من ديوان الإيمان .. الشكر
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
من ديوان الإيمان: الشكر
قرين الصبر عند المؤمن الشكرُ؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابتْه سرَّاءُ شكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضرَّاءُ صبَر، فكان خيرًا له)).
فتقدير النعمة الربانية، ومعرفة باعثها، وشُكره عليها - دليلٌ على إيمانٍ حي، يَنبض بالإقرار والاعتراف بالرب - سبحانه - في نَعمائه ورحمائه ولُطفه بعبادة، ومن ثَمَّ يَلهج بالاعتراف به وبتقديره حقَّ قدره وشكره على ذلك!
فإن الإنسان مُثقل بالنِّعم الإلهية والمِنَح الربانية، حتى إنه لو ذهَب يُحصيها، لما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [النحل: 18].
فإن أقل ما يقدِّمه الإنسان - عِرفانًا بالنعم - أن يشعر بالمنعم، ويُقر له بالفضل، ثم يَشكره على هذه النِّعم، وهذا ما تَقتضيه الفطرة النقيَّة للإنسان دائمًا، غير أن هذه الفطرة قد تَفسُد أحياناً ويحيطها الشيطان بشِباكه وقدراته المُخولة له، فيَصرف شُكْرَه وحمْده إلى غير الله - سبحانه - وقد قال المولى - عز وجل - في الحديث القدسي: ((إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أَخلق ويُعبَد غيري، وأَرزق ويُشكَر سواي)).
فإن الأجدر بالعبادة، الأحق بالشكر والحمد، هو الخالق المُنعم؛ ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
والشكر نوعان: شكر قلبي، وشكر بالجوارح.
فمتى عرَف القلب نعمة المنعم وذاقها وشهِدها، تحدَّث عنها شاكرًا للمنعم نعمتَه، وانساقَت الجوارح كلُّها مع القلب تَشكر المربي والمنعم!
وشكر القلب هو إقراره بخالقه ومعرفة نَعمائه، التي ليس العبد أهلاً لها؛ لأنه لم يقم نظيرها الواجب للمنعم، مع أنه يشعر - بالفطرة النقيَّة - أنه محتاج إلى الرب، وأن بشريَّته تكون ناقصة لا تَكتمل إلا باتِّصالها به، وباستمدادها منه، ولن تبلغ الكمال يومًا؛ وإنما هي تَنشده بطبيعتها، والكمال المطلق لله وحده، ومن هنا تلتقي الحاجة بطبيعتها والكمال المطلق لله وحده، ومن هنا تلتقي الحاجة البشرية بالدائرة الربانية دائمًا.
وإذا كان القلب شاكرًا، عبَّرت الجوارح عن شكره، وأوَّلها اللسان الذي يعبِّر عما يَجيش في هذا القلب من معانٍ، فمما طلَبه الإيمان: أن يكون الحمد أول الكلام، بل أول الأعمال؛ حيث يقول النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ((كل أمرٍ ذي بالٍ، لا يبدأ فيه بحمْد الله، فهو أجذم))[1]؛ أي: أقطع؛ أي: مقطوع الأجر.
ومن هنا كان الحمد واجبًا لله - سبحانه - فطرةً وطبعًا، قبل أن يكون دينًا وشريعة، وقد قال الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ﴾ [القصص: 70].
ثم إنه يُرضي الله - سبحانه وتعالى - فيُحبه، وهذا معنى ما رواه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((ليس شيء أحب إليه الحمد من الله تعالى)).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيَحمده عليها، ويشرب الشربة فيَحمَده عليها)).
فكان الشكر تعبيرًا عن إيمان نقي، وعبودية صادقة، وفطرة صافية؛ ولهذا فالشاكرون قليلون في كل عهد وزمان؛ لأن مخلصي العبودية لله - سبحانه - قليلون أيضًا بين البشر؛ فقد قال الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].
وتعهَّد الشيطان أن يضلَّ الناس عن واجب الشكر، ويُنسيهم المنعم، فقال: ﴿ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17].
