موسى منتقعًا لونه، ونحن جلوس فقلنا: ما شأنك؟ فأخبرنا، وقال: فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم كلنا سمعه.
فأرسلوا معه رجلاً منهم حتى أتى عمر فأخبره.
وقال علي رضي الله عنه: كنت إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه محدث استحلفته، فإن حلف لي صدقته، وإن أبا بكر حدثني، وصدق أبو بكر. ولقد كان كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلون من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يدخلوا في الحديث ما ليس منه سهوًا أو خطأ، فينالهم من وصف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أولئك الزبير وأبو عبيدة والعباس بن عبد المطلب، وكانوا ينكرون على من يكثر من الرواية؛ إذ الإكثار مظنة الخطأ، والخطأ في الدين عظيم الخطر، فأنكروا على أبي هريرة كثرة حديثه حتى اضطر لتبرئة ساحته أن يبين السبب الذي حمله على الإكثار فقال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثًا، ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون. *** مبدأ تدوين السنة لما انتشر الإسلام، واتسعت البلاد، وشاع الابتداع، وتفرقت الصحابة في الأقطار، ومات كثير منهم، وقل الضبط - دعت الحاجة إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري إنها الأصل، فإن الخاطر يغفل والقلم يحفظ، فلما أن أفضت الخلافة إلى الإمام العادل عمر بن عبد العزيز كتب على رأس المائة إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عامله وقاضيه على المدينة: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء.
وأوصاه أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية [2] والقاسم [3] ، وكذلك كتب إلى عماله في أمهات المدن الإسلامية بجمع الحديث، وممن كتب إليه محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الوهاب بن شهاب الزهري المدني أحد الأئمة الأعلام، وعالم أهل الحجاز والشام [4] ، ثم شاع التدوين في الطبقة [**] التي تلي طبقة الزهري، فكان أول من جمعه بمكة ابن جريج [5] ، وابن إسحاق [6] ، أو مالك [7] والربيع بن صبيح [8] ، أو سعيد بن أبي عروبة [9] ، أو حماد بن سلمة [10] ، وسفيان الثوري [11] ، والأوزاعي [12] ، وهشيم [13] ، ومعمر [14] ، وجرير بن عبد الحميد [15] ، وابن المبارك [16] ، وكل هؤلاء بالقرن الثاني، وكان جمعهم للحديث مختلطًا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين. *** أشهر الكتب المؤلفة في القرن الثاني من أشهر الكتب المؤلفة في المائة الثانية الموطأ للإمام مالك بن أنس المدني إمام دار الهجرة [17] ، ومسند الإمام الشافعي [18] ومختلف الحديث له [***] ، والجامع للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني [19] ، ومصنف شعبة بن الحجاج [20] ، ومصنف سفيان بن عيينة [21] ، ومصنف الليث بن سعد [22] ، ومجموعات من عناصرهم من حفاظ الحديث، وعقال أوابده كالأوزاعي والحميدي [23] . ولما كان موطأ مالك أسير هذه الكتب ذكرًا، وأبعدها صيتًا، وأجلها قبولاً رأيت أن أفرد له فصلاً يجلي شأنه، ويوضح ما لاقاه من عناية الأمة وأئمة الدين. *** موطأ الإمام مالك درجة حديثه: قال الحافظ ابن حجر: إن كتاب مالك صحيح عنده، وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع [24] وغيرهما.
قال المحدث الدهلوي صاحب كتاب (حجة الله البالغة) : أما على رأي غيره، فليس فيه مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى، فلا جرم كانت صحيحة من هذا الوجه، وقد صنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج أحاديثه، ووصل منقطعه؛ مثل كتاب ابن أبي ذئب وابن عيينة والثوري وغيرهم ممن شارك مالكًا في الشيوخ، قال السيوطي في تقريبه نقلاً عن ابن حزم: أحصيت ما في موطأ مالك، وما في حديث سفيان بن عيينة، فوجدت في كل واحد منهما من المسند [25] خمسمائة ونيفًا مسندة وثلاثمائة مرسلاً، وفيه نيف وسبعون حديثًا قد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيها أحاديث ضعيفة وهَّاها جمهور العلماء. عناية الناس به: قد روى الموطأ عن مالك بغير واسطة أكثر من ألف رجل، وقد ضرب الناس فيه أكباد الإبل إلى مالك من أقاصي البلاد، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فما يجدون بأعلم من عالم المدينة) قال عبد الرزاق: هو مالك بن أنس.
رواه الترمذي، فمنهم المبرزون من الفقهاء كالشافعي ومحمد بن الحسن [26] ، وابن وهب والقاسم، ومنهم شيوخ المحدثين كيحيى بن سعيد القطان [27] ، وعبد الرحمن ابن مهدي [28] وعبد الرزاق بن همام [29] ، ومنهم الملوك والأمراء كالرشيد [30] وابنيه الأمين [31] والمأمون [32] ، وقد اشتهر في عصره حتى بلغ على جميع ديار الإسلام، ثم لم يأت زمان إلا وهو أكثر به شهرة وأقوى به عناية، وعليه بنى فقهاء الأمصار مذاهبهم حتى أهل العراق في بعض أمرهم، ولم يزل العلماء يخرجون حديثه ويذكرون متابعاته وشواهده [****] ، ويشرحون غريبه، ويضبطون مشكله، ويبحثون عن فقهه، ويفتشون عن رجاله إلى غاية ليس بعدها غاية. روى ابن سعد في الطبقات عن مالك بن أنس قال: لما حج المنصور قال لي: قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى غيره.
فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم، وروى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن أنس قال: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب.
فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله. روايات الموطأ: قال أبو القاسم بن محمد بن حسين الشافعي: الموطآت المعروفة عن مالك أحد عشر، معناها متقارب، والمستعمل منها أربعة: موطأ يحيى ابن يحيى، وموطأ ابن بكير، وموطأ أبي مصعب، وموطأ ابن وهب، ثم ضعف الاستعمال في الأخيرين، وبين الروايات اختلاف كبير من تقديم وتأخير وزيادة ونقص، ومن أكبرها وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب، فقد قال ابن حزم: إنها تزيد على سائر الموطآت نحو مائة حديث. *** شروح الموطأ ومختصراته ممن شرح الموطأ أبو مروان بن عبد الملك بن حبيب المالكي [33] ، وصنف الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر [34] كتابًا سماه: (التقصي لحديث الموطأ) وله كتاب (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) ، قال ابن حزم: هو كتاب في الفقه والحديث، ولا أعلم نظيره.
وكذلك شرح الموطأ أبو محمد عبد الله ابن محمد النحوي البطليوسي [35] ، والقاضي الحافظ أبو بكر محمد بن العربي المغربي [36] وسماه (القبس) ، ومما جاء فيه في وصف الموطأ: هذا أول كتاب ألف في شرائع الإسلام، وهو آخره؛ لأنه لم يؤلف مثله، إذ بناه مالك رحمه الله على تمهيد الأصول للفروع، ونبه فيه على معظم أصول الفقه التي ترجع إليه في مسائله وفروعه.
وممن شرحه جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي [37] وسمى شرحه (كشف المغطا في شرح الموطأ) ، ومحمد بن عبد الباقي الزرقاني المصري المالكي [38] شرحه شرحًا بسيطًا في ثلاثة مجلدات، وللموطأ مختصرات كثيرة، فمنها مختصر الإمام الخطابي أحمد بن محمد البستي [39] ، ومختصر أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي [40] ، وابن رشيق القيرواني [41] . (له بقية) ((يتبع بمقال تالٍ)) (*) رسالة صنفها الشيخ عبد العزيز الخولي الطالب في السنة النهائية لمدرسة القضاء الشرعي. (1) روى البيهقي في المدخل من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) . (2) توفيت سنة 98.
...
...
(3) توفي سنة 120.
...
(4) توفي سنة 124. (**) الطبقة في اصطلاح المحدثين عبارة عن جماعة اشتركوا في السن ولقاء المشايخ. (5) توفي سنة 150.
...
(6) توفي سنة 151.
...
(7) توفي سنة 179 بالمدينة. (8) توفي سنة 160.
...
(9) توفي سنة 156.
...
(10) توفي سنة 167 بالبصرة. (11) توفي سنة 161 بالكوفة.
(12) توفي سنة 156 بالشام. (13) توفي سنة 188 بواسط.
(14) توفي سنة 153 باليمن. (15) توفي سنة 188 بالري.
(16) توفي سنة 181 بخراسان. (17) توفي سنة 179.
...
(18) توفي سنة 204. (***) يطلق مختلف الحديث على الأحاديث المعارضة بمثلها في القوة، ويمكن الجمع بينها بغير تعسف. (19) توفي سنة 211.
...
(20) توفي سنة 160.
...
(21) توفي سنة 198. (22) توفي سنة 175.
...
(23) توفي في 219. (24) المرسل من الحديث: ما سقط من سنده الصحابي بأن يروي التابعي عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مباشرة، والمنقطع: ما سقط من أثناء سنده راو أو أكثر مع عدم التوالي. (25) المسند: مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال. (26) توفي الأول سنة 204 والثاني 189. (27) سنة 198.
...
...
(28) سنة 198.
...
...
(29) سنة 211. (30) سنة 193.
...
...
(31) سنة 198.
...
...
(32) سنة 218. (****) الحديث الذي ينفرد بروايته واحد يسمى غريبًا، فإن انفرد به في موضع واحد من الإسناد قيل للحديث: إنه فرد نسبي أيضًا، وإن كان في كل موضع منه سمي فردًا حقيقيًّا، فإذا وافق ذلك المفرد غيره في رواية ذلك الحديث عن نفس الصحابي الذي رواه عنه، قيل: إنه وجد للأول متابع، وإن وجد متن يشبه متنه وهو مروي عن صحابي آخر قيل للثاني: شاهد. (33) توفي سنة 239.
...
(34) سنة 463.
...
...
(35) سنة 521. (36) سنة 546.
...
...
(37) سنة 911.
...
...
(38) سنة 122. (39) سنة 288.
...
...
(40) سنة 474.
...
...
(41) 456.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