أرشيف المقالات

ديناميكية البعد النفسي الداخلي في القرآن الكريم

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
ديناميكية البعد النفسي الداخلي
في القرآن الكريم

القرآن الكريم يتعامل مع النفس الإنسانية بديناميكية لا نظير لها، ونعني بها حركة القرآن في الإنسان، أي حركته بين العقل والعاطفة، وما يثيره من كوامن الفكر والخيال والإبداع، وقدرته على تغيير ما في النفس، واستجاشته لها ودفعها في دروب الخير والفلاح، ولم يجتمع هذا التأثير في النفس البشرية وتوجيهها وتهذيبها والسمو بها في أقل وقت ممكن كمثل ما اجتمع للقرآن الكريم، ويعود هذا لأسباب:
السبب الأول: معرفة الله لهذه النفس البشرية، فهو الذي خلقها، وهو الذي بث فيها الانفعالات والشهوات والميول والغرائز، قال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 7-8]، ومن ثم كان أسلوب القرآن [يخاطب العقل والقلب معا، ويجمع الحق والجمال معا، انظر إليه مثلا وهو في معمعان الاستدلال العقلي على البعث والإعادة في مواجهة منكريهما، كيف يسوق استدلاله سوقا يهز القلوب هزا، ويمتع العاطفة إمتاعا، بما جاء في طي الأدلة المسكتة المقنعة، إذ قال الله سبحانه في سورة فصلت: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فصلت: 39]...
تأمل في الأسلوب البارع، الذي أقنع العقل، وأمتع العاطفة في آن واحد]
[1]
 
السبب الثاني: دعوته عز وجل للتأمل في آثار قدرته من خلال النفس البشرية، قال تعالى: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذريات: 21]، فهذه النفس معجزة من معجزات لله تعالى، وتتبع أحوالها وخصائصها في حركاتها وسكناتها مما يقود إلى الإقرار بوحدانيته عز وجل.
 
السبب الثالث: طاقة العبارة القرآنية، وذلك يرجع إلى أن [القرآن الكريم إنما ينفرد بأسلوبه، لأنه ليس وضعا إنسانيا ألبتة، ولو كان من وضع إنسان لجاء على طريقة تشبه أسلوبا من أساليب العرب أو من جاء بعدهم إلى هذا العهد...
وما دامت قوة الخلق ليست في قدرة المخلوق، فليس في قدرة بشر معارضة هذا الأسلوب ما دامت الأرض أرضا]
[2]
 
السبب الرابع: تشخيصه عز وجل للعوارض التي تنتاب النفس البشرية، ففي حالة الكفر قلوب مقفلة لا تفقه ولا تتعلم، قال تعالى: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7]، وفي حالة النفاق قلوب مريضة تخاف على مصالحها الدنيوية إذا انخرطت في ميدان الدعوة، قال تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10]، وفي حالة الإيمان قلوب مطمئنة رضية سعيدة بذكر الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، وفي حالة السمو والإشراق يبدو الإيثار سمة الأنصار، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]، وفي حالة الهلع والفزع يبدو طيش المنافقين وحمقهم، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4].
وفي حالة الأمومة يبدو الحزن والشفقة في قصة موسى عليه السلام، قال تعالى: ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 13].
وفي حالة التوبة والعرفان، تفيض الدموع منهمرة في محراب الإيمان، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83]، وكذا الشأن في حالة الفقراء من المؤمنين عند الجهاد حيث تنبعث الدموع صادقة لعدم التمكن من المشاركة فيه، قال تعالى: ﴿ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 92]، وفي مقابل هذه الصورة هنالك هلع ورعب من الحرب في نفوس المنافقين المترددين في إيمانهم، قال تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 20]، بل إنهم ليفرحون بسلامتهم عند عزوفهم عن مواطن البأس، وينددون بأصحابهم ممن شاركوا فيه، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 168]، وفي الخلافات الزوجية يكون الصراع حول المال والمهر، قال تعالى: ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ [النساء: من الآية 128].
 
وبعد أن استعرضنا أسباب اهتمام القرآن بالنفس البشرية وتأثيره فيها، نحلل بعض الأمثلة من الآيات القرآنية التي تدل على ديناميكية القرآن في حديثه عن النفس البشرية:
المثال الأول نموذج من قصة موسى، وهو قوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، هاهنا أم خائفة على فلذة كبدها، فيأتيها الأمر بإرضاعه في المرحلة الأولى، فإذا شعرت بالخطر يتهدد طفلها من فرعون وزبانيته فيجب أن تلقيه في النيل، ولكن كيف تلقيه وقد يغرق أو يهلك؟ّّّّ! هنا يأتي النهي عن الخوف والحزن، فالعناية الإلهية تكلؤه، ثم تأتي البشارة بعد ذلك بعودته إليها، وأنه سيكون له مستقبل باهر بحمل رسالة رب العالمين، لقد امتزج في هذه الآية الوحي بحديث النفس بالبيئة والواقع، حيث [أتى في هذه الآية الكريمة بأمرين ونهيين وخبرين متضمنين بشارتين في أسهل نظم وأحسن لفظ وأوجز عبارة، ولم يخرج عن الحقيقة في شيء من ذلك] [3]
 
