نفحات قرآنية (30)
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
نفحات قرآنية (30)بيَّنا فيما سبق نشره أنَّ مُصافاة الأعداء ارتباطٌ بقواعدهم، وانفكاكٌ عن الصفِّ المسلم، وذكرنا بعض المواقف المعيَّنة لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته الكرام - رضوان الله عليهم - مواقف تقرِّر مفهوم هذه الآيات في وضوحٍ وجلاء.
ونواصل فيما يلي، وبالله التوفيق.
التوحيد:
والقرآن يشدِّد النَّكير على الحمُرِ المستنفِرة، الجامِحة بولائها نحو القُوى المضادَّة للإسلام، فيلصقهم بالكافرين مرَّة: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51]، ويَسلخهم عن رحابه مرَّة: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾ [آل عمران: 28]، ويَصِفهم بالضَّلال مرة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [الممتحنة: 1]، وينعَتُهم بالظُّلم تارة: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [التوبة: 23]، ويتهدَّدهم بجبروته مرَّة: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 144]، ويُنذرهم بالفِتَن المائجة، والفساد المكتسح تارة: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73].
والإسلام - بهذا الإلحاح الشديد على قضية الموالاة - يَضمن للمسلمين أن يعيشوا في سعَة من دينهم ودنياهم، فلا تعصف بأشرعتهم نوازعُ القربى أو عواطفُ الصَّداقة، أو دوافع الطَّمع والرغبة والتزلُّف؛ ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [المجادلة: 22].
وسدًّا للذَّرائع يضيِّق القرآن الدائرة، ويُحْكِم الرِّتاج؛ حتَّى لا يشوب منهجَ الحقِّ عللُ الباطل؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 23 - 24]، هل ثَمَّة - بعدَ هذا الحصر - ثَغرة؟ وهل بَقِي منفذٌ من منافذ الشَّر إلا سُدَّ؟
إلا أن تتقوا منهم تقاة:
إذا تقرَّر أن الموالاة بمعنى المُباطنة والمُشاورة وإفشاء الأسرار مرفوضةٌ، فإنَّ الخَطْب يكون أفدح إذا بُنِيت تلك الموالاة على معاداة مؤمنين، أو ترتَّب عليها تعبئةُ الموالين ضد المؤمنين كما نرى في قطعان الإلحاد، يُساقون لِيُظاهروا قوى البَغي الملحدة ضدَّ المسلمين في أفغانستان، وإريتريا، واليمَن، والصُّومال...
إلخ.
والقرآن إذْ يَنظر إلى قضية الموالاة هذه النَّظرةَ المستقصية الحَصِيفة؛ يضَع في الحُسبان مواقِفَ الضَّرورة، واحتمالاتِ فترات العوَز، وسنِي الشدة التي قد تَعتوِر المسلمين، فتُفقدهم الوزن، وتطرحهم في عرض الطَّريق.
لذلك يَستثني من القاعدة الولاء الخُلَّب، الذي يُومِض ولا يغيث، ويُبْرِق ولا يَهدي، والذي قد تَقضيه سياسةٌ، أو تَستدعيه مناورة، أو تحتِّمه تَقِيَّة، ذلك قول الله: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [آل عمران: 28].
والآية نزلت تُعلن أنَّ حُسن الظنِّ بالأعداء سذاجةٌ ينبغي أن يتَنَزَّه عنها المسلم؛ فقد خرج عُبَادة بن الصَّامت يوم الأحزاب بخمسمائة من حلفائه اليهود، وقال: يا نَبِيَّ الله إنَّ معي رجالاً من يهود، وقد رأيتُ أن يَخرجوا معي، فأستَظهر بهم على العدو، فتدارك الله الأمر، وبيَّن أن علاقتنا بغير المسلمين ينبغي أن تكون مقنَّنة محدودة، أما أن نَستنفرهم لجهاد، وقلوبهم يُمزِّقها الحقد، فذلك غفلة وقى الله أصفياءه شرَّها، كيف والله يقول: ﴿ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ [آل عمران: 118]؟
والقرآن هنا ينهى عن الإقبال على الكافرين استقلالاً أو اشتراكًا، وعدَّ مَن استمرأ ذلك خبثًا منفيًّا قد انقطع ما بينه وبين دينه إلاَّ أن يكون ذلك تقيَّة.
والتقيَّة المُداراة باللِّسان، مع اطمئنان الجَنَان، وقد يستتبع الموقفَ غَدْوةٌ أو رَوحةٌ يذرُّ بها الرَّماد في أعين الأعداء، ويصنع مِن خلالِها للمسلمين.
