أرشيف المقالات

إنما جعل الإمام ليؤتم به

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
إنما جعل الإمام ليؤتم به

 
31- عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه، قال: سَقَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَرَسٍ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا علَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ قَالَ: ((إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعودًا أَجْمَعُونَ))، وفي رواية: ((إِذَا صَلَّى قَائِمًا، فَصَلُّوا قِيَامًا)).
وبنحوه من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، وفيه: فَصَلَّى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، فَصَلَّوْا بِصَلاتِهِ قِيامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ: أَنِ اجْلِسُوا، فَجَلَسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: ((إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ....))، وبنحوه من حديث أبي هُرَيْرَةَ وفيه: ((إِنَّمَا الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ .....)).
ولمسلم في رواية: ((لاَ تُبَادِرُوا الإِمَامَ))، وفي رواية: ((إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ)).
ولمسلم من حديث جَابِرٍ، قَالَ: اشْتَكَىٰ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ، وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا، فَصَلَّيْنَا بِصَلاتِهِ قُعُودًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: ((إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ فَلاَ تَفْعَلُوا، ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ: إِنْ صَلَّى قَائمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا)).


تخريج الأحاديث:
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أخرجه مسلم (411)، وأخرجه البخاري "كتاب الأذان"، "باب يهوي بالتكبير حين يسجد" (805)، وأخرجه النسائي "كتاب الإمامة" "باب استخلاف الإمام إذا غاب" (792)، وأخرجه ابن ماجه "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها" "باب ما جاء في إنما جعل الإمام ليؤتم به" (1238).
 
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فأخرجه مسلم (412)، وأخرجه البخاري "كتاب الأذان"، "باب إنما جعل الإمام ليؤتم به" (688)، وأخرجه ابن ماجه "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها"، "باب ما جاء في إنما جعل الإمام ليؤتم به" (1237).
 
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فأخرجه مسلم (414)، وأخرجه البخاري "كتاب الأذان"، "باب إقامة الصف من تمام الصلاة" (722).
 
وأما حديث جابر رضي الله عنه فأخرجه مسلم (413)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه أبو داود "كتاب الصلاة" "باب الإمام يصلي من قعود" (606)، وأخرجه النسائي "كتاب السهو"، "باب الرخصة في الالتفات في الصلاة يمينًا وشمالًا" (1199)، وأخرجه ابن ماجه "كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها"، "باب ما جاء في إنما جعل الإمام ليؤتم به" (1240).
 
شرح ألفاظ الحديث:
"سَقَطَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَرَسٍ": السقوط: الوقوع، وواقع الحادثة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب فرسًا بالمدينة فسقط عنه على جذع نخلة؛ [فتح المنعم (2/ 548)].
 
"فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ": بضم الجيم وكسر الحاء، والجحش: الخدش أو أشد منه قليلًا، والخدش قشر الجلد، وجاء عند البخاري تحديد مكانه، قال الراوي: "فجحشت ساقه أو كتفه" الشك من الراوي.
 
"فَدَخَلْنَا علَيْهِ نَعُودُهُ": أي نزوره زيارة مريض، وسميت عيادة لتكرار عود الزائرين.
 
"فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا": ظاهره أنهم قعدوا من أول الصلاة، ويشكل عليه حديث عائشة رضي الله عنها وفيه " فَصَلَّى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، فَصَلَّوْا بِصَلاتِهِ قِيامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ: أَنِ اجْلِسُوا، فَجَلَسُوا".
 
قال القرطبي: "وجه الجمع أنه كان منهم مَنْ صلَّى جالسًا، فأخبر عنه أنس رضي الله عنه، وكان فيهم من صلى قائمًا، فأخبرت عنه عائشة رضي الله عنها"؛ [المفهم (2/ 46)].
 
