سحر القرآن وأثره في النفوس
مدة
قراءة المادة :
20 دقائق
.
سحر القرآن وأثره في النفوسللقرآن روحانيةٌ خاصة، وسلطان قوي، وتأثير غير منكور، وتَقشَعِرُّ منه جلود الذين يَخشَون ربهم، ثم تَلِين جلودُهم وقلوبهم إلى ذكر الله.
ولقد صح أن عمر - رضي الله عنه - قبل أن يُسلِم - جاء إلى أخته يُرِيد الفتكَ بها وبزوجها؛ لأنهما آمَنَا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ومالاَ عن دين الأشياخ، وكفَرا بالأصنام، وانسلخا عن عبادة الأوثان، وبعد مشادَّة بينها وبينه، وبينه وبين زوجها كذلك، طلب منهما أن يأخذ ما عندهما من آيات الله؛ ليرى إلى أي مدى افتتنا بها، وحولتْهما عن اللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى، وهنالك يَأبَيَان عليه ذلك، وقالت له أخته: أنت نجس بكفرك الذي أنت عليه، ولا يرضى الله - سبحانه وتعالى - أن يمسه إلا المطهَّرون، فرغب إليهما أن يسمع منه شيئًا، فأسمَعه زوجُ أخته من أول سورة طه، حتى وصل إلى قوله - جل شأنه -: ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾ [طه: 14 - 16]، وحينئذٍ تطامن جامحه، ولان شاقُّه، وهدأت ثورته، وذهب غضبه، وسكن هادره، وسكت غليانه، وشعر كأن المصير المحتوم يهدده، والنار تفتح فاها لتلتهمه، وأنه مُقبِل على يوم ﴿ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا ﴾ [الدخان: 41]، وأخذ وجهه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليُعلِن إليه إسلامه، ويضع في يديه زمامه، وليقول بين يديه كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقال المؤرخون: إن الكفار الذين اشتهروا بالصد عن الإسلام، والكيد له، لم يستطيعوا صرف نفوسهم من حوله، ولا نسيانَ قلوبهم له، ولا إخفاء إعجابهم به، ولا شغْلَ هواجسهم بغيره، ولا تعليق أفئدتهم بسواه، وكانوا يتعاهدون على ألا يحضروا مجلسه، ولا يملؤوا منه أسماعهم، ولا يتركوه ليغزوَ ضمائرهم وأفئدتهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]؛ إلا إنهم كانوا يحنثون من قريب، ويتسللون في جنح الظلام للاستماع إليه، ويختلس كل منهم الفرصةَ المواتية لإمتاع خاطره بعذب بيانه، وروعة جرسه، وجمال منطقه، وخلابة معناه، وبلاغة ألفاظه، فإن رآه أخوه، أو عاتبه صديقه، احتال له الحيل، والْتمس المعاذير، وأقسم له غليظ الأيمان أنه لا يعود، ثم لا يلبث بعد ذلك كله حتى يرتِّب للحنث أسبابَه، ولنكث العهد ما يبرره.
مندوب قريش يفاوض الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -:
أما عُتْبَة بن رَبِيعة، فقد بعثه جماعة من قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان حلوَ الحديث، بليغَ المنطق، قويَّ الحجة، عذبَ البيان، فصيحَ الكلام، وكانت ترجو تلك الجماعةُ أن يحاجَّ القرآن، أو يلحق به بعض الشنآن، أو يُحِيط به رِيبة، أو ينسب إليه عيبًا، فلما استمع إلى ﴿ حم ﴾ السجدة، ودوت في أذنه الآية: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]؛ دارت به الأرض الفضاء، وانتفض انتفاضة انخلعتْ منها نفسُه، واهتز لها قلبُه، وتهدم كيانُه، ومال بنيانُه، وغاب وعيُه وإدراكه، وأيقن أن قيامته قد قامت، فقال له عثمان بن مظعون: لتعلموا أنه من عند الله.
