أرشيف المقالات

مواقف من إيثار الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
مواقف من إيثار الصحابة رضي الله عنهم
للنبي صلى الله عليه وسلم
 
مقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد:
في مقال سابق سبق الحديث عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الإيثار، وفي هذا المقال يدور الحديث عن مواقف من إيثار الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
 
لقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم صحابة كرام عدول، عزروه ونصروه، وآثروه على أنفسهم وأولادهم وآبائهم وأمهاتهم وأموالهم، وضحوا بكل غال ونفيس في سبيل طاعة الله تعالى، وحبًّا لرسوله صلى الله عليه وسلم، ففازوا بكل فضيلة وسبقوا غيرهم بكل مفخرة، وقد أثنى الله تعالى عليهم، فقال تعالى: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9].
 
قال ابن أبي حاتم: "أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين شهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونصرته وإقامة دينه، وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة، وجعلهم لنا أعلامًا وقدوة"[1].
 
وسطرت كتب السير مدى إيثار الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد صحبوه، ولم يفارقوه في حضر ولا سفر، وهذه بعض من مواقف إيثار الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم:
أولًا: الإيثار بالنفس:
وهو أنبل أنواع الإيثار، قال الشاعر:
يجود بالنفس إن ضنَّ البخيل بها *** والجود بالنَّفس أقصى غاية الجود
 
بلغ من إيثار أبي بكر رضي الله عنه وخوفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريق الهجرة، أنه كان يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا أبا بكر، ما لك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟))، فقال: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد، فأمشي بين يديك، فقال: ((يا أبا بكر، لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟))، قال: نعم، والذي بعثك بالحق، ما كانت لتكون من ملمة إلا أن تكون بي دونك، فلما انتهيا إلى الغار، قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله، حتى أستبرئ لك الغار، فدخل واستبرأه حتى إذا كان في أعلاه، ذكر أنه لم يستبرئ الحجرة، فقال: مكانك يا رسول الله، حتى أستبرئ الحجرة، فدخل واستبرأ، ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل [2].
 
وخاطر أبو طلحة رضي الله عنه بنفسه يوم أحد، وفدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أنس رضي الله عنه، قال: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلًا راميًا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاث، وكان الرجل يمر معه بجَعبة من النبل، فيقول: ((انثرها لأبي طلحة))، قال: ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي، لا تشرف، يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك[3].
 
قال الشاطبي: "ما جاء في خصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وقوله: "نحري دون نحرك"، ووقايته له حتى شَلَّتْ يدُه، ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم...
أنه كان وقى بنفسه من يعم بقاؤه مصالح الدين وأهله"[4].
 
ثانيًا: الإيثار بالفداء بالأهل:
ضرب الصحابة الكرام رضي الله عنهم أروع الأمثلة في إيثار وفداء النبي صلى الله عليه وسلم، وتقديمه على الآباء والأمهات؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، فقال: «إن عبدًا خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده»، فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به[5].
 
وقال عروة: كانت عائشة تكره أن يُسب عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال:
فإن أبي ووالِدهُ وعرْضي *** لعرضِ مُحمدٍ منكم وقاءُ[6]
 
وجاءت امرأة من الأنصار من بني دينار أُصيب زوجها وأخوها يوم أحد، فلما نعوا لها، قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشاروا لها إليه حتى إذا رأته قالت: "كل مصيبة بعدك جلل"[7]؛ أي: هينة وصغيرة.
 
ولم يحرم الله تعالى من حرم من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ورؤيته من أن يتمني رؤيته، وهذا دليل على صدق محبته، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أشد أمتي لي حبًّا، ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله))[8] ؛ قال المناوي: "أي: يتمنى أحدهم أن يكون مفديًا لي بأهله لو اتفق رؤيتهم إياي ووصولهم إلي"[9].
 
ثالثًا: إيثار الرسول صلى الله عليه وسلم على كل شيء:
خرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بدرٍ، حتَّى إذا كان بالرَّوحاءِ، خطب النَّاسَ فقال: كيف ترون؟ فقال أبو بكرٍ: يا رسولَ اللهِ، بلغنا أنَّهم بمكانِ كذا وكذا، قال: ثمَّ خطب النَّاسَ، فقال: كيف ترون؟ فقال عمرُ مثلَ قولِ أبي بكرٍ، ثمَّ خطب النَّاسَ، فقال: كيف ترون؟ فقال سعدُ بنُ معاذٍ: يا رسولَ اللهِ، إيَّانا تريدُ؟ فوالَّذي أكرمك وأنزل عليك الكتابَ، ما سلكتُها قطُّ ولا لي بها علمٌ، ولئن سرتَ حتَّى تأتيَ بِرْكَ الغِمادِ من ذي يمنٍ لنسِيرَنَّ معك، ولا نكونُ كالَّذين قالوا لموسَى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، ولكن اذهبْ أنت وربُّك فقاتِلا إنَّا معكما لمتَّبعون، ولعلَّك أن تكونَ خرجتَ لأمرٍ، وأحدث اللهُ إليك غيرَه، فانظُرِ الذي أحدث اللهُ إليك، فامضِ له، فصلْ حبالَ من شئتَ، واقطعْ حبالَ من شئتَ، وعادِ من شئتَ، وسالِمْ من شئتَ، وخذْ من أموالِنا ما شئتَ...[10].
 
