أرشيف المقالات

معنى تحسين الترمذي للحديث

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
معنى تحسين الترمذي للحديث

الإمام الترمذي إذا قال عن الحديث: "هذا حديث حسن"، لا يُريد بذلك الحديث الحسن المعروف في المصطلح بأنه الخفيف ضبطًا، المقبول عند المحدِّثين، بل يريد بذلك شيئًا آخر أفصح عنه في كتابه "العِلَل الصغير" فقال في كتابه العلل الصغير (ص: 758):
قال أبو عيسى: وما ذكرْنا في هذا الكتاب حديث حسن، فإنما أردْنا به حسْنَ إسناده عندنا، كل حديث يُروى لا يكون في إسناده من يتَّهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذًّا، ويُروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن" انتهى.
 
وقال ابن رجب في شرح علل الترمذي (2/ 606): الحديث الحسن بيَّن الترمذي مُرادَه بالحسن: وهو ما كان حسنَ الإسناد.
 
وفسَّر حسن الإسناد: بألا يكون في إسناده متَّهم بالكذب، ولا يكون شاذًّا، ويروى من غير وجه نحوه، فكل حديث كان كذلك فهو عنده حديث حسن.
 
وقد تقدم أن الرواة منهم من يُتَّهم بالكذب، ومنهم من يغلب على حديثه الوهم والغلط، ومنهم الثقة الذي يقلُّ غلطه، ومنهم الثقة الذي يَكثُر غلطه.
 
فعلى ما ذكَرَه الترمذي: كل ما كان في إسناده متَّهم فليس بحسَن، وما عداه فهو حسن، بشرط ألا يكون شاذًّا.
 
والظاهر أنه أراد بالشاذ ما قاله الشافعي، وهو أن يَرويَ الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه بشرط ألا يكون شاذًّا.
 
وبشرط أن يُروى نحوه من غير وجه، يعني أن يُروى معنى ذلك الحديث من وجوه أخر عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير ذلك الإسناد، فعلى هذا: الحديث الذي يَرويه الثقة العدل، ومن كثر غلطُه، ومَن يَغلِب على حديثه الوهم إذا لم يكن أحد منهم متَّهمًا، كله حسن؛ بشرط ألا يكون شاذًّا، مخالفًا للأحاديث الصحيحة، وبشرط أن يكون معناه قد رُوي من وجوه متعدِّدة.
 
فإن كان مع ذلك من رواية الثقات العدول الحفَّاظ، فالحديث حينئذ "حسن صحيح"؛ انتهى.
 
ولهذا لا تَستغرِب من هذه العبارات في سنن الترمذي:
1- قال الترمذي في حديث رقم 1089: هذا حديث غريب حسن في هذا الباب، وعيسى بن ميمون الأنصاري يُضَعَّفُ في الحديث.
 
2- وقال بعد حديث 2347: "هذا حديث حسن" وعلي بن يَزيد يُضَعَّفُ في الحديث.
 
3- وقال بعد حديث 233: حديث سمرة حديث حسن غريب، وقد تكلم بعض الناس في إسماعيل بن مسلم من قِبَل حفظِه.
 
4- وقال بعد حديث 3299: هذا حديث حسن قال محمد [هو شيخه الإمام البخاري]: "سليمان بن يسار لم يسمَع عندي من سلمة بن صخر".
 
5- وقال بعد حديث 799: هذا حديث حسن، وعبدالله بن جعفر كان يَحيى بن معين يُضعِّفه.
 
الخلاصة أن الترمذي بيَّن معنى قوله:
"حديث حسن"، بأنه ما ليس في سنده متَّهم بالكذب، وليس شاذًّا في المعنى - أي: لا يخالف الأحاديث الصِّحاح - ويُروى معناه من غير وجه.
 
وبعد هذا نعرف خطأ بعض مَن يَنتقِد الترمذي من المتقدِّمين والمتأخرين على تحسينه لحديثٍ ما بأن في سنده ضعفًا أو انقطاعًا مع أن الترمذي لا يريد بالحديث الحسن ما هو مشهور عند العلماء بأنه ما كان متَّصل الإسناد بنقل العدل الخفيف الضبط وسلم من الشذوذ والعلّة، بل قد يقوله في حديث فيه ضعف أو فيه انقطاع، وإليكم أمثلة لمن انتقدوا الترمذي وانتقادهم في غير محلِّه لكَونِهم لم يتنبهوا لاصطلاحه الخاص بالحسَن:
1- قال النووي في " المجموع " (3/460): " قال الترمذي: هو حديث حسن، وليس كما قال؛ لأن أبا عبيدة لم يسمَع أباه، ولم يُدرِكه باتفاقهم، وهو حديث منقطع".
 
2- قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (9/ 196): "قال الترمذي: "حديث حسن"، قلت: كذا قال، ولعله يعني أنه حسن لغيره، وإلا فعمارة هذا مجهول اتفاقًا".
 
3- وفي رياض الصالحين حديث رقم 1244 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله - عز وجل -: أحب عبادي إليَّ أعجلهم فِطرًا))؛ رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن"، قال الألباني في الحاشية: "قلت: في هذا التحسين نظر؛ لأن مدار إسناده على قرة بن عبد الرحمن، وهو ضعيف لسوء حفظه".
 
فالترمذي أراد أن سنده ليس فيه متَّهم بالكذب وأن معناه غير شاذٍّ، بل يُروى من غير وجه، وهو كذلك؛ فتعجيل الإفطار معروف في السنَّة وروي من غير وجه؛ فتوافَرَ في هذا الحديث الشرطان اللذان جعلهما الترمذي ميزانًا للحسن عنده فحسَّنه فأصاب على حسب اصطلاحه، وهو لا يريد أنه حسن بما هو معروف عند غيره، ولذا ضعَّفه الألباني وأصاب ولكنه انتقد الترمذي على تحسينه ولم يُصِبْ، فسبحان الله الذي أحاط بكل شيء عِلمًا، وكل عالم يخطئ ويُصيب، وما يَخفى عليه أكثر مما يعلم، والله أعلم.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