أرشيف المقالات

الوقفات المختصرة في المرحلة المدنية من السيرة النبوية

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
الوقفات المختصرة في المرحلة المدنية من السيرة النبوية
 

أخي القارئ الحبيب المبارك، سبق وقد كتبتُ وقفاتٍ مختصرةً للسيرة النبوية في المرحلة المكِّية، وتم نشرها في شبكتنا شبكة الألوكة المباركة، والآن سأكتب وقفات للمرحلة المدنيَّة، وعمر هذه المرحلة عشرُ سنوات مباركات، آملُ أن تكون وافيةً وكافية، وآمل أن تكون لي حسنات أجدُها في صحيفة عملي يوم أن ألقى ربي، ولم أكتب هذه الكلماتِ، ولم أسطِّر هذه العبارات، إلا من أجل حبي لهذا النبيِّ الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، أرجو أن يكون شفيعي، كما أرجو أن أكون في مجاورته وسكني قريب من بيته، وهذه رحلة في تسطير كلمات مختصرة لسيرة عطرة مستعينًا بربي الكريم الرحيم، سائلًا إياه التوفيق والإعانة.
 
• قبل انطلاقة الهجرة المباركة إلى المدينة النبوية، تمَّت بيعتَا العقبةِ، شهد الأولى اثنا عشر رجلًا، وشهد الثانيةَ ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان، وقال ابن الصامت رضي الله عنه: "بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في عُسْرنا ويُسْرنا، ومنشطِنا ومكرهِنا، وأَثَرة علينا، وألا ننازعَ الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا، لا نخافُ في الله لومة لائم"، فكانت البيعتان أساسَ الانطلاقة لعصر جديد، وقوة وتمكينًا للإسلام القويم.
 
• أذِن صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى عاصمة الإسلام الأولى؛ إلى المدينة النبوية؛ فبدأت قوافل المهاجرين تنطلق امتثالًا لأمره صلى الله عليه وسلم، تاركةً خلفها كلَّ ملذات الدنيا وزخرفها الفاني، وبهذا خلَت معظم دُور مكة من أصحابها.
 
• في هذه الهجرة دروسٌ وتدابير قيادية بحُنكةٍ نبويَّة، تدعو كلَّ من أراد أن يكون قائدًا أن ينظر بدقةٍ متناهيةٍ إلى الأساليب التي توصل إلى برِّ السلامة، والخطوات الثابتة الهادئة التي تقود إلى نهاية الطريق بنجاحٍ، وإفشال كل خططِ العدوِّ وإبطال كيدِه.
 
وفي هذا دعوةٌ إلى وضع الخطط المدروسةِ في أي مجالٍ تريد أن تُبدِع فيه؛ لتَصِلَ فيه إلى تحقيق رغباتك، ولكي تتلذَّذ بنشوة النجاح، هامسًا في آذان كلِّ من هم حولك بأنك وصلت إلى القمة بفضل الله أولًا، ثم بفضل التخطيط والهمة والعزيمة والإرادة الصادقة القوية.
 
((ما أطيبَك من بلد، وأحَبَّك إليَّ! ولولا أن قومي أخرجوني منك، ما سكنتُ غيرَكِ)): كلمات نبوية تدعو العقلاء لاحترام الأوطانِ، وحب الانتماء، لا كما يزعم الجهلاء المعارضون الناقمون.
 
• أعداء الدين يخطِّطون بقوة ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا من أجل أن يُطفئوا نور الله بأفواههم وأقلامهم ومواقفهم وتغريداتهم في كل زمان ومكان، واعلموا أن حقدَهم وعداوتهم مستمرَّة ما تعاقب الليل والنهار، واعلموا أيضًا أنهم لم يسمعوا بتدبُّر قول الله عز وجل: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81].
 
• استعرضوا كلَّ السير، واستعرضوا كل المواقف، وانظروا إلى ذلكم الحب الذي يتدفَّق من قلوب المحبِّين صحابة الرسول الكريم رضوان الله عليهم أجمعين، فلقد بذلوا التضحيات بكل أنواعها إثباتًا وتسطيرًا لمعنى الحب الحقيقيِّ، مؤمنين بقول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، لا كما يزعمُ أصحاب الشعارات البرَّاقة، والعبارات الرَّنانة التي يطبِّلون بها في كل المحافل؛ لدَغْدغة العواطف التي سُلبت من المعنى الحقيقي للاتباع والاقتداء الشرعي باسم الحبِّ أيضًا كما يزعمون.
 