وكان الوليد بن المغيرة، سيد قومه، مطاعًا في أهله، غنيًّا في عشيرته، محظيًّا بين أَتْرَابه، ذا جاهٍ ونفوذ دون أصحابه، وقد تسلل إلى المسجد فسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من القرآن، ولما رجع إلى أهل بيته وغيرهم من العرب، لم يشأ أن يكتم عنهم إعجابَه به، وإكبارَه لنظمه، وتقديرَه لبلاغته، ودهَشَه لبيانه، وذهولَه لمتانة بنيانه، وقوةِ تماسكه، وبراعةِ معانيه، ثم صدرت عنه هذه الشهادةُ المشهورة: "فإن له لحلاوة، وإن عليه لطَلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمُغْدِق، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه، ولا يقول هذا بشر".
وفي تلك الآونة أحس صناديدُ الشرك أن الخطر يتهدَّدهم، وأن الخزي سيحلُّ بهم، وأن العار يجلل وجوههم، وأن هذه الكلمة التي أرسلها الوليدُ ستصيبهم بمثل الصاروخ الموجه، فتوسلوا إليه أن يلطف من شأن هذا التصريح بتعقيب آخر، أو مذكرة تفسيرية؛ رجاء ألا يكون هذا الدَّوِي الذي يوهي عزائمَهم، ويوقف غليانهم، أو يطفئ نيرانهم، ويجعلهم لدى محمد - صلى الله عليه وسلم - أشبه بأسرى الحرب، فقال الوليد: إنه سحر يفرِّق بين الولد وأبيه، والرجل وذويه، وقد نزلت فيه الآيات: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 11 - 25].
وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يقرأ القرآن، فينهال عليه الرجال والنساء والغلمان، يُصْغُون إليه في شَغَف، ويسمعون إليه في لهف، ويحسون بالأثر العميقِ يعتلج في نفوسهم، من جرَّاء هذا الذي سمعوه، وربما حملهم حملاً على التفكير في هذا الحدث الذي أحدثه محمد - صلى الله عليه وسلم - والدراسة الجادة لهذا الأمر الذي يدعو إليه، ثم ينتهي بهم المطاف إلى الإيمان به، والإذعان لدعوته، وكان لهذا الصنيع أثرٌ رهيب عند قريش، خافت منه على مركزها أن يزول، وعلى جاهها أن ينتهي.
فضيَّقتْ على أبي بكر الخناق، وحملته على أن يغادر مكة، ولم يجد هو أمام ذلك العسف إلا أن يهاجر - كما كان المسلمون يفعلون في مثل هذه الظروف - وفي هذا الوقت لقِيَه عظيم من عظماء المشركين، فلما عَرَف قصده، وأدرك غايته، حلف ألا يفعل، وأخذه من يده وطاف به على المنتديات والمجالس، وقال لهم: مثل هذا الرجل لا يَخْرُج ولا يُخرَج، وهو الذي يحمل الكلَّ، ويُقرِي الضيف، ويَكسِب المعدوم، ويُعِين على نوائب الزمن، وليُبلِغ شاهدُكم الغائبَ، أنه منذ هذه اللحظة أصبح في جواري؛ مَن آذاه أو اعتدى عليه، كنت أنا خصمه الذي يرد عليه الكيل، ويريه منه الويل.
ورجع أبو بكر، واتخذ له مسجدًا في داخل داره، يؤدِّي فيه الفرائض الخمس ويقرأ القرآن، وكان في هذا الرجوعِ أملٌ عاود أهلَ مكة، الذين كانوا يتعلَّقون به، والذين تعودوا أن يستمعوا منه القرآن، وكأنما عادت لهم الفتنةُ جذعةً، فتنبهت قريش إلى الخطر الذي يلاحقها، والغزو الذي يقتحم عليها قلوبها، ولم يسعهم إلا أن يذهبوا إلى ابن الدُّغُنَّة؛ ليسحب منه هذا الجوار الذي كان يحميه من عدوانهم، وقد راع ابن الدُّغُنَّة أن أبا بكر يستقبل هذه الرغبة بالارتياح، وراعه كذلك أنه يردف هذا بقوله له: لا حاجة بي إلى جوارك، وأنا في جوار الله الذي له ملك السموات والأرض.
القرآن الكريم وأثره في الجن:
وهذا هو القرآن نفسه يعلن أنه كان يعمل عمله في الجن، ويستولي على جماحهم الشاردة، ونفارهم المتمكن، فلا يسعهم - وقد اخترق حجابَ آذانهم - إلا أن يقولوا لإخوانهم: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾ [الجن: 1، 2].
