أرشيف المقالات

بين عامين

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 سراب وأمل.
للأستاذ شكري فيصل - 1 - رجعت اليوم مبكراً إلى غرفتي المتواضعة في الضاحية النائية، في موكب من الوحدة والصفاء والانطلاق، فلم يعد يحلو لي أن أطوف في أرجاء المدينة، أو أذرع شوارعها العابسة بعد أن لفّتها الظلمة، وغيض منها النور، وكرهت نفسي هذا الرداء الأسود ذا النجوم الزرقاء الكابية الذي يضفونه على جنباتها الزاهية، فلم أجد إلا مصباحي وزاويتي.

أعوذ بهما من شر الظلام الحالك. جلست إلى جوار النافذة أرقب النهار المدبر.
لقد تجهمت السماء، وأخذت تودع ألقها الصافي، وانتشرت في أطرافها البراقع القاتمة كأنها نذر الليل الزاحف.

ولم يبق من الشمس إلا تلك الشعاعات الجريئة القوية التي أبت الهزيمة، وكرهت الفرار، فوهبت دمها القاني لهذا الطرف البعيد من الأفق كآخر ما تملك من فداء وتضحية!! لشد ما يأسرني الغروب.
.! إني لأجد له في نفسي أجمل الوقع.
أترى كان ذلك لأنه يذكرني آمالي الغاربة التي بددتها الريح وابتلعها اليأس؟ - 2 - كان كل من في الضاحية يتشح بالسكون، ويغرق في الصمت، ويدعو إلى التأمل.

هذه الأرض الحلوة الطيبة تضم ذراريها التي تفتحت عنها من الخضرة الزاهية، وتنام معها على هدهدة المساء؛ وهذا النخيل القائم، يرتكز إلى نفسه، كأنما ملَ هذا الانتصاب؛ والشارع الطويل الممتد، كأنما كان طريقاً في صحراء لا يقطعه إنسان، ولا تجوزه مركبة، ولا تخترقه سيارة؛ وهذه الخراف الصغيرة في أرض الجارة العجوز قد اطمأنت إلى حظيرتها الناعمة.

لم يبق أحد أو شيء.

إلا أنا.

أنا وهذه الساعة التي لا تني تتحدث وتتحدث. - 3 - واستغرقت في هذا التأمل، وأصغيت إلى هذا الحديث، وأحسست له معنى جديداً.
لقد كنت أستمع إليه في الصباح وعند الظهيرة وفي المساء، فلم يكن ليحظى بشيء من انتباهي إليه وإصغائي له، ولكنه يلقي إلي الآن معنى رهيباً أجد له في نفسي ألواناً من الصدى، وأنواعاً من التأثير، ثم هو يقترن إلى هذه الشعاعات الأخيرة الذاهبة في الفضاء فيكون معها شيئاً رائعاً ينفذ إلى أعماقي، ويستثير فيها الذكريات الجاثمة التي احتضنها الألم وغشاها الحزن. أيظل الإنسان رهن هذه اللفتات النفسية التي تصرفه عن دنياه، وتباعد بينه وبين أجوائه، وتقذف به في عوالم مواجة، وتطيح به هنا وهناك ألعوبة في يدها.
يذكر كل شيء وينسى كل شيء، ثم لا يخرج من هذا الذكر والنسيان بغير الابتسامة الفاترة أو النظرة القلقة أو الأمل المريض. وتثاءب الكون، فسرت في جسم الأرض نسمة هادئة اهتز معها العشب الأخضر، وانثنت لها أغصان النخيل ورقص قرص الشمس المضطرب في كبد الأفق وهو يغوص في بحر اللانهاية. - 4 - في هذه الساعة كانت تتمثل آخر معارك النور والظلمة على مشهد الكون.
لقد ظلت هذه المعارك أياماً كثيرة ما أطولها! لقد امتدت مع العام الراحل كله، تسجل غدر الزمان وغلبة الشر وتظهر هذا الإنسان المتفائل على مكاره الحياة ومصاعب الدهر، ولكنه يأبى إلا أن يسرف في التفاؤل، ويُغرق في الضحك، ويرى الحياة بعيني طفل غرير. وأصغيت من جديد إلى حديث الساعة، كما أصغي لوحي الحنين حين يهيج بي الشوق، وعجبت لنفسي كيف تأخذ على هذه التمتمات الخافتة كل مشاعري وانتباهي، أكان ذلك لأنها نشرت لعيني حديث الماضي، وطوفت بي في ثنايا العام، ووقفت بي عند هذه اللحظات من سنة خلت، حين كنت أرقب مطلع الشمس من ضمير الأفق ومنبت البذور في مغرس الأمل، وحياة النعيم في دنيا الشقاء؟ أم كان ذلك لأنها تريدني أن أعب من هذا النور المرتجف قبل أن يخنقه الظلام، وأتزود بهذه الحرارة قبل أن يودي بها العدم، وأشهد ساعة الوداع قبل أن يطغي الليل؟! سواء لدي الأمر فلقد أثرت أيتها الساعة القابعة في طرف الغرفة كل شجوني فاستفاقت على أنغامك العذبة ذكرياتي الغافية كما تستفيق جماعة الطير على أنداء الفجر، وتحركت نفسي الراكدة على نبراتك الساحرة كما تتحرك صفحة الماء في استقبال النسيم، وأحسست حرارة الحياة حين خضت على هدى منك هذا الفضاء الذي أخلفه ورائي في العام الراحل. لقد كنت أتجنب أن أنظر إليه، لأنه يرهبني أن أرى الزهرة الناظرة تذوي في الكهف المظلم، والبرعم الحلو ينطفئ في رطوبة الفناء، والشعلة المقدسة تخفت في مهب الريح العاتية. - 5 - في مثل هذه اللحظات من العام الماضي كنت اقتطفت هذه الزهرة من روضة الصبي فغرستها في أرض الحياة، وسقيتها بماء الأمل، وغذيتها بالأماني، وانتظرت ثمرتها الغضة.