• "يا معشرَ العرب، هذا جدُّكم الذي تنتظرون": فرح عظيم عمَّ الكون بمَقدَمِه بعد شوق وانتظار، ضجَّ المكان بأهازيج الترحيب، جاء محمدٌ، جاء رسول الله، الله أكبر! جاء محمد! الكل فَرِحٌ مسرور، والكل يرغب في نزول الحبيبِ صلى الله عليه وسلم دارَه، ويَحظَى بهذا الشرف الكبير؛ فناله أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: ((المرء مع رَحْله)).
 
• دخل المدينة فبنى مسجدَ قباء، ثم شرع في بناء مسجدِه صلى الله عليه وسلم، فكان المسجد منارةً للعلم والتعليم، ومكانًا لإيواء الضعيف والفقير والأسير، ومكانًا لاستقبال السفراء والوفود، وانطلاق الجيوش والبعوث.
 
• تأملوا المواقف الخالدة التي سطَّرها الأنصار في مؤاخاة المهاجرين، وهذا كله من أجل لُحمة المجتمع، والانخراط في الحياة بلا تفرقة ولا عنصرية، وهو درسٌ عملي لتقويةِ الوطنية وربطها بالدين الحنيفِ والعقيدة الإسلاميَّة، ثم تمَّ كتابة دستور وثيق يضمن لكل أطياف وفئات المجتمع العيش في وطن واحد في نظام متكامل لدولة إسلامية قادمة، تقبل التعايش السلميَّ والاستقرار الأمني.
 
• شرع الله جهادَ الأعداء؛ فكان الإذن بالقتال ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39]، فانطلقت السرايا، وانطلقَت الغزوات، ومن يقرأ صفحاتِ هذه الغزوات والسرايا يعلم مدى بذل التضحياتِ، وسكب الدماءِ من أجل هذا الدين، وحماية ونصرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كلُّ هذا سجَّله لنا التاريخ، ومع هذا نجدُ مَن يتطاول في زماننا ويتنقَّص قدرَ صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم من الأقزام النَّكِرات الذين يحاولون أن يغطُّوا الشمس بغربال؛ شاهت وجوههم! ولا حول ولا قوة إلا بالله! وحسبنا الله ونعم الوكيل.
 
• في كل سرية من السرايا دروسٌ نتعلَّم منها، وفي كل غزوة من الغزوات دروسٌ نتعلم منها أيضًا، كما أنَّ هناك مواقفَ مشرفة خلَّد ذكرها التاريخُ من هذا الجيل الطاهر والفريد من نوعه، علموا ما هو الإسلام ظاهرًا وباطنًا، علِموا لبَّ الإسلام وقشوره؛ فعملوا بما علموا، وطبقوا ونشروا الإسلام قولًا وعملًا فسادُوا، قدموا الخبرة والمشورة في خدمة الدين ونشر الإسلام، ودافعوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في كلِّ موقف عصيبٍ، وفَدَوْه بأموالهم وأنفسهم؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم، وكان تأييد الله عز وجل لنبيه وصحابته ملموسًا في كل الغزوات والسرايا التي انتهت في جُلِّها بالنصر والتمكين.
 
• لعب المنافقون في زمان الصفوةِ جولاتٍ وجولات، فلا يخفى على ذي لبٍّ حكيم خطرُهم، مع وجوب الحذر منهم، وأخذ الحيطة من أساليبهم ومخططاتهم، لم يسلَم أهل الإسلام من أذى أفعالهم؛ ففي غزوة أُحُد رجعوا بثُلثِ الجيش، ولم يسلَم أهل الإسلام من أذى أقوالهم؛ فقالوا - وبئس ما قالوا -: "إن الله لغني عن صدقة هذا! وما فعل هذا الآخر إلا رياءً"، ﴿ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ﴾ [التوبة: 81]، وقال آخر منهم: ﴿ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي ﴾ [التوبة: 49]، وهدفهم الوحيد تثبيطُ الهمم بحججٍ واهياتٍ؛ وتحيُّن الفرص تلو الفرص للتخذيل وشقِّ الصف، وهم في كل وقت ومكان يتجددون ويظهرون بما يناسب الحدَث والزمن، كفى الله أهل الإسلام شرَّهم ومكرهم وأذاهم.
 
