مباشرة الحائض فوق الإزار
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
مباشرة الحائض فوق الإِزارعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ إِحْدَانَا، إِذَا كَانَتْ حَائِضاً، أَمَرَهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَأْتَزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا.
قَالَتْ: وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْلِكُ إِرْبَهُ.
وورد نحو هذا الحديث في الصحيحين عن ميمونة رضي الله عنها.
مقدمة:
حاضت المرأة تحيض حَيْضَاً ومَحيِضاً فهي حائض إذا جرى دمها وسال.
والحيض لغة: السيلان والانفجار، يقال حاض الوادي: إذا سال.
وشرعاً:دم طبيعة وجِبِلَّةٍ يرُخيه الرحم من قعره يعتاد المرأة في أوقات معلومة إذا بلغت.
وقولنا عن دم الحيض (دم طبيعة) أي دم فطرة لا دم فساد ناشئ من مرض أو جرح أو نحوهما بل هو دم طبيعة جبل الله عليه بنات آدم عليه السلام قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا شيء كتبه الله على بنات آدم " متفق عليه.
وأما دم الاستحاضة فليس بدم طبيعة بل هو دم مرض وعلة وفساد يخرج من أدنى الرحم وسيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى.
ومن الحكم التي جعلها الله في وجود الحيض؛ هي تلك الإفرازات الدموية التي يتغذى بها الجنين في بطن أمه وإذا وضعت المرأة حملها تَحَّول هذا الدم بقدرة الله إلى لبنٍ يتغذى به الطفل ولذلك قلَّ أن تحيض حامل أو مرضع، وإذا لم يكن هناك حمل ولا رضاع تجمعت هذه الإفرازات التي لا مصرف لها فتستقر في مكان ثم تخرج في أوقات معلومة والأصل في الحيض وأحكامه الكتاب والسنة والإجماع.
• فمن الكتاب؛ قوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ ﴾ [ البقرة:222].
• ومن السنة؛ أحاديث مستفيضة ستأتي في الأبواب القادمة بإذن الله.
• ونقل الإجماع غير واحد من أهل العلم على الحيض وأصول أحكامه.
وأعلم أن باب الحيض من أصعب أبواب الفقه حتى قال عنه الإمام أحمد رحمه الله: " مكثت في الحيض تسع سنين حتى فهمته ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "بل باب الحيض الذي هو من أشكل الفقه في كتاب الطهارة وفيه من الفروع والنزاع ما هو معلوم "
ويقول العلامة حماد الأنصاري: " إن كتاب الحيض درسته على المذاهب الأربعة وذلك على يد المشايخ، ومع ذلك ما زال مشكلاً عليَّ إلى الآن، وإذا سئلت فيه أكون أحير من ضب ".
ولأهل العلم كلاماً آخر يبيَّن ما يحتويه باب الحيض من المسائل المشكلة وذلك لأن المرأة ينزل معها أحياناً دماء غير دم الحيض فيشتبه الأمر عليها وعلى المفتي.
ولأن الحيض قد يتقدم وقد يتأخر وقد يزيد وقد ينقص وزاد بعض مسائله غموضاً في واقعنا اليوم ما ظهر من استعمال ما يمنع الحمل ويمنع الحيض مما تضطرب معه الدورة الشهرية عند المرأة وتكثر الإشكالات فيه، وأما أصول مسائله في الأحكام فهي واضحة وكثير منها متفق عليه بين أهل العلم.
ألفاظ الحديث:
• (كَانَ إِحْدَانَا): أي إحدى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم و(كان) من غير تاء وهي صحيحة، وحكى سيبويه في كتابه في" باب ما جرى من الأسماء التي هي من الأفعال وما أشبهها من الصفات مجرى الفعل " قال: وقال بعض العرب: قال امرأة.
- (تَأْتَزِر): أي تلبس الِوزْرَة - بكسر الواو - وهي كساء صغير تُسْتَر به العورة وما حولها، وجمعه وِزْرات على لفظ المفرد.
- (فَوْرِ حَيْضَتِهَا): فَوْر بفتح الفاء وإسكان الواو والمقصود وقت كثرتها، وذكر القرطبي أن فور الحيضة معظم صبها من فوران القدر وغليانها.
• (يُبَاشِرُهَا): يقال: باشر الرجل زوجته: أي لا مس بشرتها بإلصاق بشرته ببشرتها، والمباشرة قد تأتي بمعنى الجماع، ولكن في هذا الحديث ليس المراد به الجماع بإجماع العلماء.
• (يَمْلِكُ إِرْبَهُ): بكسر الهمزة وإسكان الراء (إِرْبَه) وبهذا أكثر الروايات ويكون المقصود به العضو الذي يستمتع به وروى جماعة بفتح الهمزة والراء ومعناه: حاجته وهي شهوة الجماع.
والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أملك الناس لنفسه فيأمن مع هذه المباشرة الوقوع في المحرم وهو مباشرة فرج الحائض.
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: حديث الباب فيه دلالة على جواز مباشرة الحائض وهذه المباشرة لا يراد بها الجماع كما سبق ومباشرة الحائض على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: محرم بالإجماع، وهو فيما إذا باشرها بالجماع في الفرج، فهذا محرم بإجماع المسلمين [ونقل الإجماع على هذا جمع من العلماء كابن المنذر في الأوسط (2/ 208) وابن حزم " مراتب الإجماع" (ص 28) وابن قدامة " المغني" (1/ 414) والنووي" المجموع" (2/ 359) وابن تيمية " الفتاوى" (21/ 624)].