ونُوقش هذا الجمع باستبعاد قعود بعضهم بغير إذن النبي صلى الله عليه وسلم لأن الأصل فرض القيام ولم يأت إلى علم القاعدين من الصحابة نسخ ذلك في هذا الحال، ويحتمل أن أنسًا رضي الله عنه لم ينقل قيامهم أول الأمر قبل أن يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقعود، واكتفى بذكر القعود.
"لا تُبَادِرُوا الإِمَامَ"؛ أي: لا تسبقوه.
 
"إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ": بضم الجيم وتشديد النون المفتوحة؛ أي: وقاية وستر لمن خلفه، ومانع من خلل يعرض لصلاتهم بسهو أو مرور؛ أي: كالجنة، وهي الترس الذي يستر من وراءه، ويمنع وصول مكروه إليه.
 
"إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ": إن مخففة من الثقيلة، وفي الكلام تشبيه وتقدير: تفعلون مثل فعل فارس والروم، و(آنفًا) منصوب على الظرفية، وهو من استأنفت الشيء إذا ابتدأته، ومدعاة للكبر لمن يقام عليه؛ ولذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل مثل فعل الأعاجم.
 
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: الأحاديث دليل على جواز إمامة العاجز عن القيام بالقادرين عليه، واشترط الحنابلة أن يكون العاجز هو الإمام الراتب لا غيره، والصواب أن الحكم عام لا فرق فيه بين الإمام الراتب أو غيره، لعدم الدليل المخصص بالإمام الراتب، وهذا القول رواية عن أحمد، وهو اختيار الشيخ السعدي؛ [انظر الإنصاف (2/ 262)، والمختارات الجلية ص (42)].
 
وعن الإمام مالك: لا تصح الصلاة خلف إمام قاعد.
واستدلوا: بما روى الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمَّنَّ أحد بعدي جالسًا))؛ رواه الدارقطني والبيهقي.
 
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه ضعيف لا تقوم به الحجة؛ قال عنه الدراقطني: "لم يروه غير جابر عن الجعفي عن الشعبي، وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به الحجة"؛ [انظر: الاستذكار(5/ 400)، وفتح الباري(2/ 175)].
 
واختلف العلماء القائلون بصحة الصلاة خلف إمام قاعد في كيفية ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنهم يصلون خلفه قيامًا، وهو قول أبي حنيفة والشافعي؛ [انظر: الاختيار لتعليل المختار (1/ 60)، والمجموع (4/ 264)].
 
واستدلوا: بحديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه في قصة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض، قالت: فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر رضي الله عنه، فكان يصلي بالناس جالسًا، وأبو بكر رضي الله عنه قائم، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر رضي الله عنه"؛ والحديث طويل سيأتي بتمامه الحديث القادم.
 
قالوا: هذا الحديث في مرض موته فيكون ناسخًا للأحاديث الأخرى التي وردت في الباب، وقالوا: لأن القيام في الصلاة فرض، فإذا سقط عن الإمام لعذر، فلا يسقط عن المأموم إلا لعذر.
 
والقول الثاني: أنهم يصلون خلفه قعودًا، وهو رواية عن الإمام أحمد؛ [انظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي(2/ 114)].
واستدلوا: بأحاديث الباب حديث أنس رضي الله عنه، وحديث عائشة رضي الله عنها، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحديث جابر رضي الله عنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به ......وإذا صلى قاعدًا فصلُّوا قعودًا أجمعون))، وفي رواية: ((وإذا صلى قائمًا فصلُّوا قيامًا))، ومتابعته تستلزم أن يفعل المأموم كفعله حال القعود والقيام؛ ولذا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها في الباب حين صلى الصحابة خلفه قيامًا أشار إليهم أن اجلسوا.
 
والقول الثالث: التفصيل، إذا ابتدأ الإمام الصلاة قاعدًا صلى من خلفه قعودًا، وإذا ابتدأ الإمام الصلاة قائمًا، ثم عجز أثناء الصلاة عن القيام، فقعد صلى من خلفه قيامًا، وهذا التفصيل قال به الإمام أحمد وبعض الشافعية؛ [انظر: المغني (2/ 60)، وفتح الباري (2/ 176)].
 