• "فاستمسك بغرزه": كلمة صدح بها في وقت عصيب سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لامسَت أُذُن سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه، ووصلت إلى شَغاف قلبِه؛ فارتاحت بها نفسه وهدَأَتْ، وعاد بها إلى سواء السبيل "فلم تَطِبْ نفس عمر إلا عندما نزل القرآن مبشرًا بالفتح"، فرُبَّ كلمةٍ صادقةٍ خرجت من قلبٍ صادقٍ تلامسُ روحًا يُحيها الله عز وجل، وترى الحق وتموت عليه.
 
((سَهُلَ أمركم)): التفاؤلُ في حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يعلِّمُه صحابته، وهو درس لأمَّتِه، فمهما عصفت العواصفُ واشتدت الخُطوب، فمن رَحِم تلكم الظلمات يُولد النورُ من جديد، فعندما جاء سهيل بن عمرو رضي الله عنه لعقد صلح الحديبية - وكان مشركًا حينها - قالها الحبيبُ صلى الله عليه وسلم يبعث بها الأملَ في القلوب والنفوس إلى شهر ذي القعدة من العام القادم لأداء عمرة القضاء.
 
• كتب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتبًا إلى الملوك والأمراء والزعماء يدعوهم إلى الإسلام، فأسلَمَ القليل، ولم يُسلم الكثير؛ بل هناك من مزَّق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَن غضب وأراد الزحف للقتال، وما دعاهم إلى ذلك إلا الكِبرُ والجبروتُ وحبُّ السلطة التي أعمَتْ قلوبَهم عن سماحة الإسلام؛ وأنه دين حنيفٌ عالمي.
 
• "اذهبوا؛ فأنتم الطُّلقاء": كلمات صدَح بها الرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه في مشهد مهيب وترقُّبٍ من القوم بجوار الكعبة المشرفة، إنها القوة التي شَهِد بها التاريخ وسجَّلها في رحمة الإسلام ونبيِّ الإسلام، فمتى يَعْقِل أصحابُ العقول والنُّهَى؛ ليتعرَّفوا بأنفسهم على الإسلام ونبيِّه الرحيم؛ ليدخلوا في دين الله أفواجًا.
 
• "رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا": كلمات ممزوجةٌ بالدموع من أعين الأنصار الصادقة؛ فرحًا بهذه الغنيمةِ بعد معركة ساخنة في غزوة حُنينٍ بعد أن وزَّع صلوات الله وسلامه عليه الغنائم بين المهاجرين والمؤلَّفة قلوبهم، فهنيئًا لهم هذا الحظ الكبير، والقسم المبارك الكثير.
 
• على المربِّين أن يتعلموا من المربي الأول طريقةَ التعامل مع كل الأطياف؛ فالتربية صعبة لكن نتائجها مُرْضية، فبعد أن قالت الأعراب: "يا محمد، اعْدِل"، وقول الآخر: "مُرْ لي من مال اللهِ الذي عندك" - ما وَسِعَه صلى الله عليه وسلم إلا أن ضحك وأمر لهم بعطاء، وهذه هي تربية الكبار العظماء.
 
• إلى أولئك المتشدِّقين بأن الإسلام انتشر بالسيفِ، تعالوا واقرؤوا تلكم السطورَ في تلكم المغازي، وانظروا إلى الرحمة الكاملة والرَّأْفة التامَّة، لقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهداية لمن حاربَه وقتل أصحابَه في غزوة الطائف، وهو من قال داعيًا: ((اللهم اهدِ دَوْسًا))، وانظروا إلى تلكم الوفودِ التي جاءت إلى المدينة لمبايعة رسول الأمة صلى الله عليه وسلم؛ فهذا أكبرُ دليل على أدب ورحمة هذا الإسلام، وتأملوا قولَه صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتاكم كريمُ قوم فأَكرِموه))، وعندما أرسل البعوث قال لهم: ((يَسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا))، ثم عودوا إلى قراءة خطبة حجَّة الوداع بتمعُّن وبدقة متناهيةٍ؛ لترَوْا عمقَ أدبيات هذا الإسلام العظيم.
 
