أرشيف المقالات

بالفهم والإيمان تعود حضارة القرآن

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
بالفهم والإيمان تعود حضارة القرآن

القرآن كلام من نورٍ، أو نورٌ من الكلام؛ فالنور يغشاه من جوانبه، ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]، كما أن القرآنَ هو الأساس الأول لبناء الحضارة الدائمة؛ فقد حوى القرآن الكريم كثيرًا من القواعد العامة في الجانب السياسي والاجتماعي والعسكري، حتى في مجال البحث العلمي ومرتكزاته، ومَن يطَّلع على الأبحاث الحديثة المتعلِّقة بالقرآن، يعلم ذلك، كما أنه لفت النظر إلى كثيرٍ من السنن الكونية والحضارية، الكفيلة ببناء مستقبل علمي رائق؛ لذلك يقول - سبحانه - مخاطبًا المشركين: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، فأين كان العرب؟ وأين كانت حضارتهم قبل نزول القرآن على قلب معلِّم البشرية وسيد ولد آدم؟! حوَّلتهم أنوار القرآن وحضارته من رعاةٍ للغنم، إلى قادة للأمم، يقول صاحب الظلال:
"وما يملك العربُ من زادٍ يقدِّمونه للبشرية سوى هذا الزاد - أي: القران - وما يملكون من فكرةٍ يقدِّمونها للإنسانية سوى هذه الفكرة، فإن تقدَّموا للبشرية بكتابهم ذاك، عرَفتْهم وذكَرَتْهم ورفعتْهم؛ لأنها تجدُ عندهم ما تنتفع به، فأما إذا تقدموا إليها عربًا فحسب بجنسية العرب، فما هم؟ وما ذاك؟ وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب؟ إن البشرية لم تعرفْهم إلا بكتابهم وعقيدتهم، وسلوكهم المستمدِّ من ذلك الكتاب وهذه العقيدة.

لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب؛ فذلك لا يساوي شيئًا في تاريخ البشرية، ولا مدلول له في معجم الحضارة! إنما عَرَفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومُثُله وفِكرته، وهذا أمرٌ له مدلوله في تاريخ البشرية ومعجم الحضارة!".


لذلك يخاطب الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 43، 44]، كما أن القرآن هو التجارة الرابحة التي لا تقبل الخسارة؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29 - 30]؛ فالبيت الذي يقرأ فيه القرآن تحضره الملائكة، وتخرج منه الشياطين، ويتَّسع بأهله، ويكثر خيرُه.
 
والقرآن شفاءٌ من جميع الأدواء القلبية والبدنية، يقول ابن القيم: "القرآن شفاءٌ لجميع الأمراض القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، بشرط الإيمان التام وقبول المحل"، ولا يعني ذلك عدم الأخذ بوسائل الطب الحديثة، ولكن إذا اجتمعتِ الوسائل المادية والمعنوية، كانت أرجى للشفاء، وإن كان من الممكن أن تنفردَ الوسائل المعنوية بذلك؛ فقدرة الله لا يعجزها شيء.
 
والأجلُّ والأعظم من ذلك أنه يدافع عن صاحبه في الموقف العصيب؛ ففيما أخرج مسلم عن أبي أُمَامة الباهلي،قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوينِ: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيانِ يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرْقَانِ من طيرٍ صواف، تحاجَّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذَها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلة)).
 
وهذا غيض من فيض مما ينبغي لكلام الله من الفضل والتوقير، فكما أن الله لا تُحِيط به العيون، فكذلك لا تُحِيط بإدراكِ كلامه وفضلِه الفهومُ، والعبد منا أذا أراد أن يتحصَّل على فضلِه في الدارين، وأن يتأثر به حتى يُقِيم حضارته الراقية الباقية، فلا بدَّ من أمرين:
أولهما: الفهم، وأقصد أن يقف المرء منا على إعجازِه، وروعة بيانه، وأن يغوصَ في أعماقه؛ كي يستخرج من بعض أسراره.
 
قال مجاهد: أَحَبُّ الخلق إلى الله أعلمُهم بما أنزل، ويقول الحسن: والله ما أنزل الله آيةً إلا أحب أن يُعلَم فيما أُنزلت، وما يَعني بها.
 
