الفتيا بغير علم
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
الفتيا بغير علمقَالَ ابن وهب عن يونس عن الزهري: أن أبا بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حدث رجلًا بحديث فَاستَفْهَمَهُ الرجل فقَالَ الصديق هو: كما حدثتك، أيُّ أرض تقلني إذا قلت بما لا أعلم.
وروى نحوه من غير وجه عن أبي هريرة مرفوعًا: من أَفْتَى بفتيا غَير ثِبْتٍ فيها فإنما إثمه على الذي أفتاه، وفي لفظ: من أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه؛ رواهما أحمد.
وروى الثاني أبو داود، والأول ابن ماجه، وهو حديث جيد له طرق مذكورة في حواشي المنتقى.
وقَالَ الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قَالَ: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون، وقَالَ مالك: عن يحيى بن سعيد عن ابن عباس مثله.
وقَالَ الزهري عن خالد بن أسلم قَالَ: كنا مع ابن عمر فسأله أعرابي أَتَرِثُ العمة؟ فقَالَ: لا أدري، قَالَ: أنت لا تدري، قَالَ: نعم اذهب إلى العلماء فاسألهم، فلما أدبر الرجل قَبَّلَ ابن عمر يده فقَالَ: نِعْمَ ما قَالَ أبو عبد الرحمن سئل عما لا يدري فقَالَ: لا أدري.
وقَالَ سفيان بن عيينة والثوري عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قَالَ: أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إلا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ إيَّاهُ.
ولا يُسْتَفْتَى عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتوى.
هذا لفظ رواية الثوري، ولفظ ابن عيينة: إذا سئل أحدهم عن المسألة ردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول.
وقَالَ أبو حصين وعثمان بن عاصم التابعي: إن أحدكم يُفتى في المسألة ولو وَرَدَتْ على عمر لجمع لها أَهْلَ بَدْرٍ.
وقَالَ القاسم، وابن سيرين: لأن يَمُوتَ الرجل جاهلًا خير له مِن أن يقول ما لا يعلم، وقَالَ مالك عن القاسم بن محمد: إنَّ مِن إكرام المرء لنفسه ألَّا يقول إلا ما أحاط به علمه.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَيْلٌ لِمَنْ يَقُولُ لِمَا لا يَعْلَمُ: إنِّي أَعْلَمُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: مِنْ فِقْهِ الْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ: لا أَعْلَمُ فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يُهَيَّأَ لَهُ الْخَيْرُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا سَمِعْتُ مَالِكًا سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَجْلانَ يَقُولُ: إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ لا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ.
وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بنُ رَاهْوَيه عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ دَاوُد بنْ أَبِي الزُّبَيْر الزُّبَيْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَجْلانَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَكَرَهُ وَقَدْ سَبَقَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْئًا فَأَجِبْنِي.
فَقَالَ: إنْ يَكُنْ فِي نَفْسِك مِنْهَا مِثْلُ أَبِي قُبَيْسٍ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ فِي نَفَسِي مِنْهَا مِثْلُ الشَّعْرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَطَالَ تَرْدَادُهُ إلَيْهِ فِيهَا وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ يَا هَذَا إنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ إلا فِيمَا أَحْتَسِبُ فِيهِ الْخَيْرَ وَلَسْتُ أُحْسِنُ مَسْأَلَتَكَ هَذِهِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: الْعَجَلَةُ فِي الْفَتْوَى نَوْعٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْخُرْقِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لا يَكَادُ يُفْتِي فُتْيَا وَلا يَقُولُ شَيْئًا إلا قَالَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي وَسَلِّمْ مِنِّي.
ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَلا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَنْ يُفْتِي يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْفَتْوَى لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ وَلا يَعْلَمُ النَّاسَ ذَلِكَ مِنْهُ.
فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إفْتَاءُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِلا إشْكَالٍ فَهُوَ يُسَارِعُ إلَى مَا يَحْرُمُ لا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيَا.
وَأَمَّا السَّلَفُ فَكَانُوا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ خَوْفًا وَلَعَلَّ غَيْرَهُ يَكْفِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ أَدْنَى لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: الَّذِي يُحَدِّثُ بِالْبَلْدَةِ وَبِهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ أَحْمَقُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى شَهِدَ لِي سَبْعُونَ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَسَحْنُونٌ أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا.
وقَالَ سَحْنُونٌ: أَشْقَى النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ.
وَقَالَ: فِتْنَةُ الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: أَدْرَكْتُ الْفُقَهَاءَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يُجِيبُوا فِي الْمَسَائِلِ وَالْفُتْيَا حَتَّى لا يَجِدُوا بُدًّا مِنْ أَنْ يُفْتُوا.
وَقَالَ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْفُتْيَا أَسْكَتُهُمْ عَنْهَا وَأَجْهَلُهُمْ بِهَا أَنْطَقُهُمْ فِيهَا.
وَبَكَى رَبِيعَةُ فَقِيلَ مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: اُسْتُفْتِيَ مَنْ لا عِلْمَ لَهُ.
وَقَالَ: وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَا هُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنْ السُّرَّاقِ.
وقَالَ بعضُ العلماءِ لِبَعْض المفِتين: إذا سُئِلْتَ عن مسألة فلا يكن هَمُّكَ تَخْلِيصَ السَّائلَ، ولكن ليكُنْ هُمُّكَ تخليصَ نفسِكَ.
وقَالَ عمرو بن دينار لما جلس قتادة للفتيا: تدري في أي عمل وقعت؟ وقعت يا قتادة بين الله وبين خلقه، وقلت: هذا يصلح، وهذا لا يصلح.
وقَالَ بعضهم: إن العالم داخل بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.
وكان ابن سيرين إذا سئل عن الشيء من الحلال والحرام، تغيَّر لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.
وكان النخعي يسأل فتظهر عليه الكراهة ويقول: ما وجدت أحدًا تسأله غيري.
وقَالَ آخر: إذا سئلت عن مسألة فتفكر فإن وجدت لنفسك مخرجًا فتكلم وإلا فاسكت.
وعن مالك: أنه كان إذا سئل عن المسألة كأنه واقف بين الجنة والنار.
وقَالَ النخعي: قد تكلمتُ ولو وجدت بدًّا ما تكلمت، وإن زمانًا أكون فيه فقيه أهل الكوفة لزمان سوء.
وقَالَ ابن عيينة: ليس هذا الأمر لمن ود أن الناس احتاجوا إليه، إنما هذا الأمر لمن ود أنه وجد من يكفيه.
وسئل عمر بن عبد العزيز عن مسألة فقَالَ: ما أنا على الفتيا بِجَري.
اللَّهُمَّ أحْينا في الدنيا مؤمنينَ طائعينَ وتوفَّنا مسلمينَ تائبينَ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.