المثال الثاني: نموذج من قصة موسى أيضا: قال تعالى: ﴿ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ﴾ [طه: 40]، في هذه الآية وصف مختصر لحياة الرسول موسى عليه السلام من المهد إلى حين أتته الرسالة، ويظهر فيها عناية الله سبحانه، حيث رده إلى أمه، فهدأت وفرحت، ثم قتل نفسا بالخطأ فأذهب الله عنه الغم من فعل ذلك، ثم يذكره بجملة أحداث منَّ الله عليه بتجاوزها، وذلك في قوله: ﴿ وفتنَّاكَ فُتُوناً ﴾.
قال الزمخشري في تفسير الآية: [سأل سعيد بن جبير ابن عباس رضي الله عنه، فقال: خلصناك من محنة بعد محنة، ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، فهذه فتنة يا ابن جبير، وألقته أمه في البحر، وهم فرعون بقتله، وقتل قبطيا، وأجر نفسه عشر سنين، وضل الطريق، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة، وكان يقول عند كل واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير.
والفتنة: المحنة، وكل ما يشق على الإنسان، وكل ما يبتلي الله به عباده فهو فتنة]
[4].
واضطر للهرب باتجاه مدين، وفي طريق عودته منها تأتيه الرسالة في طور سيناء، ويظهر من خلال هذه الآية تداخل الأحداث المتتابعة مرفقة بعناية الله تعالى، مع تصوير ما في نفس موسى عليه السلام بأبلغ عبارة وأوجزها.
 
المثال الثالث: نموذج من وصف المعارك الإسلامية، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 154]، هذه الآية في وصف مشهد من مشاهد معركة أحد، وكانوا قد أثخنتهم الجراح، فأراد الله تعالى أن يخفف عنهم، فألقى عليهم النعاس فناموا، قال ابن مسعود: [النعاس في القتال من الله، وفي الصلاة من الشيطان] [5]، ولكن المنافقين لم يغمض لهم جفن، فهم في خوف وقلق وفزع، يظنون بأن الله لن ينصر نبيه، وأنه سيخذله، ويتساءلون فيما بينهم عن كثرة الشهداء من المسلمين في تلك المعركة، فيفضح الله ما في نفوسهم، ويبين أن ذلك كله بعلمه وأمره وقدره، ليميز الخبيث من الطيب، والمسلم والمنافق، وهو العليم بكل شيء سبحانه وتعالى.
هكذا تداخلت في هذه الآية الأحداث مع ما يصاحبها من أقوال وتفسيرات مع خطرات الأذهان وخلجات النفوس، وهذا من عظمة التعبير القرآني وديناميكيته أن تتداخل في آية واحدة أمور كثيرة، مما يجعل العقل ينتبه، والفكر يبحث وراء كل كلمة من هذه الآية وما تؤديه من دلالات خلال السياق.
 
المثال الرابع: نموذج من وصف القرآن للحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ﴾ [الكهف: 45].
هذه هي حقيقة الحياة الدنيا التي يحبها الناس ويقتتلون عليها، ماء عذب طهور ينزل من السماء، فتشربه الأرض وتنبت به الكلأ والعشب، وما هو إلا وقت يسير حتى ييبس بعد ذلك ويتحطم ويتناثر مع هبوب الرياح، وكل ذلك يحصل بأمره وقدرته عز وجل.
وهذا المثل ينقلك عبر رحلة الماء بالطبيعة من البداية إلى النهاية، وهكذا أيضا رحلة الإنسان مراحل سريعة التبدل والتغير سرعان ما تنتهي وتتلاشى، وفي ذكر الماء دون غيره لأنه إكسير الحياة، وتتوق إليه النفوس، وفي ذكر الهشيم إشارة إلى الفناء المطلق الذي يعقب النمو والخضرة والازدهار الذي تقر به عين الإنسان، لقد نقلت الآية أفكارنا وأخيلتنا لتتبع حركة الماء بين السماء والأرض ونتيجة تلك الحركة، مراعية ما في نفوسنا من حب للحياة كحبنا للماء، وكاشفة لنا عن المصير المشترك للماء والحياة معا! إنه تعبير معجز تمتزج فيه مشاعر الإنسان بأحداث الطبيعة لتطل عليه الحقيقة المطلقة بعد ذلك: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ﴾.
 