• هناك فئةٌ ممن تَنتسِب إلى أمَّة الإسلام أساؤوا فهم هذا الدين القويم؛ فشوَّهوا صورتَه الناصعة، والإسلام منهم براء، إنما شوهوا أنفسهم بأنفسهم، ونتيجة أمرهم هذا إلى خسارٍ وبوارٍ في الدنيا، وشَنَار وحساب في الأخرى، والعاقل اللبيب من يميِّز الحق من الباطل، ويستقي من المنابع الأصيلة ليرتويَ الحقيقة السليمة، فلا يسعهم إلا أن يؤمنوا بفساد كلِّ من وقف للتضليل والصدِّ عن اللَّحاق بركب المسلمين الكبير.
 
• أنشد كعب بن زهير بعدما كان يهجو الحبيبَ المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله:






إن الرسولَ لنورٌ يُستضاء به
مُهنَّدٌ من سيوف اللهِ مسلولُ


في فتيةٍ من قريشٍ قال قائلُهم
ببطن مكة لما أسلَموا زُولوا







فابحثوا عن النور الذي يخفيه أعداء كلِّ زمان خلف الظلماتِ، ستجدونه لا محالةَ ساطعًا؛ لتستنيروا به عمرَكم الباقي؛ لتلاقوه على الحوض المورود؛ فتنالوا شفاعتَه ومجاورته يومَ العرضِ والنشور.
 
• في تجهيز جيشِ العُسرة مواقف مشهودة، فهذا موقف منها: ((ما ضرَّ ابنَ عفَّان ما عمل بعد اليوم))، وهكذا هو حال الصالحين في كل زمان يُقدِّمون التضحيات والنفقات من أجل نصرة الإسلام وأهله، حتى بلغ الحال ببعضِهم أن تصدَّق بعِرضه عمَّن نال منه من الخلقِ، وبلغ بالبعض البكاء لعدم وجود ما ينفقُه وما يتبلَّغ به من أجل النصرة وإجابة نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوم آخرون نالوا الأجورَ بمجرد صدقِ النيات الحِسان، وهم في دُورهم آمنين.
 
• وفي العام العاشر من الهجرة النبويَّة كانت حجَّة الوداع؛ وهي الحجة الوحيدة التي حجها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي ودَّع فيها أصحابه وأتمَّ لهم شرائع الإسلام القويم، ففي يوم عرفة تلا عليهم قول الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، خطبهم خطبة مؤثرة بليغةً، وأوصى أمَّته بوصايا لخَّص لهم فيها نظام الإسلام وتعاليمه؛ فكانت مختصرةً جامعة فيها السعادة لمن عمل بها وامتثلها.
 
• وآخر هذه الوقفات أنه في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول مات الحبيبُ صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاثة وستون عامًا بعد ما لقيه من سمِّ الشاة، وبعد ما لقي من حرارة الجسد؛ وما لقيه من سكرات الموت، فداه أبي وأمي! ففي صبيحة هذا اليوم مات الحبيب صلى الله عليه وسلم بعد أن ودَّع أصحابه، وتبسَّم لهم وهم يصلون الصبحَ، وكانت ابتسامة الرضا! ثم ضجَّت المدينة بالخبر العظيم، والخَطْبِ الجليل بوفاة الحبيب؛ فكانت كلمات فاطمة الزهراء رضي الله عنها: "يا أبتاه، أجاب ربًّا دعاه! يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه! يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه! " هي بداية انطلاقة الخبر، نعم لقد شاع الخبر،؛ فمن الصحابة من صدَّق الخبر، ومنهم من أنكر الخبر، كانت لحظات الوداع والفراق مؤثِّرة، بكى فيها الصحابة رضي الله عنهم! قبَّل الصحابة الرسولَ الكريم وغسَّلوه وكفَّنوه ودفنوه، فكان منها رضي الله عنها أيضًا كلمات نهاية مشهد الرحيل المصحوب بالألم الشديد "أطابَتْ أنفسُكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟!".
 