وقد جاء في الحديث الشريف أن الملائكة كانت تسمع، وبها إليه هزة، ولديها به ولوع، وعندها له هيام، تجتمع له مواكبها المتزاحمة، تروع بكثرتها من يشهد جحافلها المتراصة، وسوادها المؤتلف، والبخاري يروي عن أُسَيد بن حُضَير - رضي الله عنه - قال: بَيْنَا هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكتت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره، رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدَّث النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال له: ((اقرأ يا بن حضير))، قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى، وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فإذا مثل الظُّلَّة، فيها أمثال المصابيح، فخرجتْ حتى لا أراها، قال: ((وتدري ما ذاك؟))، قلت: لا، قال: ((تلك الملائكة دنتْ لصوتك، ولو قرأتَ لأصبحتْ ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم)).
وهذا الحديث على افتراض أنه حديث شعري - نقول هذا على سبيل الجدل للمعاندين - لما للقرآن من هيل وهيلمان، وأثر وسلطان، وهزة عنيفة، أو ارتياح لطيف، وتحريك للوجدانيات حتى عند الحيوانات، مثل فرس ابن حضير؛ فإنه اعتراف بمبدأ واحد نحن نقول به لمن يماري في المزية القرآنية، التي ندعيها لهذا الكتاب، الذي كان من خصائصه هذا الفعل، ومن آثاره ذلك التوجيه، ومن عناية الله به ذلك القبول.
وحين نقول: إنه يسري في النفوس مسرى العافية في الأجسام، لتحيل خمودها إلى نشاط، ومللها إلى انتعاش، وسكونها إلى حركة، لا نقول هذا القول مبالغين ولا متزيدين، ولا واهمين أو كاذبين؛ لأننا ندعمه بهذا الذي قدمناه من أسانيد، ونؤيده بتلك الشواهد، ثم ندعو هؤلاء الجاحدين أن يقلِّبوا أي صفحاته شاؤوا؛ ليروا إلى أي حد هو ﴿ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾ [آل عمران: 7]، وإلى أي حد هو: ﴿ مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ [الزمر: 23]، ولولا أن فيه هذه المزايا ما فتح الله به تلك القلوبَ الغُلف، والبصائر العُمي، والآذان الصُّم، ولا نقل به العرب من ذات الصدع إلى ذات الرجع، في هذا الزمن الوجيز.
أسلوب القرآن:
نزل القرآن على العرب بلسانهم العربي، وبيانهم الأدبي، وبأسلوبهم الذي كانوا يستعملونه في الحوار، ويأخذون به في الحِجَاج، وعلى طريقتهم التي كانوا يسلكونها في الخطاب، فلم يكن بِدعًا من القول، ولا شاذًّا في الحروف والكلمات، أو النسج والتأليف، ولا جديدًا في المفردات والتراكيب؛ لتكون الحجةُ ألزمَ، والإفحام أوجبَ، والخضوع له من أوجب الواجبات: ﴿ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].
وكان من المعروف أن العرب يقدسون الشعر، ويحترمون القصيدة، ويحتفلون بهذا النوع من الكلام الموزون المقفَّى، ويقيمون له الأسواق، ويختارون هنالك المحكِّمين، الذين يرفعون بشهادتهم الشاعرَ إلى الجوزاء، ويجعلون أهله يطاولون به، ويختالون بما نالهم من مجد شامخ، وعظم باذخ، وسُؤْدُد لا يلحقهم فيه أحد من أهل الأرض، على الطول والعرض، ويقول ابن رَشِيق القيرواني في كتابه "العمدة": إنهم ما كانوا يهنِّئون إلا بفرس تنتج، أو شاعر يولد.
وكان للعرب إلى جنب الشعر: الخطابة، والحكم والأمثال، والكلام الذي يرسلونه إرسالاً على نمط الكتابة، وكان منه المسجوع الذي يجيء على ألسنة الكهَّان، وهو ألفاظ متكلَّفة، وجمل ثقيلة، وعبارات هزيلة، وكلام يشبه رقى الجن، فلما أمعنوا النظر في القرآن، ورأوا أنه بحروفهم التي يؤلفون منها، وألفاظهم التي يتخاطبون بها، وأسلوبهم الذي اعتادوا عليه، ظنوا - ولأول وهلة - أنه لا يسمو على مستواهم، ولا يرتفع عن هذا الأفقِ الذي انتهى إليه قُسُّ بن ساعدة الإيادي، وسحبان وائل، أو عنترة، وامرئ القيس، ولكن ظنهم هذا طار مع الريح بعد أن تيقنوا أنه مع ما هو عليه لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، فهل أحدث القرآن جديدًا في الأساليب من حق الكاتب أن يزيدها في ألوان البيان، وحصائد اللسان؟ وإنه جدير أن يسمَّى في تاريخ الأدب، أو في علوم البلاغة: "أسلوب القرآن".
