أرشيف المقالات

تنبيه الكرام إلى مشروعية زيادة المغفرة في رد السلام

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
تنبيه الكرام إلى مشروعية زيادة المغفرة في رد السلام

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

أمَّا بعد، فإنَّ أفضل الكلامِ كلامُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.

وبعد، فإنَّه من النصح لعامَّة المسلمين أنْ يسعى المسلمُ لإزالة ما يراه من خَلَلٍ ونقص عند أخيه، ومِن ثمَّ يسعى لتمامِ الخير عليه.
وقد شاع عند عامَّة المسلمين الحريصين على السُّنَّة عدمُ جواز الزيادة على الهدي النبويِّ - وهو الحقُّ إن شاء الله - وهذا ممَّا تنشرحُ له الصدورُ، وتُرفعُ به الرؤوسُ، ومن هذا عدمُ إجازتهم الزيادةَ على (وبركاته) في ردِّ السلام التامِّ الذي انتهى أيضًا إلى (وبركاته).
إلاَّ أنه لا بدَّ من العلم أنَّ زيادةَ (ومغفرته) في ردِّ السلام التام هو مما دلَّتْ عليه الشريعةُ من كتاب وسُنَّة وعملٍ من سلف الأمَّة.
فأقولُ مستدلاًّ لذلك - باختصار -: أولاً: جاء في الحديث الذي رواه البخاريُّ في "التاريخ الكبير" عن زيد بن أَرْقم؛ قال: "كنا إذا سَلَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم علينا قلنا: وعليك السلامُ ورحمة الله وبركاتُه ومغفرتُه"[1].

وقد كان الشيخُ الألباني رحمه الله قد صحَّحه قديمًا في السلسلة الصحيحة[2]، ثمَّ رجع عن تصحيح إسنادِه إلى التضعيف، ولكنَّه حسَّن الحديثَ ككلٍّ، وهذا التحسين إنما هو من جهة الشواهد.

فقال رحمه الله - في أحد أشرطة الهدى والنور[3]- جوابًا على سؤال: "هنا أخونا أبو الحسن كتب يقول: قرأتُ بخطِّ الشيخ في حاشيةٍ على السِّلسلة الصحيحة/ الجزء الثالث/ تضعيفَه إسنادَ زيادة: "ومغفرته"، ثم تحسينَه لها بعموم النصِّ القرآني؟
الشيخ: هذا شاهدٌ من حيث إنَّ الحديثَ الضعيفَ إذا شهد لمعناه نصٌّ قرآني؛ فهو من حيث المعنى: صحيح.
ذلك لأنَّ قولَه تبارك وتعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء: 86]، فإذا كان لابتداءِ السلام درجاتٌ ثلاث:
السلام عليكم.
السلام عليكم ورحمة الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فأحسَنُ درجات إلقاء السلام وابتدائه أنْ يقول المُسَلِّم: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، فإذا أراد المُسْلِمُ أن يُطبِّق الآيةَ الكريمة: ﴿ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا ﴾ فهو لا بدَّ وأن يزيد شيئًا على ما ألقاه المبتدئُ بالسلام؛ وإلاَّ يكون قد طبَّقَ شَطرًا من الآية دون الشَّطْر الآخر مِنها الذي هو الأكمل؛ حيث قال: ﴿ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾، فالذي ابتدَأَ السلامَ سلامًا كاملاً: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وردَّ الرادُّ عليه بمثله - هو ما ردَّ بأحسنَ منها؛ إنما ردَّ بمثلِها، فكيف يكون الرَّدُّ بأحسن منها؟

هنا نحن نستأنسُ - أيضًا - بتقوية معنى الحديث؛ حتى ولو لم يكن مِثل هذا النصِّ القرآني، وهو عملُ السلف - عَمل عبدِالله بن عمر بن الخطاب - الذي كان يمنع من الزيادةَ ابتداءً[4]، ويزيدُ في الجواب على السلام الكامل[5]، فهذا الذي أراده.

قال أحدُ الموجودين - الشيخ علي الحلبي -: أقولُ: هذه مع هذه؟
الشيخ: إيش هذه مع هذه؟!
قال: أعني عمومَ نصِّ القرآن مع الأثر.
الشيخ: نعم، ونسألُ الله أن يفقِّهنا في حديث نبيِّنا، وأنْ يوصلنا إليه".

ثانيًا: حديثُ زيد بن ثابت رضي الله عنه، وفيه جوابُه إلى أمير المؤمنين معاوية، وفي آخره: "والسلام عليك أميرَ المؤمنين ورحمةُ الله وبركاته ومغفرتُه"؛ رواه البخاري في الأدب المفرد، وحسّنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد[6].

