عمل أهل المدينة في عصر التابعين
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
عَمَلُ أهْلِ المَدِينَةِ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ قَوْلُهُ: (عَمَلُ أهْلِ المَدِينَةِ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ إِذَا لَمْ يُخَالِفِ الكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ فَهُوَ قَرِينَةٌ مُرَجِّحَةٌ): أي: إذا أجمع أهل المدينة المنورة في عصر التابعين على عمل، فهو قرينة مرجِّحة من قرائن الترجيح إذا لم يخالفْه نصٌّ من الكتاب أو السنة.
لأن ما رآه الإمام مالك رحمه الله حُجةً وإجماعًا، وإن لم يصلُح حجة، فيصلح للترجيح؛ لأن المدينة دار الهجرة ومَهبِط الوحي الناسخ، فَيبعُد أن يخفى عليهم[1].
ولأنهم أعرفُ بالكتاب والسنة من غيرهم[2].
أما إذا خالف إجماعَ أهلِ المدينةِ نصٌّ من الكتاب والسنة، فلا يُعدُّ قرينةً مرجِّحة[3].
وعمل أهل المدينة بعد عصر التابعين لا يُعَدُّ قرينة مرجِّحة[4].
مثال [1]: عمل أهل المدينة بعدم صحَّةِ خيار المجلس.
هذا لا يُعدُّ قرينةً مرجِّحة؛ لأنه في مخالفة النصِّ، وهو قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المُتَبَايِعَيْنِ بِالخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا))[5].
مثال [2]: عمل أهل المدينة بالتحريم بالمصَّة والمصَّتين في الرضاع.
هذا لا يُعدُّ قرينةً مرجِّحة؛ لأنه في مخالَفة النصِّ، وهو قول عائشة رضي الله عنها: (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ)[6].
مثال [3]: عمل أهل المدينة بأن الحامل إذا رأت الدم أنها تترك الصلاة.
هذا لا يُعدُّ قرينةً مرجِّحة؛ لأن الحامل لا تحيض، فإذا رأت الدم فإنما هو دم استحاضة ولا تترك الصلاة[7].
مثال [4]: عمل أهل المدينة على ترك الجهر بالبسملة في الصلاة.
هذا يُعدُّ قرينةً مرجِّحة؛ لأنه لم يُخَالَفْ بالكتاب، أو بالسنة.
مثال [5]: عمل أهل المدينة على ترك أخذ الزكاة على الخضروات.
هذا يُعدُّ قرينةً مرجِّحة؛ لأنه لم يُخَالَفْ بالكتاب، أو بالسنة.
مثال [6]: عمل أهل المدينة على الترجيع في الأذان.
هذا يُعدُّ قرينةً مرجِّحة؛ لأنه لم يُخَالَفْ بالكتاب، أو بالسنة.
مثال [7]: عمل أهل المدينة على تقدير الصاع والمُدِّ.
هذا يُعدُّ قرينةً مرجِّحة؛ لأنه لم يُخَالَفْ بالكتاب، أو بالسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والتحقيق في مسألة إجماع أهل المدينة أن منه ما هو مُتَّفَق عليه بين المسلمين، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين، ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم، وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب:
المرتبة الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
مثل: نقلهم لمقدار الصاع والمد، وترك صدقة الخضروات، فهذا مما هو حُجَّة باتفاق العلماء.
المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فهذا حُجَّة عند الجمهور.
المرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين، وَجُهِلَ أيهما أرجحُ، وأحدهما يَعمل به أهل المدينة؛ ففيه نزاع، فمذهب مالك والشافعي، والمنصوص عن أحمد - أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يُرجَّح بعمل أهل المدينة.
المرتبة الرابعة: العمل المتأخِّر بالمدينة، فهذا هل هو حُجَّةٌ شرعيةٌ يجب اتباعه أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحُجَّة شرعية.
وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة، عُلِم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيًا، وأنه تارة يكون حُجة قاطعة، وتارة حجة قوية، وتارة مرجِّحًا للدليل؛ إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين[8].
فائدة: لا يكون إجماع أهل المدينة حجة مع مخالفة مجتهدٍ:
هذا عند جماهير العلماء؛ لأنهم بعض الأمة لا كلُّها؛ لأن العصمة من الخطأ إنما تُنسب للأمة كلِّها، ولا مَدخل للمكان في الإجماع؛ إذ لا أثرَ لفضيلته في عصمة أهله، بدليل مكة المشرفة[9].
وخالف في ذلك الإمام مالك، واحتج بأن المدينة هي مَعدِنُ العلم، ومَنزِلُ الوحي، وبها أولاد الصحابة، فيستحيل اتفاقُهم على خلاف الحق، وخروجهم عنه[10].
ولأن القولَ الباطل خبَثٌ، والخبَثُ منْفِيٌّ عن المدينة بقول الصادق صلى الله عليه وسلم[11]، وإذا انتفى الباطلُ بقيَ الحقُّ، فوجب اتِّباعه[12].
[1] انظر: المستصفى، للغزالي، صـ (377)، والإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (4 /264)، وشرح تنقيح الفصول في علم الأصول، للقرافي (2 /420).
[2] انظر:الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي (4 /264).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (20 /303-311)، وشرح الكوكب المنير (2 /237-238).
[4] انظر: مجموع الفتاوى (20 /303-311).
[5] متفق عليه: رواه البخاري (2107)، ومسلم (1531)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[6] صحيح: رواه مسلم (1452).
[7] انظر: المغني (1 /443-444).
[8] انظر: مجموع الفتاوى (20 /303-311).
[9] انظر: شرح الكوكب المنير (2 /237-238).
[10] انظر: روضة الناظر (2 /472).
[11] أي: قوله صلى الله عليه وسلم: «المَدِينَةُ كَالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا»؛ [متفق عليه: رواه البخاري (1883)، ومسلم (1381)، عن جابر رضي الله عنه].
[12] انظر: شرح الكوكب المنير (2 /237-238).