واستدلُّوا: بأدلة القولين السابقين، فإذا صلى الإمام من أول الصلاة قاعدًا فحاله كحال النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث الباب أدلة القول الثاني، فيصلي من خلفه قعودًا؛ ولذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم لمن صلى خلفه قائمًا أن يجلس، وإذا طرأ الجلوس على الإمام أثناء الصلاة لعجزه عن القيام فحاله كحال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها - وسيأتي بعد هذه الأحاديث - في مرضه الذي مات فيه فإنه دخل أثناء الصلاة والناس قيام خلف أبي بكر، ثم جلس النبي صلى الله عليه وسلم فجلس بجانب أبي بكر، وصار إمامًا بهم حيث انتهى أبو بكر رضي الله عنه، وأبو بكر والناس خلفه قيام.
 
وهذا القول هو الأظهر، والله أعلم، وبه تجتمع الأدلة، ولا يُصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأدلة.

الفائدة الثانية: حديث أنس رضي الله عنه فيه مشروعية متابعة الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر كبروا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد ....)) الحديث، وتقدم الكلام على مفرداته وعدم جواز مسابقة الإمام والاختلاف عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فلا تختلفوا عليه))، وقوله: ((لا تبادروا الإمام))، وقوله: ((إنما الإمام جُنة))؛ أي: ستر ووقاية لمن خلفه، يتحمَّل عنهم بعض متعلقات الصلاة؛ كالخلل الحاصل فيها بالسهو، والسترة ونحو ذلك، ومن كان هذا شأنه لزم اتباعه والائتمام به، وفي هذا عظم حق الإمام.
 
الفائدة الثالثة: الحديث دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر يصيبه من الحوادث ما يصيب البشر، كما في سقوطه عن فرسه، وتأثر جسده بذلك، والأحاديث بنحو أحوال البشر كثيرة.
 
الفائدة الرابعة: في حديث جابر رضي الله عنه دلالة على مشروعية جهر الإمام بالتكبير جهرًا يُسمِع به مَنْ خلفه، ومشروعية المبلغ عن الإمام عند الحاجة كما فعل أبو بكر رضي الله عنه بتبليغه تكبيرات النبي صلى الله عليه وسلم.
 
قال شيخنا العثيمين: مشروعية وضع مكبرات الصوت إذا كان المسجد واسعًا، ولا يسمع الناس بدونه، بناء على مشروعية المبلغ؛ لأن مكبر الصوت أبلغ في الإتمام من المبلغ؛ إذ إن المبلغ سوف يقول بعد الإمام ثم يتبعه الناس، أما مكبر الصوت فسيكون من الإمام مباشرة"؛ [التعليق على مسلم (3/ 103)].
 
الفائدة الخامسة: حديث جابر رضي الله عنه يدل على أن الالتفات في الصلاة للحاجة لا بأس به، ووجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم التفت في الصلاة فرأى الصحابة رضي الله عنهم قيامًا، فأشار لهم أن اجلسوا.
 
الفائدة السادسة: حديث جابر رضي الله عنه يدل على أن المشابهة المنهي عنها تعتبر بالصورة ولو كانت بلا قصد ونية، ووجهه أن الصحابة رضي الله عنهم حين قاموا لم يقصدوا التشبه، ومع ذلك نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحال؛ لما في ذلك من مماثلة لحال فارس والروم من قيامهم على ملوكهم، فالنهي عن المشابهة يتطرق ولو بلا قصد التشبه، وهي مع القصد أعظم إثمًا.
 
الفائدة السابعة: الأحاديث دليل على مشروعية عيادة المريض لفعل الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
 
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الصلاة).

شارك الخبر

المرئيات-١