فقد أعجز القرآنُ عقولَ المشركين أنفسهم لما كانوا على درايةٍ بلغة القرآن، فقد كانوا يتسابقون في الفصاحة والبيان، حتى إنهم عَقَدوا للكلمة سوقًا، وكانت أروج بضاعتهم، ومن ذلك ما ذكره ابن كثير من قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، هو وأبو سفيان صخر بن حرب، والأخنس بن شريق، ولا يشعر واحد منهم بالآخر، فاستمعوها إلى الصباح، فلما هجم الصبح تفرَّقوا، فجمعتْهم الطريق، فقال كل منهم للآخر: ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء له، ثم تعاهدوا ألا يعودوا؛ لما يخافون من علم شباب قريش بهم؛ لئلاَّ يفتتنوا بمجيئهم، فلما كانتِ الليلة الثانية جاء كلٌّ منهم ظنًّا أن صاحبيه لا يجيئانِ؛ لما تقدَّم من العهود، فلما أصبحوا جمعتْهم الطريق، فتلاوَمُوا، ثم تعاهدوا ألا يعودوا، فلما كانتِ الليلة الثالثة جاؤوا أيضًا، فلما أصبحوا تعاهدوا ألا يعودوا لمثلها ثم تفرَّقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة، عن رأيك فيما سمعتَ من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبة، والله، لقد سمعتُ أشياء أعرفُها وأعرفُ ما يراد بها، وسمعتُ أشياء ما عَرَفت معناها، ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفتَ به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه في بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعتَ من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبدمنافٍ الشرفَ؛ أطعَموا فأطعمْنا، وحمَلوا فحملْنا، وأعطَوا فأعطَينا، حتى إذا تجاثينا على الرُّكَب، وكنا كفرسي رهانٍ، قالوا: منا نبيٌّ، يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدِّقه، قال: فقام عنه الأخنس وتركه.

وهذا اعتراف ضمني من أبي جهل بنبوءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإعجاز القرآن؛ فالمشركون بسبب وقوفهم على إعجاز القرآن لم يملكوا أن يحجبوا أنفسهم عن سماعه، هذا طبعًا بجوار ما له من تأثير روحيٍّ عظيم، والشواهد على ذلك كثيرة؛ منها ما حدث من تأثير للشاعر الفحل لَبِيد حينما استمعه، وهو على شِركِه، وغيره كثير.
 
فلذلك حينما دخل الاستعمار إلى بلادنا حارب اللغة العربية قائلين: لن نستطيع أن نتغلَّب على الأمة المحمدية إلا إذا نزعنا الحجاب من على المرأة، وغطَّينا به المصحف، وقال أحد المستشرقين: إذا قُطع اللسان العربي، انقطعتِ الصلة بالقرآن؛ فأصبح المصحف مجرَّد أثرٍ مقدَّس بلغة غير مفهومة.
 
فصوَّروا اللغة العربية كأنها جبل لا يستطيع أحدٌ صعودَه، ونشروا اللغات الأجنبية؛ حتى يقطعوا الصلة بين المسلمين ودستورهم الأول، يقول أ/ أنور الجندي: "إن حملات التغريب تريد أن تفرضَ العامِّية؛ حتى تُقِيم فاصلاً بين العرب والمسلمين وبين معرفة شريعتهم وفكرهم"، فإذا أردنا أن ننتفع بالقرآن، وأن نقيم حضارته؛ فلا بدَّ من العكوف على فهمِ مَرَامِيه، وتوضيح معانيه، خاصة وقد أصبحنا أعاجمَ بالنسبة للُغتنا، بعد أن عَمِل المستشرقون والمستعمرون على ذلك قرونًا عديدة، حتى فصلوا بين المسلمين ودستورهم الأول، والحاجة إلى بيان القرآن وفهمه لا يكفي فيها الآن مجرَّدُ المأثور، بل لا بدَّ من توضيح الإعجاز البياني للقرآن؛ لأن سببًا هامًّا من أسباب تأثير القرآن في النفوس والعقول معرفة جمال وروعة تراكيبه، والتي تحدَّى الله بها الثَّقلينِ؛ فكل كلمة، بل كل حرف في القرآن، جاء لإبراز معنى لا يقوم به غيره.
 
ثانيهما: الإيمان:
عن جندب بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن فتيان حَزَاوِرَة، فتعلَّمنا الإيمان قبل أن نتعلَّم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمانًا"، والآيات كثيرة شاهدة على هذا المعنى؛ فمنها: قوله - سبحانه -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وتصدير الآية بـ"إنما" - كما يقول أهل البلاغة - يُفِيد الحصر، ويقول - سبحانه -: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].
 
يقول قتادة: لم يجالس أحدٌ القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان، قال - تعالى -: ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 124، 125].
 
فمن موانع الانتفاع بالقرآن الإصرار على الذنب، والاتِّصاف بالكبر، يقول - سبحانه -: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146]، قال سفيان بن عُيَينة: "أي: سأنزع عنهم فهم القرآن".
 
وكما قال عثمان: لو طهرتْ قلوبُنا، لما شبعنا من كلام ربِّنا، فإن الذنب يُورِث ظلمة القلب، ولا يجتمع النور مع الظلمة في قلب واحد.
 
فإذا أردنا أن نُقِيم حضارة القرآن، وأن ننتفع بعلومه في الدارين، فلا بدَّ من تطهير القلب، والعكوف على دراسته وفهمه، حينها يفتح الله علينا من أسراره؛ فالقرآنُ لا تفنَى عجائبه، ولا يَخْلقُ على كثرة الرد، يقول ابن مسعود: "إذا أردتم العلم، فأثيروا القرآن؛ فإن فيه علم الأولين والآخرين"، وقال الشافعي: "كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن".
 
نسأل الله أن يجعلَنا من أهل القرآن العاملين به.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