ومن جامع امرأته وهي حائض فقد فعل محرماً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه وسيأتي قريباً، ونقل النووي عن الشافعي أن من فعل ذلك فقد أتى كبيرة من الكبائر وسيأتي ما يجب عليه.
النوع الثاني: جائز بالإجماع، وهو المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة بالقبلة أو المعانقة أو اللمس أو غير ذلك فهذا جائز بالإجماع.
النوع الثالث: مختلف فيه، وهو المباشرة فيما بين السرة والركبة في غير القبل والدبر كالفخذين مثلاً.
فالقول الأول: أنه محرم، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأكثر العلماء.
واستدلوا بحديث ميمونة رضي الله عنها حيث قالت: "كان رسول صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهنَّ حُيَّض" رواه البخاري ومسلم.
والقول الثاني: أن ذلك جائز وبه قال أحمد بن حنبل وعكرمة ومجاهد والشعبي والنخعي والثوري من السلف وهو الأظهر والله أعلم.
ويدل على ذلك:
1- حديث أنس رضي الله عنه المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وهذا عام استثنى منه الجماع.
2- قوله تعالى: ﴿ فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ ﴾ [البقرة:222] ، والمحيض اسم لمكان الحيض أو زمانه فُخصِّصَ موضع الدم بالاعتزال وهذا دليل على أن ما سواه مباح.
وأما مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم لما فوق الإزار كما في حديث ميمونة - رضي الله عنها -فمحمول على الاستحباب جمعاً بينه وبين حديث أنس رضي الله عنه (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) وبهذا يُجمع بين فعله صلى الله عليه وسلم وقوله كما نقله النووي [انظر: " المجموع " (2/ 393)].
الفائدة الثانية: السنة ألا يباشر امرأته إذا كانت حائضاً إلا من وراء حائل فيأمرها أن تتزر أو ما يقوم مقامها كالسراويل، لأمره صلى الله عليه وسلم أزواجه كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - حديث الباب - فإن باشرها من غير حائل فهو جائز إن وثق من نفسه ألا يقع في الفرج.
واختلفوا فيمن جامع امرأته وهي حائض هل تجب عليه كفارة أم لا؟، بعدما اتفقوا على أنه أتى بمحرم بالإجماع كما سبق وأنه تلزمه التوبة، واختلفوا في وجوب الكفارة على قولين مبنيين على صحة حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض " يتصدق بدينار أو نصف دينار " رواه الخمسة.
والحديث صححه الحاكم وابن القطان وابن دقيق العيد وابن حجر، وضعفه الشافعي وابن المنذر وابن عبد البر والنووي وغيرهم.
فالقول الأول: أنها تجب على المجامع الكفارة وهو قول الشافعي في القديم وأحمد، رجلاً كان أو امرأة على الصحيح إن كانت راضية وغير جاهلة واستدلوا: بحديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق فهو صحيح عندهم.
وأصحاب هذا القول اختلفوا في معنى التخيير بين الدينار ونصفه على قولين.
فقيل: الدينار للوطء في أول الحيض لغزارة الدم فهو أشد في إصابة الأذى، ونصف الدينار للوطء في آخر الحيض.
وقيل: أنه يُخيَّر بين الدينار ونصف الدينار كتخيير المسافر بين القصر والإتمام.
والقول الثاني: أنها لا تجب الكفارة، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي في الجديد وإحدى الروايتين عن أحمد والظاهرية وجماعة من السلف.
واستدلوا: بعدم ورود دليل صحيح يوجب الكفارة والأصل براءة الذمة وهذا القول هو الأظهر والله أعلم.
وذلك لأن حديث ابن عباس رضي الله عنه في المسألة أُعلَّ بعدة علل أهمها:
1- أن مداره في أكثر أسانيده على مِقْسَم مولى ابن عباس رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنه و(مِقْسَم) متكلم فيه وثَّقه جماعة وضّعفه آخرون، قال عنه الحافظ ابن حجرصدوق، وكان يرسل، وما له في البخاري سوى حديث واحد [انظر: " " التقريب " [انظر تهذيب التهذيب (10/ 256)] انظر: " تلخيص الحبير" (1/ 175)]: وقال في تلخيص الحبير " ما أخرج له البخاري إلا حديثاً واحداً في تفسير سورة النساء، قد توبع عليه ".
2- انه حديث اختُلف في رفعه ووقفه فقد رواه جماعة عن شعبة موقوفاً على ابن عباس وأن شعبة كان يرفعه ثم رجع عن رفعه.
وقال الخطابي: "...
أن هذا الحديث مرسل أو موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما ولا يصح متصلاً مرفوعاً والذمم بريئة إلا أن تقوم الحجة بشغلها.....) [انظر: " معالم السنن" (1/ 181)]..
3- أن في متنه اضطرابا ًلأنه رُوي بدينار أو بنصف دينار بالشك.
قال الحافظ ابن حجر (فيه اضطراب كثير جداً في متنه وسنده، واختلف فيه قول الإمام أحمد كثيراً، وقال الترمذي: علماء الأمصار أنه لا فدية ، دليل أن العمل على تركه) اهـ.
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الطهارة)