والباحثون في الأدب وصلوا في نهاية البحث عن الأساليب إلى أن للقرآن - وحده - أسلوبًا انفرد به، وإذا كان للشعر أوزانه التي يعتمد عليها في خلق الموسيقا التي يطرب لها السامع، وخياله الذي يسبح فيها، وصوره التي يخدع بها، وألوانه المتعددة التي تجعل المخاطبَ أسيرًا للمتكلم، لا يخرج عن سلطانه، ولا يتجاوز مناطق نفوذه، وللخطابة - كذلك - سحرها الخلاَّب، وقهرها الغلاب؛ فإن القرآن الكريم مع تفاديه بداءةَ الشعر، وجفافَ مَعِين القول، وثقلَ منطق الخطابة، قد جاء بكلام له نفح الزهر، وخلابة السحر، وقوةُ المنطق، وجمال الروض، وروعةُ الندى، وموسيقا البلابل، وسلطانُ القضاء، وحكم القدر، وكان تعبيره من السهولة والوضوح، والسلاسةِ والرقة، والخفةِ والحسن، بحيث لا يَمَلُّه قارئ، ولا يبغضه سامع، ومع هذا كله لم يكن شعرًا ولا خطبة، ولا سجع كهان، ولا على نمط ما يرسلونه، وهنالك ضل صوابُهم فيه، وحار ذهنهم معه، ودهشت له عقولُهم وأفكارهم، وتقوَّلوا كل قول كاذب، ووهم خائب.
واذا كان المشتغلون بتاريخ الأدب قد قسَّموا النثر إلى أدبي وعلمي، وقد جاء فيه أمثلة لهذا وهذا؛ فإننا لا يَعنِينا أن نذهب مذهبهم، ولا أن نجريَ على طريقتهم؛ وإنما يَعنِينا أن نعرض لأثر من آثار القرآن كانت له روعته البالغة، ذلك هو غزوُه للشعر وإرغامه له، وتعاليه عليه بما جاء به من ألوان كانت جديدة على الناس، وكان لا بد أن تهزهم هزًّا عنيفًا، وأن تشغل بالَهم إلى حد أن يحتقروا الشعر الذي تخلف بيانُه، وكبا به جواده، وضاق عَطَنُه، وقد زاحمه في كل سبيل، وغلَبَه في كل ميدان.
فمن حديثه في الوصف قوله - سبحانه - في تصوير خيبة آمال الكفار يوم القيامة، وقد ظنوا أنهم قدموا - في الدنيا - من الأعمال ما يحميهم من عذاب الله في يوم الجزاء، وأن هذه لا تعدو أن تكون: ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ﴾ [النور: 39]، وهي - كما ترى - صورة تمَّتْ لها أسبابُ الروعة، ووسائل الحُسن، تتحدث عن إنسان في مفازة قاحلة، بعيدةٍ عن العمران، يجوبها هذا الظامئ؛ طلبًا للماء، يبدو له على البُعد ما يشبهه، فيدفعه الظمأ الشديد للإقبال عليه، مستهينًا بالتعب الذي يلاقيه، والنَّصَب الذي يكده ويهده، ولكنه بعد الأَيْن والإعياء، يتكشف له الحال، وتظهر له خيبة الأمل؛ إذ لم يجده شيئًا، وهو وصف رائع، ورسم دقيق، زاد في روعته وحسن تصويره، ذلك الترقي في جانب الكافر أنه مع هذا العمر الذي قطعه، والأيام التي أمضاها، والأمل الخائب، والرجاء الكاذب، والعناء في غير جدوى، ستكون خسارته مزدوجة ﴿ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ﴾ [النور: 39].
تهديد المنفاقين:
ومن حديثه في التهديد: ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 81 - 85].