ولكن الحياة التي ألفت الغدر وعشقت الشر، تريد أن تمنع عني الأريج وتحول بيني وبين الثمرة! وفي مثل هذه اللحظات من العام الفائت، حملت يداي المصباح الذي يستمد حرارته من دم القلب، ونوره من شعاع العقل، وطوّفت به أنشد الهدف وأرنو إلى الغاية.

ولكن السبيل ما تزال تملؤها العقبات، وتعترضها الحواجز، وأنا أمضي وأمضي.

ثم أجدني حيث كنت.

كأنما أدور حول محيط الدائرة دون أن أستطيع بلوغ مركزها، والمصباح يرف رفيف الأمل المنكسر، كأنما يظهرني على خفقات القلب الآيسة من هذا الطواف الممل.
وفي مثل هذه اللحظات أيضاً مددت يدي إلى الحياة، في نفسي السرور، وعلى وجهي البشر، وفي يميني الحق.

وانطلقت أصافحها، تملأني الثقة، ويزدهيني المستقبل، ولم أفطن لهذا العطاء الناعم الذي كان يكسو يدها ويربق عليها مظاهر الفضيلة.

ثم أدركت بعدُ أن القفاز يستر الشوك، وأن الشوك ينطوي على السم، وأن السم يكيد للحق ويخنق المستقبل. لقد أدركت الآن لماذا كان لدقات الساعة في هذه اللحظات مثل تلك الروعة وذاك الأثر.

لقد كانت توقع بنبراتها الهادئة رنين الأمل الهادي في قرارة اليأس، وتمثل حشرجات الأماني في صدر الزمن، وتبكي بنغمتها المؤثرة العام الراحل.

وكانت تستفزني أن أرفع بصري إلى السماء، وأدير نظري في الكون لأشهد هذا الوداع.
فما كنت أستطيع أن أرى شيئاً، فقد اختلط عليّ الأمل واليأس، كما يختلط قتام الليل بوضح النهار، وتساوى عندي الأمس واليوم، كما تساوى الماضي والمستقبل في عمر الدهر، وأحسست في نفسي فراغاً كبيراً ممتلئاً بكل شيء ويتسع لكل شيء.

يتجاوب فيه كل صدى، وترن فيه كل نغمة.

ثم تضيع فيه هذه الأشياء والأنغام والأصداء، كما تضيع هذه الأشعة في كهوف الأفق. - 6 - إني لأفتح عيني الآن فلا أرى شيئاً، لقد امتزجت في أذني الأصوات المنبعثة عن حداء الزمن، وضحك الأمل، وصعقات العاصفة، كما اختلطت في عيني الأنوار المنبعثة من جوف الماضي وغياهب الآتي، وصفحات الحاضر.

فما تغريني دقات الساعة لأن الزمن لم يعد شيئاً في حياتي، فقد أسفت للزمن، وما تبكيني الشجون، لأن اليقين قد طوى الألم، وما ينتابني القلق، لأن الإيمان يصرع الهواجس. سأقتطف الزهرة الجديدة من قلب الصبي الناعم.

وسأغرسها في رعاية الله وحنانه وبره، وستمتد يدي من جديد لتصافح ملائكة السمو والمجد، وسأحمل المصباح، يستمد نوره من الإيمان واليقين، وسأنشد الغاية رضى النفس، وسأقطف الثمرة، تباركها يد الله، وأحقق الهدف يهدي إليه نور الله.
في طرف الأفق، كانت تُغيب الأرض غلالة النور وفي كبد الجو كانت تطلع السماء أنوار النجوم، وتبعث شعاعاتها المهتزة على الأرض المكروبة، تبشرها بالنور الطالع والفجر القريب، وفي الحاشية البعيدة، كان يرقص خط دائر من النور.
لقد طلع الهلال، وولد العام، فعاشت معه آمال، وانتعشت أماني وضحكت نفوس. (القاهرة) شكري فيصل

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