أرشيف المقالات

التفسير المفهوم لسورة النبأ

مدة قراءة المادة : 20 دقائق .
التفسير المفهوم لسورة النبأ
 
الحمد لله منزل الفرقان، والصلاة والسلام على خير من فسَّر القرآن وعلى آله وصحبه الأعلام.
وبعد:
سورة النبأ مكيَّة، أيْ: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، عدد آياتها إحدى وأربعون.
 
﴿ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴾ [النبأ: 1، 2] الاستفهام للإنكار، أيْ: كيف يسأل الكفار بعضهم بعضًا عن صدق القرآن وهو النبأ العظيم، وقد دلت بلاغته ومعجزاته وكتُب السابقين على أنه من عند الله، وقيل في النبأ العظيم: هو يوم القيامة الذي يُبعث فيه الناس للحساب والجزاء على أعمالهم.
 
﴿ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ﴾ [النبأ: 3] أيْ: حال الناس أنهم منقسمون إلى فريقين، فمنهم مؤمن بالقرآن وما جاء فيه، ومنهم مكذب به؛ قال سبحانه: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29] وقال أيضًا: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7].
 
﴿ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ﴾ [النبأ: 4، 5] هذا ردع وتهديد مؤكد شديد، أيْ: سيعلمون أن القرآن حق من عند الله وأن البعث حكم الله العادل حين تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، ويرون العذاب في قبورهم، وفي يوم القيامة؛ قال سبحانه: ﴿ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الصافات: 20، 21].
 
﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ﴾  [النبأ: 6] أولا يكفيكم دليلاً على وجود ربكم وكمال صفاته وصدق نبيّه وقرآنه وما تضمنه من البعث والجزاء أنه سبحانه وتعالى جعل لكم الأرض فراشًا ثابتًا منبسطًا صالحًا لعيشكم وحركتكم؛ قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾ [البقرة: 21، 22].
 
﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ [النبأ: 7] أيْ: تستقر بها الأرض وتثبت وتتَّزن، كما تثبت الخيمة بالأوتاد؛ قال سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ﴾ [الرعد: 3]، وقال أيضًا: ﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [النحل: 15].
 
﴿ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴾ [النبأ: 8] أيْ: ذكرًا وأنثى، وجعل بينهما السكينة والمتعة، والتكامل؛ بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر، ويحصل الاستقرار الاجتماعي والتناسل الذي تستمر به الحياة؛ قال سبحانه: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].
 
﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴾ [النبأ: 9] أيْ: سببًا لتوقُّف أشغالكم ومعايشكم وحركتكم؛ حتى تحصل الراحة النفسية والبدنية وتستجمعوا الطاقة ليوم آخر؛ قال سبحانه: ﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ [النبأ: 9 - 11].
 
﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾ [النبأ: 10] أيْ: ساترًا بسواده لتحصل لكم فيه الراحة والسكينة؛ قال سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ﴾ [يونس: 67].
 
﴿ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ [النبأ: 11] أيْ: مضيئًا ملائمًا لحركتكم وتنقلكم وعيشكم؛ قال سبحانه وتعالى في بيان نعمة الليل والنهار: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص: 71 - 73].
 
﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴾ [النبأ: 12] أيْ: سبع سماوات عظيمات في خلقهن محكمات في بنائهن مزينات بالكواكب والنجوم، بحيث لا يسقط شيء منها عليكم من قوة خلقهن؛ قال سبحانه: ﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 32] وقال أيضًا: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴾ [النازعات: 27].
 
﴿ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ﴾ [النبأ: 13] أيْ: شمسًا مضيئة متقدة تنير الأرض؛ قال سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ [يونس: 5].
 
﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ﴾ [النبأ: 14] المعصر هي المرأة التي اقترب حيضها؛ لذا سمي السحاب في هذا السياق بالمعصرات لاقتراب صبِّها الماء، وقيل: الرياح، ثجاجًا: وصف لنزول المطر، أيْ: كثيرًا، منصبًا، متتابعًا.
 
﴿ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ﴾ [النبأ: 15] أيْ: من فضل الله على عباده ومن آيات عظمته أنه يخرج بالماء حبًّا مختلفًا أنواعه كالقمح والشعير والذرة، يقتات منه الناس والبهائم، ونباتًا مختلفًا لونه وطعمه كالتين والزيتون والكرفس والقزبر وغيرها، قال سبحانه: ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]، وقال أيضا: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ﴾ [فاطر: 27]، وفي آية أخرى ﴿ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ﴾ [الزمر: 21].
 