فهو يتهدَّدهم بنار جهنم، التي هي المصير المنتظر، ولئن كانوا يسخرون من المؤمنين أو يضحكون، فسوف يكون بكاؤهم أكثرَ، ودمعُهم أغزرَ، وأسفهم شديدًا، ومثل هؤلاء لا يخرجون للقتال؛ لأنهم عناصر هزيمة، وجرثومة فساد، وليس من حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصلِّي على موتاهم، أو يزور قبورهم، أو يطلب لهم الرحمة من الله، ولئن كانوا في غنى عن المال، وكثرةٍ من الأولاد؛ فإن ذلك ابتلاء من الله لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، وما أظن أحدًا يرتسم له مستقبله بتلك الخطوط، يكون له أمل في يومه، ولا رجاء في غده، أو تماسُكٌ في قواه، أو ترابُطٌ في مفاصله.
وهكذا كان القرآن في كل الأبواب التي طرقها الشعر، حتى في أبواب الملاحم والمعارك، ولا تعدم إذا تطلبتَ الشواهدَ لذلك كله أن تجدها فيه، وإنما يزيد أن نقول: إن له أسلوبه الذي يتميز به؛ من الدقة، والتماسك، والروعة، والجمال، والحسن.
وهو - في الأصل - كتاب تشريع وهداية، وتهذيب وإصلاح، ودعوة إلى الإيمان بالله وتوحيده بالإجلال والتقدير، والعبادة والتعظيم، وانتشال البشرية من الجهل والتخلف، ومثله - وهو صاحب رسالة خاصة - ما كان ينتظر منه إلا أن يكون جافَّ المَعِين، غليظَ الديباجة، خَشِن الخطاب، جامدَ الأدب، تُحِيط بمن يرتبط به الملالةُ والنفور، والقلق والاضطراب، ولكنك لا تجده إلا على العكس من ذلك كله، يُشِيع في نفسك البهجةَ والسرور، والغبطةَ والارتياح، والشوقَ والترقب، والأملَ والتطلع.
ولئن كان أحسن ما انتهى إليه الناسُ في النثر الأدبي، أن يكون مرسلاً من القيود، خاليًا من الصنعة، بعيدًا عن التكلف، حرًّا مما يُثقله من الالتزامات البغيضة، وأن يكون كابن المقفَّع في العصر العباسي، أو المنفلوطي في العصر الحاضر - فإن له منهجًا غريبًا في أسلوبه، يجيء بالفواصل حتى تظنه يلتزم بها، ثم تراه يتركها، وينوِّع تلك الفواصل طولاً وقصرًا، كما ينوع الحرف الذي تنتهي به الفاصلة، وتجيء الآيات منه طويلة وقصيرة كذلك.
ونحن إذا ذهبنا نتقصَّى كلَّ هذه الخصائص، أجهدَنا السيرُ، وأتعبَنا البحثُ، غير أن الذي يسترعي انتباهَنا من كل ذلك أنه نزل على العرب، وللشعر - فيما بينهم - دولة قائمة، وسلطان مرهوب، وأنه استطاع أن يقضي على تلك الدولة، ويقلم أظافر هذا السلطان، والعرب الذين كانوا يعلمون أن هذا الصنيع لا يكون إلا للشعر أو السحر، رموه بكونه شعرًا، وبكونه سحرًا، وقد نزَّهه الله - سبحانه وتعالى - عن أن يكون شعرًا، بقوله عن نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ﴾ [يس: 69]، وإن كانت الهزة التي تصيب قارئَه لا تقل عن تلك التي تصيب قارئ الشعر، بل تربو عليها.
إن من أبرز خصائص الشعر الموسيقا، التي يساعد عليها - إلى جانب الوزن العروضي - اختيار الألفاظ، وترابطها، وتناسبها، وتنسيق الجمل، وقوة النسج، وقد تكامل ذلك للآيات البينات، فكانت عقودَ جُمان، وروعة جنان، تبعث على الإعجاب، وتدعو إلى التقدير.
كذلك من خصائص الشعر أنه يثور بالأفئدة، ويطير بالجوانح، ويهز أوتارَ النفس، ويتلاعب بالشعور، ويسمو بالخيال، وفي القرآن أمثلةٌ من هذا النوع لا تدخل تحت حصر.
وله بعد ذلك كله لفتاتٌ بلاغية، تحتاج وحدها إلى أساتذة فن القول، ورجال معايير الكلام.