ووضَعه الله - سبحانه وتعالى - في مقابل الكفر في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40].
فالأمر بين العبد وربه؛ إما جحود وكُفران، وإما إسلام وشكران، وقد ناشد الله - سبحانه وتعالى - عباده أن يُبصروا ما خلَق لهم، وهيَّأ لهم رزقهم من الطيِّبات، وأَوْلى بهم أن يشكروه على هذه النعم، بدلاً من جحْد النعم وكفران المنعم، ويكرِّر لهم هذا النداء في آيات كثيرة في القرآن الكريم؛ كقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]، ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]، ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الواقعة: 68 - 70]، ﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [الجاثية: 12].
والآيات عديدة تحمل هذا النداء الذي يحتاج إلى تدبُّر وحُكم موضوعي بلُغة أهل العصر!
ولا شك أن الشكر شعور فطري كما قلتُ، يَحكم كلَّ قلبٍ نقي، ويَسوس كل خالصي الإيمان، وهذا ما ظهر كسمةٍ بارزة في أسلوب قادة البشرية وأقمارها؛ من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا، كلهم يَنطق بلسان هذا الرجل المؤمن الذي قال: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].
وأيضًا كلهم ينطق بلسان محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - وما روَته عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من الليل حتى تَنفطر قَدماه، فقلت له: لِم تَصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!)).
إنها عبودية الحمد التي يُعلِّمنا الإسلام إياها؛ حتى نكون من أولئك القليل، نَعرف النعمة للمُنعم ونُقِرها، ثم نَشكره عليها، وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلمنا في كل موقفٍ، كيف يكون شاكرًا لله حقَّ الشكر، مع تقديم قاعدة أصلية، وهي أننا مهما بالَغنا في الشكر، فلن نفيَ الله حقَّه، وكما قال أحد الصالحين: إن شكرك لله يحتاج منك إلى شُكره؛ لأنه وفَّقك إلى شكره؛ لأن الشكر في ذاته عبادة، فكونه وفَّقك إلى عبادة، فقد أنعَم عليك نعمة تحتاج منك إلى شكره عليها!
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: خرَجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريبًا من (عَزْوَرَا)، نزل ثم رفَع يديه، فدعا الله ساعة، ثم خرَّ ساجدًا، فمكث طويلاً، ثم قام فرفَع يديه ساعة، ثم خرَّ ساجدًا، (فعله ثلاثًا)، وقال: ((إني سألت ربي لأُمتي، فأعطاني ثُلُث أُمتي، فخرَرت ساجدًا لربي شكرًا، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي لأُمتي، فأعطاني ثُلُث أُمتي، فخرَرت ساجدًا لربي شكرًا، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأُمتي، فأعطاني الثُّلث الأخير، فخرَرت ساجدًا لربي)).
فكلما منَّ الله عليه بنعمة، اجتَهد في شكره عليها، وعبَّر عن امتنانه وسعادته بها بالفعل وبالقول، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فكثيرًا ما كان - صلى الله عليه وسلم - يدخل المسجد أول دخوله إلى المدينة مباشرة، عند عودته من غزواته؛ ليعبِّر عن شكره وحمْده لربه، فيصلي لربه شكرًا، قبل أن يكلِّم أحدًا من الناس، وقد روى أبو بكر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه أمر سرورٍ، أو شيء يُسَرُّ به، خرَّ ساجدًا؛ شكرًا لله.
والأبلغ في الفضل والنعمة، أن يجعل الله - سبحانه وتعالى - الشكر مقدمة للزيادة في النعمة، فقد قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، ورُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((إذا قلت: الحمد لله رب العالمين، فقد شكَرت الله، فزادَك)).