﴿ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴾ [النبأ: 16] أيْ: بساتين مختلفة الثمرات والنبات والألوان متجاورة؛ قال سبحانه: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الرعد: 4].
 
﴿ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ﴾ [النبأ: 17] أيْ: إن يوم القيامة مؤقت أجله عند الله لا يعلمه إلا هو، وسمي بيوم الفصل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يبعث فيه الخلائق؛ فيفصل فيه بالحق بين الظالم والمظلوم، وبين الكافر والمؤمن، قال سبحانه: ﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ﴾ [هود: 104]، وقد أتت بعد بيان نعم الله على خلقه؛ لتذكير الناس بنعم الله عليهم، وغاية خلقهم التي هي العبادة الخالصة له سبحانه، وأن الإنسان سيحاسب على تلك النعم والآيات الكونية، هل سخَّرها في طاعة ربه واعتبَر بها أم لا؟ قال سبحانه: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190] وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((ويل لمن لم يتفكر)).
 
﴿ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴾ [النبأ: 18] أيْ: حصول القيامة يوم ينفخ الملك إسرافيل عليه السلام في قرن، فيُبعث الناس جماعات جماعات إلى أرض المحشر والمنشر التي هي الشام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين النفختين أربعون، ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظمًا واحدًا وهو عجب الذنب ومنه يُركب الخلق يوم القيامة)).
 
﴿ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ﴾ [النبأ: 19] أيْ: شقَّت السماء؛ فتظهر فيها طرق ومسالك تنزل منها الملائكة.
 
﴿ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴾ [النبأ: 20] أيْ: نسفت وذهبت عن أماكنها؛ فيُخيَّل إلى الناظر أنها شيء وليست بشيء، ثم يزول أثرها فتظهر له الحقيقة؛ قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ﴾ [طه: 105 - 107].
 
﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴾ [النبأ: 21] أيْ: مُعدَّة.
 
﴿ لِلطَّاغِينَ مَآبًا ﴾ [النبأ: 22] أيْ: للكافرين والعصاة نزُلاً ومرجعًا ومصيرًا؛ قال سبحانه: ﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 24] وقال أيضًا: ﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴾ [الجن: 15].
 
﴿ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ﴾ [النبأ: 23] أيْ: يمكثون في النار زمنًا لا حد له، والأحقاب جمع حُقب بضم أوله، قيل: أربعون سنة وقيل: سبعون سنة، وقيل: ثمانون سنة، كل يوم كألف سنة مما تعدون، والصحيح - والله تعالى أعلم - أنَّه زمن لاحد له، خاص بالكفار، وأما العصاة من المسلمين فإنهم يخرجون منها؛ إذ قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ [البينة: 6].
 
﴿ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ﴾ [النبأ: 24] أيْ: لا يجدون في جهنم بردًا يُذهِب حرَّهم، وقيل: لا يجدون فيها نومًا يذهب تعبهم ونصبهم، ولا شرابًا عذبًا يذهب ظمأهم.
 
﴿ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ﴾ [النبأ: 25] أيْ: ليس لهم في النار إلا ماء حارٌّ مُحرِق، وقيح أهلها، قال سبحانه: ﴿ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 15]، وقال أيضا: ﴿ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ ﴾ [إبراهيم: 15 - 17].
 
﴿ جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 26] أيْ: العذاب الذي أصابهم في النار يوافق كفرَهم وإفسادهم في الدنيا، وهذا من تمام عدله سبحانه، ومن دقة قسطه، ومن صِدْق وعده، ومن انتقامه لعباده، قال سبحانه: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، وقال أيضا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [النساء: 40].
 
﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ﴾ [النبأ: 27] أيْ: حال الكفار أنهم كانوا في الدنيا لا يعتقدون البعث بعد الموت والجزاء في الآخرة؛ لذا كانوا يقترفون السيئات، ويُقبلون على الملذات من غير وازع، قال سبحانه: ﴿ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الصافات: 20، 21].
 
﴿ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ﴾ [النبأ: 28] أيْ: كذبوا بالقرآن والسنة تكذيبًا شديدًا مُتَكلَّفا مُبالغًا.
 
﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ﴾ [النبأ: 29] أيْ: كل عمل عمله العباد فإن الله يعلمه ويكتبه في اللوح المحفوظ وفي صحائف العباد؛ ليحاسبوا عليها يوم القيامة، قال سبحانه: ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ﴾ [القمر: 52، 53]، وقال أيضا: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 16 - 18].
 