وعلَّق عليها الشيخُ الألباني رحمه الله في الضعيفة، فقال: "والظَّاهرُ أنه جوابُ كتابٍ من معاوية إليه"[7].

ثالثًا: ممَّا يشهد لهذا الحديث أثرُ سالم - مولى عبدِالله بن عمرو - قال: "وكان ابن عمرو إذا سُلِّمَ عليه فرَدَّ زاد، فأتيتُه وهو جالس، فقلت: السلامُ عليكم؛ فقال: السلام عليكم ورحمة الله، ثم أتيتُه مرَّة أخرى، فقلت: السلامُ عليكم؛ قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم أتيتُه مرة أخرى فقلت: السلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته؛ فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وطيِّبُ صلواتِه" إلاَّ أنه ضعيف الإسناد[8].

وفيه سالم - مولى ابن عمرو - وهو مجهول، كما أفاده الشيخُ الألباني رحمه الله[9].

ولتمام الفائدة: إنَّ الشيخَ الألبانيَّ رحمه الله لم يتفرَّد بتصحيح الحديث، فإنَّ ممَّنْ صحَّحَ الحديثَ أيضًا - لشواهده - الحافظُ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري، فقال: "وهذه الأحاديثُ الضعيفةُ إذا انضمَّتْ؛ قَويَ ما اجتمعتْ عليه من مشروعيَّة الزيادة على (وبركاته)"[10].

ولتمام النصح؛ فإنه يلزمُ التنبيه على أنَّ هذه الزيادة إنما هي في الرَّدِّ لا في الابتداء، وأمَّا الابتداءُ ففيه أثرُ ابن عباس الصحيح "إنَّ السَّلامَ انتهى إلى البركة"؛ رواه مالك في الموطأ، وصحَّحه الشيخُ الألباني في الضعيفة[11].
تمَّ المطلوب بحوله تعالى وقوته وفضله.

وأخيرًا: أسأل اللهَ تعالى إجابتي دعوةً كدعوة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 40، 41].

والحمد لله رب العالمين.



[1] التاريخ الكبير (1037).


[2] السلسلة الصحيحة برقم (1449).


[3] تفريغ سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني - الإصدار 3 (842/30).


[4]الشعب للبيهقي (8490): أنَّ رجلاً سلَّم على ابن عمر فقال: سلام عليك ورحمة الله وبركاته ومغفرته؛ فانتهره ابنُ عمر، وقال: "حسبُك إذا انتهيت إلى (وبركاته)، إلى ما قال الله عزَّ وجلَّ".


[5]قلتُ: لم أعثرُ- فيما اطَّلعتُ عليه - على هذه الرواية بهذا التفصيل، فلعلَّ الشيخَ رحمه الله قصد رواية ابن عمرو - بواو التفريق - كما سترى فيما يأتي من الأدلة، واللهُ أعلم بالصواب.


[6]حسن؛ البخاري في الأدب المفرد (1131)، صحيح الأدب المفرد (865)، والأثر بتمامِه عن أبي الزناد؛ أنه أخذ هذه الرسالة من خارجة بن زيد ومِن كُبراء آل زيد: "بسم الله الرحمن الرحيم، لعبدالله - معاوية أمير المؤمنين - من زيد بن ثابت، سلامٌ عليك أميرَ المؤمنين ورحمة الله؛ فإني أحمدُ إليك اللهَ الذي لا إله إلاَّ هو.
أمّا بعد، فإنك تسألني عن ميراث الجدِّ والإخوة..."، فذكر الرسالة، ثم قال: "ونسأل اللهَ الهدى والحفظَ والتثبُّتَ في أمرنا كلِّه، ونعوذ بالله أنْ نضلَّ، أو نجهلَ، أو نكلفَ ما ليس لنا بعلم، والسلامُ عليك أميرَ المؤمنين ورحمةُ الله وبركاته ومغفرتُه [وطيب صلواته]"، وكتب وهيب يوم الخميس لثنتي عشرة بقيت من رمضان سنة اثنتين وأربعين"؛ قال الشيخ الألباني رحمه الله: حسنُ الإسناد، إلاَّ الزيادة؛ فصحيحةُ الإسناد.


[7] الضعيفة (11/ 725).


[8]ضعيف؛ الأدب المفرد (1016)، ضعيف الأدب المفرد (157).


[9]الضعيفة (11/ 724).


[10] فتح الباري (11/6).


[11]صحيح؛ الموطأ (3525)، وصححه الشيخ الألباني في الضعيفة (723/11).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