المثال الخامس: وصف للصراع على وجه الأرض بين الإيمان والكفر في النفس والمجتمع على حد سواء، قال تعالى: ﴿ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ [الرعد: 17].
هنا وصف لأحداث الحياة في مجملها وهي صراع بين الحق والباطل، والقيمة في النهاية للحق، وإن علا الباطل فوقه إلى حين، والعجيب أن تبدأ الآية وكأنها تتحدث عن مشهد من مشاهد الطبيعة، أو مشهد من مشاهد البيئة الصناعية في الحياة، فهذا ماء ينزل من السماء، فيأخذ كل واد بحسبه، وتسيل الأودية بهذا الماء العذب، ويعلوه زبد راب [أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الودية زبد عال عليه] [6]، وصورة الزبد الذي يكون فوق الماء هي نفسها صورة الزبد الذي يكون فوق الذهب والفضة، أو الحديد والنحاس ونحو ذلك، ثم تكون النتيجة أن الزبد يذهب ويتفرق في أطراف الوادي، وكذا خبث المعادن يذهب ولا يبقى إلا المعدن الذي ينتفع به، وتأتي بعد ذلك نقلة جديدة في سياق الآية: ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ فالآية لم تكن لتتحدث عن حدث كوني ما لم تربطه بالدعوة والواقع: هذا هو حال الحق والباطل، يلتقيان ويتصادمان، فيندثر الباطل العالي المنتفش، ويبقى الحق الذي ينفع الله به الناس صامدا في الأرض، سواء كان هذا على صعيد الفرد أو الجماعة، حيث ورد عن ابن عباس قال: [هذا مثل ضربه الله، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه عمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله] [7]
 
المثال السادس: وصف لنفسية الملائكة، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، فها هنا نفوس مطهرة لا تحب إلا التحميد والتقديس، فهي تحاور ربها بشأن هذا الخليفة، ويأخذها التعجب: كيف يكون خليفة يفسد ويقتل؟! فيرد الله عن تساؤلها بعلمه المحيط، فلو كان هذا شأن الخليفة لما استحق هذا الاسم، ولكن الله عز وجل يعلم أنه سيرسل رسلا، ويجعل من البشر شريحة صالحة تسبح له، وقد تكون عنده كالملائكة أو أقرب، وهذا ما لم يدر في خلد الملائكة يوما، حين رسموا صورة مظلمة لهذا الخليفة وهم لا يعلمون أن هنالك صورة مشرقة أيضا بعلم الله وبهذا يكتمل مشهد الخلفاء، فمنهم شقي ومنهم سعيد.
 
المثال السابع: وصف من قصة مريم، قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45].
 
المثال الثامن: وصف وتحليل لنفسية المرأة، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 31-32]،.
ها هنا امرأة تفتن بجمال فتاها، وتراوده، فيأبى، وينتشر الخبر بين الناس، فتريد أن تبرر عملها، فتقوم بتجربة ذكية، فتعد لهم مجلسا وطعاما يحتاج أن يقطع بالسكين، وتأمره بالخروج عليهن، فيشدهن بجماله، وتذهب السكاكين بشكل لا شعوري لتقطع الأيادي بدلا من الثمرات، إنه الجمال الذي يذوب أمامه الإحساس بالذات، ويفقد المرء نفسه في محرابه، فتجد بفعلهم امرأة العزيز مبررا لفعلها، فتعلن بصفاقة أنها ستعاقبه أشد العقاب، وستذله وتهينه إذا لم يطاوعها في ما تريد.
لقد رسمت الآيتان هنا صورة متكاملة لمشاعر الأنوثة الصارخة في متحف الجمال، وهذا لعمر الله هو السحر الحلال الذي لا يستطيعه أديب ولا شاعر مهما أوتيا من قوة الخيال ودقة الوصف وحسن التعبير، وكفاك بهذين الآيتين دليلا على إعجاز الكتاب المبين.
 
والخلاصة:
هي أن القرآن الكريم كتاب له من قدرة التأثير في النفس البشرية وتهذيبها وتعليمها وتقويمها وتوجيهها وكشف عوارها وضعفها في حالة الكفر والنفاق، وبيان قوتها وسموها في حالة الإيمان، واستجاشتها ودفعها في دروب الخير، له في هذا كله ما ليس لكتاب غيره، وكفى بهذا معجزة ودليلا حسيا ساطعا على أنه من لدن حكيم خبير.



[1] مناهل العرفان في علوم القرآن، للزرقاني، [2/313-314]، دار الفكر.


[2] تاريخ آداب العرب، للرافعي، [2/203-204].


[3] تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، تحقيق الدكتور حفني شرف، ص [469].


[4] الكشاف للزمخشري، تصحيح مصطفى حسين أحمد، [3/64].


[5] مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني، [1/329]، دار القرآن الكريم، بيروت، الطبعة السابعة، 1402هـ/1981م.


[6] المرجع السابق، [2/276].


[7] المرجع السابق، [2/277].

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