روى البخاريُّ عن أبي الدرداء: "إنَّا لنكشِّر (كشَّر عن أسنانه: أبدَى، ويكون في الضَّحك وغيرِه) في وجوه أقوامٍ وإنَّ قلوبَنا لتلعَنُهم"، روي عن معاذ - رضي الله عنه -: "كانت التقيَّة مشروعةً في جدَّة الإسلام"؛ أيْ: يومَ كان غريبًا، "فلمَّا أعزَّ الله الإسلام حرَّم إعطاء الدَّنِيَّة في الدِّين"، فإذا عاد الإسلامُ غريبًا كما بدأ، واغتالت المسلمين الغوائل فلا بأس من مُمارسة التقيَّة؛ لِدَفع شرٍّ، أو جلب خيرٍ يعمُّ الجماعة.
ولا بأس للمتحصِّن بدينه، المشتَمِل بعقيدته أن يَستعين بالكافرين؛ تحرُّفًا لجهاد، أو تقَوِّيًا بعِلم، أو تزوُّدًا بخبرة، أو درءًا لخطر، أو تحالفًا على أمر مباح لا يَكرهه الدِّين، ولا يترتَّب عليه فضْحُ خُطَّة، أو إفشاء سِر، ذلك بشرط اليقَظة الأريبة، والكياسة الفطنة.
والانسكاب في الكُفَّار - كما أوضحنا - نذيرُ رِدَّة، ولكن المؤمن في لحظات جزر الضَّمير وتقلُّصه - قد ينفَصِم عن المقتضَى تحت تأثير ذبذبات الضَّعف الإنساني؛ ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، وحينئذٍ تَهفو نفسه أو تزِلُّ قدَمُه، أو تُخطئ حساباتُه، فيتصرَّف تصرُّفًا نَكِرًا؛ تعوُّذًا، أو اصطناعًا ليد، أو وفاءً بِحق...
إلخ.
وذلك هو ما حدث لأبي لُبابة - رضي الله عنه - يوم نقضَ يهودُ بني قريظة العهدَ، وظاهروا أعداءَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومئذٍ أُحيط بِهم، واضْطُرُّوا إلى النُّزول على حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - وأخذَتْ أبا لبابة أصداءُ عاطفةٍ قديمة، فبادرَهم بالتَّحذير الخفيِّ، مشيرًا إلى حَلْقه، محذِّرًا من ذبحٍ محقَّق، والنفس البشريَّة أمَّارةٌ بالسُّوء، والقلب العامر باليقين قد يتقلَّص في لحظةِ ضعفٍ، ولكنَّه سرعان ما يعود إلى انبساطِه، فيَذْكر اللهَ ويَؤُوب؛ ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].
وهكذا سرى تيَّارُ اليقين في أَوْصال أبي لبابة بعد لحظةِ انقطاعٍ؛ يقول أبو لُبابة: "والله ما زالت قدَماي حتَّى عَلِمتُ أنِّي خُنتُ الله ورسولَه"، وفي صحوته رِيعَ وانزعجَ، وارتَهن نفسه، واعتقل ذاته، حتَّى نزل - فيما يروى - قولُ الله: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 102].
وذلك أيضًا ما حدث لِحَاطب بن أبي بَلتعَة يوم كتَبَ إلى مُشركي مكَّة، يُخبرهم ببعض أمر رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأُوحي إلى رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - فبعث - كما يروي البخاريُّ - عليًّا والزُّبير والمقدادَ - رضي الله عنهم - إلى روضة خاخ، حيثُ الظَّعينة التي مرقَت بالكتاب...
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا حاطب، ما هذا؟)) قال: "يا رسول الله، لا تَعْجَل عليَّ، إنِّي كنت امْرًأ ملصَقًا في قريش، ولم أكن من أنفُسِها، وكان مَن معك من المهاجرين لَهم قراباتٌ بِمكَّة يَحمون بها أهليهم وأموالَهم، فأحبَبتُ - إذْ فاتني ذلك من النَّسَب فيهم - أن أتَّخِذ عندهم يدًا يَحمون بها قرابتي، وما فعلتُ كفرًا ولا ارتدادًا، ولا رِضًا بالكفر بعد الإسلام".
وصدَّقَه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذكر له جهادَه يوم بدر.
هكذا كان القرآن يُحيط بدنيا المُسلمين وآخرتِهم، وهكذا كان يحصي نبضات القلوب، ويرصد خائنة الأعيُن؛ تعميقًا للإيمان، وتربية على الصِّدق؛ ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 29 - 30].
تحذيرٌ مِن بطش الله في إثر تحذير، يَصدعان أولئك الذين يتَّخِذون الكافرين أولياءَ مِن دون المؤمنين، وأولئك الذين يفتَعِلون الأسبابَ، ويصطنعون مواقِفَ التقيَّة، وقلوبُهم تكاد تنفجر من ضغوط النِّفاق والضَّعَة والهَوان؛ ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [آل عمران: 28]، ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].