النبي صلى الله عليه وسلم وعدم سؤال الأجر في الدعوة
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
النبي صلى الله عليه وسلم وعدم سؤال الأجر في الدعوة [1]الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنَّ التعفُّف عن أموال الناس من أهم ملامح الدعوة الإسلاميَّة، وهو ديدن الرسل عليهم السلام جميعًا، فلا ريب أنَّ الرسل عليهم السلام هم سادات أهل العفة؛ حيث أكَّدوا علانية أنهم لا يطلبون على تبليغ الرسالة أجرًا من أي شخص سواء كان أجرًا معنويًّا أو ماديًّا؛ إنما يطلبون الأجر من اللهعز وجل وحده؛ بل إنهم كانوا يبذلون من أموالهم الخاصة لمصلحة الدعوة، ومن خلال الاستقراء تبيَّن أنَّ الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم هو أكثر الرسل عليهم السلام بيانًا لمسألة عدم سؤاله الأجر من أحد على تبليغه، فجاء هذا المقال لِيُسلِّط الضوء على هذه القضية؛ لِيُسهم في تأكيد أهمية الاستغناء عن مسألة الناس؛حيث سأتناول هدي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في التنزُّه عما في أيدي المدعوين من خلال الآيات القرآنية، واستنباط أبرز القيم التربوية من عرض القرآن الكريم لتنزُّهه صلى الله عليه وسلم عن طلب أي أجر دنيوي من قومه مقابل ما بذله من جهد في دعوتهم.
تعريف الأجر:
عرَّف ابن منظور الأجر لغة بأنه: الجزاء على العمل، وجمْعه أُجور[2]، أمَّا الأجرفي اصطلاح الشرع، فقد اختلفت عبارات فقهاء المذاهب في تعريفه، وملخَّص كلامهم أنَّ معناه: العِوض المعلوم مقابل المنفعـة المعلومة.
والمقصود بعفة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن سؤال الأجر في هذا المقال، هو: دراسة الآياتالقرآنية التي وردت في سياق تنزُّه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن طلب أيِّ أجر دنيوي من قومه مقابل ما بذله معهم من جهد كبير في سبيل هدايتهم.
نماذج من عِفَّة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن سؤال الأجر على الدعوة في ضوء القرآن الكريم:
الرسل عليهم السلام هم سادات المتعفِّفين، وقد صرَّح القرآن الكريم في عدد من الآيات اتفاق كلمة أنبيائه عليهم السلام في هتافاتهم بأنهم يبلِّغون رسالات الله تطوُّعًا، حتى صار ذلك شِعارًا لهم، والمتأمِّل في سُور الذكر الحكيم، يجد أنَّ خاتم رسله محمدًا صلى الله عليه وسلم هو أكثر رسله تأكيدًا على مسألة التعفُّف عما في أيدي الناس؛ لذا سأُخصِّص الحديث حول تصريحه صلى الله عليه وسلم بعدم سؤاله الأجر من قومه مقابل تبليغهم الرسالة، وأورد الآيات المتعلقة في هذه المسألة مرتبة حسب ترتيب نزول الآيات:
أولًا: قول الله عز وجل في أول ما نَزل في هذا الموضوع، وهو يخاطب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ﴾ [القلم: 46].
وجاء الخطاب القرآني ها هنا بأسلوب التعجُّب من إعراض الكفار عن دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنه لمْ يسألهم ثمنًا على إبلاغه إياهم رسالة اللَّه، والآية استفهام بمعنى النفي؛ والمعنى: لستَ تسألهم على ذلك شيئًا؛لأنَّه لو فَعل ذلك سيتبرَّمون من دعوته[3].
ثانيًا: أمَر الله عز وجل نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يعلن لقومه، بأنه لا يسألهم أخْذَ شيء على تبليغه كتاب ربه؛ فقال عز وجل: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴾ [ص: 86 - 88].
ثالثًا: إرشاد الله عز وجل لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن صار له أتباع من المؤمنين، وكانوا شديدي الحرص على بذل المال في نصرة الإسلام، ولئلا يَفهم الصحابة - رضوان الله عليهم- من النصَّين السابقَين، أن الله عز وجل قد حرَّم على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يَقبل أي شيء ممن آمَن به ولو كان إنفاق المال في سبيل الجهاد وسائر القرُبات، فأَنزل عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 57].
رابعًا: تسلية الله عز وجل لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من عدم استجابة الكفَّار لدعوته، وشهادتُه سبحانه وتعالى له على ابتغائه الأجر منه وحده؛ فقال عز وجل: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ يوسف: [3 10-104].
خامسًا: إرشاد الله عز وجل لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن يؤكِّد مقالته لقومه، بأنه لا يسألُهم أجرًا على دعوتهم إلى الحق، مقتديًا بمنهج الرسل عليهم السلام من قبله، فأنزل عليه قوله عز وجل: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 90].
سادسًا: إرشاد الله عز وجل لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم إلى تفنيد ما تبقَّى مِن شبهات قومه حول دعوته، فطالبه بأن يُبيِّن لهم بأنه ليس صاحب مصلحة شخصية عندهم، فهتف بهم موضِّحًا ذلك الأمر بطريقة الكناية التهكمية، وذلك في قوله عز وجل: ﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [سبأ: 47].