وأظلمَتِ المدينة! نعم أظلمَت المدينة، فكما قال أنس رضي الله عنه: "لما كان اليوم الذي دخَل فيه رسولُ الله المدينة، أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه، أظلَم منها كلُّ شيء، وما نفَضْنا أيديَنا عن التراب وإنا لفي دفنه حتى أنكرْنا قلوبنا!"، لكن نور سنَّته ما زال ساطعًا في الآفاق، ومنهجه ما زال لمحبيِّه ومتبعيه دستورَهم ومنهاجهم الذي يسيرون عليه إلى أن تقوم الساعة.
 
لقد جمد حبرُ قلمي عن الكتابة، وتحجَّر دمع عيني في مقلتِه، عدت إلى المشهد وتأمَّلته والدمع يَذرفُ والقلب ينزف، تذكَّرت فِراقَه، تذكَّرت حال المحبِّين عند جثمانه الطاهر، تذكَّرْت ذهولَ الفاروق رضي الله عنه ولم تحمِله قدماه؛ فسلَّ سيفه لمن يذكر أن محمدًا قد مات، بل ذهب للقاء ربِّه كما ذهب موسى عليه السلام من قبل، بكَتِ المدينة كلُّها وضجَّت بالبكاء، وأختم هذا المشهدَ المهيب بما أنشده حسَّان رضي الله عنه قائلًا:






فبَكِّي رسولَ الله يا عينُ عبرةً
ولا أعرَفَنْك الدهرَ دمعُكِ يجمُدُ


وما لكِ لا تبكين ذا النعمةِ التي
على الناسِ منها سابغٌ يتغمدُ


فجُودي عليه بالدموعِ وأعولي
لفَقْدِ الذي لا مثله الدهر يوجدُ


وما فقَدَ الماضون مثلَ محمدٍ
ولا مثله حتى القيامة يُفقدُ







• ها هو مداد قلمي يقفُ في ختام هذه السيرة الطاهرة الحافلة بحياة عامرة بالدعوة والجهاد في تبليغ الرسالة الإلهية، وما أملكُ إلا أن أقول لمن قرأ هذه السطور:
يجب عليكم أيها المسلمون أن تعودوا إلى هذه السيرةِ المضيئة، وتتعلموا منها، وتطبِّقوا ما كان عليه ذلكم الجيلُ الفريد؛ لتصلوا إلى ما وصلوا إليه من العزِّ والتمكين والمجد الرفيع، واعلموا أن هذه السيرة النبوية المباركةَ ما زال فيها الكثيرُ والكثير من الدروس في كل الفنون، وما زال بمقدورِ كل كاتبٍ أن يستخرج منها دررًا مكنونة، وجواهرَ مكنوزة.
 
وعلى غير المسلمين أن يقرؤوا هذه السيرة؛ ليعلموا علمَ اليقين بأنفسهم خلافَ ما وصلهم من تشويهٍ وتضليل للأفهام نتَج عنه رسومٌ وسموم، ولن يسعكم حينها إلا أن تقفوا أمامَ قبره وقفة إجلالٍ وتعظيم ممزوجة بدمعات الأسف والتوبة، فالباب ما زال مفتوحًا، والخيار إليكم، ونحن بانتظاركم.
 
كما أدعو في نهاية هذا المداد من الوقفات أن يقومَ من له دراية بالترجمة إلى جميع اللغات لترجمة هذه الوقفات في كلا المرحلتين؛ لتصلَ إلى كل الناسِ من كل الألوان والأصناف والأجناس واللغات؛ لعلها تغيِّر مسارهم واتجاههم؛ فتكون بها نجاتهم وفلاحهم وفوزهم.
 
يا إلهي، كتبت هذه الكلمات لسيرة خير الأنام صلى الله عليه وسلم، كتبتها في مهاجره الكريم؛ كتبتها في مدينته النبوية المباركة، يا إلهي، أرجو بها النجاةَ، يا إلهي، أرجو بها الشفاعة الكبرى، يا إلهي، أرجو بها الشربَ من الحوض الشريف، يا إلهي، أرجو بها دخولَ الفردوس الأعلى من الجنان بغير حساب ولا سابقة عذاب، يا إلهي، أرجو بها الجوارَ بصحبة المختار والآل والصحب الكرام، ووالدي وكل مسلم على نهج الحبيب سار، وصلِّ اللهم وسلِّم عليه كلما ذكره الذاكرون الأبرار الأخيار، وصلِّ اللهم وسلِّم عليه كلما غفَل عن ذكره الغافلون، والحمد لله رب العالمين.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