رابعًا: الإيثار بالمال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف في مال أبي بكر كما يتصرف في مال نفسه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمنَّ الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر))[11].
 
قال القاضي عياض:" قوله: إن أمنَّ الناس علي: معناه: أكثرهم جودًا وسماحة لنا بنفسه وذات يده"[12].
 
وعندما اجتمع بعض الأنصار وقالوا: آثر علينا صلى الله عليه وسلم غيرنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجمعهم، ثم خطبهم، قال أنس: لما كان يوم فتح مكة، قسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بين قريش، فغضبت الأنصار، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم))، قالوا: بلى، قال: ((لو سلك الناس واديًا أو شعبًا، لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم)) [13].
 
الإيثار بالطعام:
عن أحداث طريق الهجرة قال أبو بكر رضي الله عنه: ((...
خرجنا ليلًا، فأحثثنا ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة، ثم رفعت لنا صخرة، فأتيناها ولها شيء من ظل، قال: ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة معي، ثم اضطجع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع قد أقبل في غنيمة يريد من الصخرة مثل الذي أردنا، فسألته: لمن أنت يا غلام؟ فقال: أنا لفلان، فقلت له: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت له: هل أنت حالب؟ قال: نعم، فأخذ شاة من غنمه، فقلت له: انفض الضرع، قال: فحلب كثبة من لبن، ومعي إداوة من ماء عليها خرقة، قد روأتها لرسول الله، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، ثم أتيت به النبي، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت، ثم ارتحلنا والطلب في إثرنا)
)
[14]، قال النووي: "قوله: فشرب حتى رضيت": معناه شرب حتى علمت أنه شرب حاجته وكفايته"[15].
 
ومواقف إيثار الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم بالطعام كثيرة، منها حديث المقداد رضي الله عنه في صحيح مسلم": محمد يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم ما به حاجة إلى هذه الجرعة" [16].
 
قال الهروي: "أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الأنصار؛ أي: يذهب إلى بيوتهم بعد العشاء، فيتحفونه؛ أي: يكرمونه ويضيفونه، ويصيب؛ أي: يصيب ويشرب ويطعم عندهم" [17].
 
الإيثار بالثوب:
امرأة أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بردة، فقبَّلها النبيُّ جبرًا لخاطرها، عن سهل بن سعد، قال: جاءت امرأة ببردة، قال سهل: هل تدري ما البردة؟ قال: نعم، هي الشملة منسوج في حاشيتها، قالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره، فجسها رجل من القوم، فقال: يا رسول الله، اكسنيها، قال: ((نعم))، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إياه، وقد عرفت أنه لا يرد سائلًا، فقال الرجل: والله ما سألتها إلا لتكون كفني يوم أموت، قال سهل: فكانت كفنه[18].
 
وجملة القول أنه من الواجب علينا أن نتأدب بأدب الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وأن نجتهد في أن نسير على دربهم، لعلنا نقتفى أثرهم، فنسيرُ على نهجهم.
 
نسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل، وأن يجعله ذخرًا لي ولكم يوم نلقاه، وأن يرزقنا وإياكم محبة الله ورسوله، وصحابته الكرام رضي الله عنهم.



[1] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 7).


[2] المستدرك على الصحيحين للحاكم (3/ 7)، قال الذهبي: صحيح مرسل.


[3] صحيح البخاري (5/ 97)، صحيح مسلم (3/ 1443).


[4] الموافقات (3/ 92).


[5] صحيح البخاري (5/ 57)، صحيح مسلم (4/ 1854).


[6] صحيح البخاري (5/ 117)، صحيح مسلم (4/ 2137).


[7] دلائل النبوة للبيهقي (3/ 302).


[8] صحيح مسلم (4/ 2178).


[9] التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 380).


[10] أشار أحمد شاكر إلى صحته وهو مرسل عند ابن حجر.


[11] صحيح البخاري (5/ 57)، صحيح مسلم (4/ 1854).


[12] إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 383).


[13] صحيح البخاري (5/ 158).


[14] صحيح البخاري (5/ 64).


[15] شرح النووي على مسلم (13/ 179).


[16] صحيح مسلم (3/ 1625).


[17] الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (21/ 266).


[18] صحيح البخاري (7/ 146).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