وإن كلمة قالها العبد حمدًا لله، أعجَزت الملائكة عن كتابتها؛ لفرْط مَثوبتها، وعِظَم جزائها؛ فقد روى ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((إن عبدًا من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فعضلَت بالمَلكينِ أن يكتباها، فلم يَدْريا كيف يَكتبانِها، فصعدوا إلى الله، فقالا: يا ربنا، إن عبداً قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله - وهو أعلم بما قال عبده -: وما الذي قال عبدي؟، قالا: يا ربنا، إنه قال: لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال لهما: اكْتُباها كما قال عبدي حتى يلقاني، فأَجزيه بها)).
إذًا فجزاء الحمد لا يُقدَّر، وثوابه تَعجِز الملائكة عن تقديره، وكان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - لا يَفتُر عن شيئين: الاستغفار، والشكر!
فاستفتاح صلاته بالحمد، واستفتاح خطبته بالحمد، وإذا استيقَظ من نومه حمِد الله، وإذا ركِب حمد الله، وإذا طعِم حمد الله، وإذا شرِب حمد الله، وإذا تخلَّى حمد الله على ذَهاب الأذى وبقاء العافية، إذا أتى نساءَه حمد الله، وهكذا يحمد الله على كل حال، ويَشكُره على كل نعمة!
وإن لكل عضو في جسم الإنسان شكرًا، كُتِب عليه أن يؤديه للخالق - جل وعلا - بعد أن يقدِّم شكره بمعرفة المُنعم على وجه الخضوع، وتقدير المنعم، وحين يقوم بالتصديق والإقرار بحقائق الإيمان، ويظل عامرًا بذكر الله، فحين يخصُّ الله - سبحانه - وحده بحبِّه والرضا عنه، ويخصه دون غيره بخشيته والخوف منه، والخشوع له وتَقواه، والتوكُّل عليه، والإنابة إليه وحده، ويُوقِّره وحده، ويصبر على أمره، ويَصبر عن نهْيه، أو على قضاه - يكون شاكرًا لربه، وحين يتخلَّص من كل حقدٍ وحسد وغِلٍّ، ولا يتمنَّى ولا يشتهي ما حرَّم الله، ويرضى بما رزَقه الله وأحلَّه له - يكون شاكرًا لله شُكر القلب المؤمن!
• والعين تؤدي شكرها حين لا ترى عيوب الناس؛ وإنما ترى عيب صاحبها وتقصيره قبل عيب الناس، ولا تَنظر إلى ما متَّع الله به غيرَها، فربما كان الله - سبحانه وتعالَت حكمته - قد وهب الغير نعمةً للابتلاء والفتنة؛ وإنما يجب أن تَنظر إلى ما فضَّل الله به عليها من نعمة الإيمان، وما هي مهيِّئة له من بلوغ العلم النافع والقرب من الله، ولا تَنظر إلى المحارم وتَنتهك الحُرمات، فذلك زنا العين الذي جاء في الحديث: ((والعين تزني وزناها النظر)).
وإن رأت منكرًا احْتَقرته وتجافَت عنه، ولم ترَ زينته وبَهْرجته، وهذا معنى أن تكون شاكرة لخالقها ومُصوِّرها!
• والأُذن تؤدي شكرها، فلا تتجسَّس على عورات المسلمين ولا تتبعها، ولا تُكثر سماع اللفظ واللغو الزُّور، ولا تُلقي سمْعها للسخرية بالإسلام وحقائقه، أو بالله - عز وجل - أو برسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا تَسمح لنفسها بسماع الخوض في أعراض المسلمين، وإن تبادَرَ إليها شيء من ذلك، استَنكرتْه واستقبَحته، ولفَظَتْه كأن لم تَسمعْه، أو ستَرتَه إن كان مما لا يَحسُن نشره بين الناس، أو كان سبيلاً صحيحًا لإرشاده إلى موطن خطئه وشُبهة عيبه، وحتى تكون شاكرة، يَحسُن لها أن تسمع كل ما هو مشروع مُذَكِّر بالله وآياته؛ من ذكرٍ، أو دعاءٍ، أو استغفار، أو كل ما يُذكِّر بنِعَم الله في الكون والحياة!