سابعًا: إرشاد الله عز وجل لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم إلى تأكيد ترفُّعه عن سؤال أيِّ أجر على تبليغ الدعوة؛ وإنما لا يسألُهم إلا المودَّة في القُرْبى، فأنزل عليه قوله: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [الشورى: 23].
ويحسن بنا أن نقف وقفةً هامة مع هذه الآية؛ لِيُرفع الإشكال الظاهري عنها، فكما هو ظاهر من استقراء الآيات أنَّ القرآن الكريمسجَّل في آيات كثيرة، أن الأنبياء لا يطلبون أجرًا جزاءً على تبليغ الرسالة، وظاهر هذه الآية قد يفهم منه البعض أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم طلب أجرًا على التبليغ هو: المودة في القربى، والجواب عن هذا الإشكال من وجهين -كما ذكر الرازي-:
الوجه الأول: أنَّ المعنى: (أنا لا أطلب منكم إلا هذا)، وهذا في الحقيقة ليس أجرًا؛ لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب، وتقديره: (والمودةُ في القربى ليست أجرًا)، فرجع الحاصل إلى أنه لا أجر البتة.
الوجه الثاني: أنَّ هذا استثناء منقطع، وتَمَّ الكلام عند قوله: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾، ثم قال:﴿ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾؛ أي: لكنْ أذكِّركم قرابتي منكم، وكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر[4].
ثامنًا: ختام الله عز وجل هذا الموضوع بمِثل ما بدأ به، وكان ذلك خلال المرحلة المكية التي أوشكت أن تنتهي، فأنزل عز وجل تسليةً لقلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم قوله: ﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ﴾ [الطور: 40].
الدلالات التربوية المستنبطة مِن تعفُّف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن سؤال الأجر على الدعوة:
المتأمل فيما سبق من تأكيد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة على عدم تطلُّعه لطلب أي ثمن مقابل جهده الدعوي، يجد أنه يتضمَّن دروسًا بليغة، ومن أبرزها ما يأتي:
1- أنَّ العفة عما في أيدي الناس من أعظم أولويات دعوة الأنبياء عليهم السلام، فإنَّ المتأمِّل في آيات القرآن الكريم يَلحظ أنَّ الله سبحانه وتعالى صرَّح بأنَّ صفوة خَلقه من الرسل عليهم السلام كانوا يتعفَّفُون عما في أيدي الناس، وزاد هذه المسألة إيضاحًا خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث تكرَّر تصريحُه بذلك في ثمانية مواطن في الذكر الحكيم، وعليه ينبغي على الدعاة والمصلحين خاصة أن يقتدوا بالمرسلين عليهم السلام في استغنائهم عن مسألة الناس؛ وذلك لإزالة أي عائق يحول دون سماع أقوامهم لصوت الدعوة.
2- تعفُّف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن مطلق الأجر الدنيوي على التبليغ، سواء كان الأجر معنويًّا أم ماديًّا، ومما يؤكد هذا المعنى مقالتُه صلى الله عليه وسلم في بعض الآيات: ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ [الشعراء: 109]؛ فإنَّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، ومن هنا ينبغي على الدعاة أن يحذروا من الوقوع في أي شبهة مادية تضرُّ بدعوتهم؛ حيث إن لها أثرًا سيئًا على من يقبلُه - شعر به أم لم يشعر-.
3- المراد بالأجر المنفي ها هنا الأجر الدنيوي، أمَّا الأجر في الآخرة، فإنَّ الأنبياء عليهم السلام أحقُّ الناس به؛ لذلك أكَّدوا عليهم السلام جميعًا على أنَّ مرادهم ثواب الله عز وجل ورضاه، فقالوا مقالة رجل واحد: ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 109].
4- أنه ينبغي على المسلم أن يوطِّن نفسه على التعلُّق بالله عز وجل وحده في معيشته، فلا يسأل إلا إياه عز وجل؛ وذلك حتى يَسلم المسلم من الطلب من الخلْق، ويحيا عزيز النفس؛ ولذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم يُربِّي أمَّته على التعلُّق بالله، والاستغناء عن سؤال الناس، ومن ذلك وصيته للرجل الذي قال له مسترشدًا: عظني وأوجز، فذكر له: ((...
وَأَجْمِعِ الْيَأْسَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ))[5].
5- عناية الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويلحظ هذا المعنى من تصدير الله عز وجل خطابه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاصة بكلمة ﴿ قُلْ ﴾ في خمس آيات دون سائر أنبيائه عليهم السلام، وذلك في معرض امتناعه عن طلب الأجر في سبيل هدايته لقومه، وفي هذا إيماء إلى مزيد خصوصية وتكريم لسيِّد رسله محمد صلى الله عليه وسلم.
وبعد، فهذا ما يسَّر الله عز وجل لي الوصول إليه في هذا المقال المتواضع، وأسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العفة عما في أيدي الناس، وصلوات الله وسلامُه على أشرف خلْقه وتاج رسُله محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله ربِّ العالمين.
[1] الأستاذ حمزة عبدالله سعادة شواهنة (باحث في الدراسات الإسلامية - فلسطين).
[2] انظر، ابن منظور: لسان العرب، مادة (أجر)، (4 /10).
[3] انظر، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، (7/ 437).
[4] انظر، الرازي: مفاتيح الغيب، (27/ 595).
[5] ابن ماجه: سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحكمة، حديث رقم (4171)، (2/ 1396)، وقال الألباني: "حسن".