﴿ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ﴾ [النبأ: 30] أيْ: يُقال لأهل الجحيم: ذوقوا عذاب الحسرة والندامة والحريق جزاء على كفركم وانحرافكم وإعراضكم، كلما استغثتم نزيدكم عذابًا فوق عذابكم، قال سبحانه: ﴿ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 29]، وقال أيضًا: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾ [فاطر: 36]، ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ﴾ [النبأ: 31] أيْ: إن للذين اتقوا عذابَ ربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، متنزَّهًا في الجنة، قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54، 55]، وقال أيضا: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ [الحجر: 45]، وفي آية الطور: ﴿ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ﴾ [الطور: 17].
 
﴿ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ﴾ [النبأ: 32] هذا وصف للجنة، أيْ: فيها بساتين مليئة بالأشجار والثمار والأعناب والورود.
 
﴿ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ﴾ [النبأ: 33] أيْ: فيها جواري تكعَّبت أثداؤهن؛ لأنهن أبكار أتراب، أيْ: في سنٍّ واحدة.
 
﴿ وَكَأْسًا دِهَاقًا ﴾ [النبأ: 34] أيْ: كؤوسها متتابعة صافية مملوءة بخمر الجنة ولبنها وعسلها ومائها وغير ذلك.
 
﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ﴾ [النبأ: 35] أيْ: لا يسمع أهل السعادة في الجنة كلامًا لا فائدة فيه ولا كذبًا، قال سبحانه: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا ﴾ [الواقعة: 25، 26]، وقال سبحانه في سورة مريم: ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا ﴾ [مريم: 61، 62].
 
﴿ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ﴾ [النبأ: 36] أيْ: جازاهم الله على إحسانهم بعدله وأوسع لهم العطاء بمنه وفضله وكرمه وبالغ لهم في العطاء بإحسانه ورحمته، تقول العرب: أعطاني فأحسبني، أيْ: أكثر عليَّ حتى قلتُ حسبي، قال سبحانه: ﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 34، 35]، وقال أيضا: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26].
 
﴿ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ﴾ [النبأ: 37] أيْ: خالق السموات والأرض وما فيهما من الخلق ومالكهم ومسيِّرهم، الرحمن اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه صاحب الرحمة الواسعة التي تشمل كلَّ الخلق، فلولا رحمته لما رزق الكافر قطرة ماء، لا يملكون منه خطابًا، أيْ: لا يستطيع أحد ابتداء مخاطبته إلا بعد إذنه لخوفه وعظم هيبته، قال سبحانه: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255].
 
﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴾ [النبأ: 38] الروح جبريل عليه السلام، كقوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء: 193]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اهجُهم يا حسان ومعك جبريل)) وفي رواية: ((ومعك روح القدس))، وقيل: بنو آدم، وقيل: خلق آخر مثل بني آدم، وقيل: ملك عظيم، وقيل: القرآن الكريم، والأظهر القول الأول، ﴿ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴾ أيْ: لا يستغفر أحد يوم القيامة ولا يحتج ولا يشفع في أحد حتى يأذنَ الله له ويقولَ حقًّا.
 
﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ﴾ [النبأ: 39] إشارة إلى يوم القيامة الآتي قطعًا، فمن شاء لنفسه النجاة من النار والفوز بالجنة سلك طريق التوبة والرجوع إلى ربه.
 
﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النبأ: 40] ﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا ﴾ أيْ: حذَّرناكم وبينَّا لكم أسباب عذاب الله؛ لتجتنبوها، ووصف بالقريب؛ لأنه يحصل عند موت الإنسان الذي تتصف حياته بالقصر؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ [الأنعام: 93] ويحصل أكبره في يوم القيامة وما بعده؛ لأنه آتٍ لا محالة، وكل آتٍ فهو قريب، ﴿ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ أيْ: يجد المرء ما عمل كاملاً في صحيفته، قال سبحانه: ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ [الكهف: 49]، ﴿ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ أيْ: يقول الكافر يوم القيامة حين يرى العذاب: يا ليتني كنت ترابًا حتى لا أحاسب وأُجزى على عملي، وتحتمل الآية أن الكافر يتمنَّى أن يكون غير مكلَّف مثل الحيوان، بعدما يرى بعث الله الحيوانات؛ ليقتص بعضهم من بعض، ثم يقول لهم سبحانه: كونوا ترابًا.
 
تم تفسير سورة النبأ بحمد الله.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