• واليد لها شُكر تؤديه، حين لا تُغضب ربها ولا تزني، وزناها لَمْس المحرَّمات؛ حتى لا تجد الشهوة سبيلاً إلى الفؤاد، فبُعدها عن الحرام شكر، وتغييرها المنكر شُكر، وحمْلها السلاح في سبيل الله شكر، ومسْحها على المسكين واليتيم شكر، وحمْلها الصدقة إلى الفقراء شكر، ومصافحتها في الله شكر، وتأْدِيتها الفرائضَ والعباداتِ شكر، ومنْعها الأذى شكر، وحملها أدوات العلم شكر، وسَعْيها في سبيل الرزق - طلبًا للعون على العبادة - شكر، وحين تجد طريقها إلى ما خوَّلها الله من عملٍ، تكون شاكرة حقَّ الشكر، فيُبارك الله فيها وما تأتيه بعونه!
• والقدَم لها شكر تؤدِّيه إلى واهبها الحياة - عز وجل - حين لا تَعرف طريقها إلى فاحشة، فلا تَزني وزناها السعي؛ وإنما يجب أن يكون سعيها إلى المساجد ودُور العلم، والبيت الحرام وحَلبات الجهاد، ومواقع العمل والسعي على الرزق، وصلة الرحم، وعيادة المرضى، وزيارة الإخوة، ونُصرة المظلوم، وشهادة الحق، وإغاثة الملهوف، وتكون شاكرة حين تَحفظ ما بينها من عورات من اقتراف الآثام، بل تحمل صاحبها إلى مواطن الشرف والفَخار، لا إلى أماكن الفِسق والفجور!
• واللسان له شكر يُؤديه، حين لا يذكر أعراض الناس، ولا يخوض في عيوبهم ونقائصهم، وحين لا يَجرح مسلمًا، ولا يَهجوه ولا يَطعنه ولا يَلعنه؛ ((المسلم مَن سلِم المسلمون من لسانه ويده))، وحين يعفُّ عن تذوُّق الحرام، ويجد لذاته في الحلال.
ودعاؤه لله شكر، وأمْره بالمعروف شكر، ونَهيه عن المنكر شكر، وذِكره لله تعالى شكر، وقوله للخير شكر، وشهادته للحق شكر، والحديث عن نِعَم الله وفضْله شكر، ومذاكرة آيات الله المقروءة والمنظورة في الكون شكر، وتعلُّم العلم شكر، كلمته الطيبة للناس شكر، كلمته الرقيقة المواسية لليتامى والمساكين شكر، وقبل كل ذلك يكون شاكرًا بترديده الشكر والحمد، والثناء والذكر اللفظي؛ فقد قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152].
والفَرْج له شكر يؤديه لربه بارئه ومُسَوِّيه، حين لا يجد لذته وهواه في حرامٍ يَبحث عنه، ولا يعرف طريقًا إلى منكر، بل يتَّخذ العِفة حصنًا، والنقاء والطهارة سبيلاً، وإذا كان الفرْج أصل الشهوة، فإنه يكون عند شكره آية العِفة ورمزها، ومِفتاح طهارة الأصلاب ومِغلاق اللذة البهيميَّة، وهو الذي يُصدِّق هوى الأعضاء أو يُكذبها، فإذا كان بالقلب شهوة محرَّمة، تطلَّع الفرج لتصديقها وغلَبته الشهوة إليها، وإن كان القلب نظيفًا بريئًا، خالصًا عامرًا بذِكر الله وشكره، عمِي الفرج عن الحرام، وعفَّ بالحلال، وهذا شكره وحمده الذي يرضاه له الله ويَطلبه منه!
وهكذا يكون الإنسان بكِيانه كله شاكرًا لربه، عارفًا لقدْره، مؤمنًا بنِعَمه، مقرًّا بحاجته إليه، وفضْله عليه؛ ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18].
[1] رواه مسلم، 1/43، وهو حسن روي موصولاً ومرسلاً، ورواية الموصول إسنادها جيد.