أرشيف المقالات

الفتور عن الكمال

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
الفتور عن الكمال

في مجلس من مجالس الفضل والكرم قبل أيام، كنتُ أتجاذب طرفًا من الحديث مع أخٍ لي في الله، طال عهدي به مُذ شغلَتنا قوانين الحياة، ودارت بيننا عواصف الأيام، فحالت دون اللقاء والوصال، وقد كنتُ تركتُه وما شيءٌ أَحَبُّ لنفْسه حينها من الالتذاذ بفروع الفقه ومباحثتها، ومسامرة أهل العلم، والتفكُّهِ في النوادي والمجامع بلوامِع الحِكَم وفرائد الفنون والفهوم، وحرث مصنفات الحديث، بين حدَّثَنا وأنبأنا، وصحيح وضعيف، وفلان ثقة ثبَت، وفلان ضابط قلَّ ضبطُه آخرَ حياته!
 
ولا أنسى أحاديثه الماتعة التي كان يشحذ بها هِمَّة أمثال العبد الضعيف، ويَستَنطِقُ بها الإرادات مذيِّلًا إياه بـ:






ما الفضلُ إلا لأهلِ العِلمِ إنهمُ
على الهدى لِمَن استَهدى أدِلَّاء


وقيمةُ المرء ما قد كان يُحسِنُهُ
والجاهلونَ لأهلِ الْعِلْم أعداءُ


فقُم بِعِلمٍ ولا تَطلُب به بدلًا
فالنَّاسُ موتى وأهل العِلمِ أحياءُ






 
ولما سألتُه في مجلسنا هذا عن أخباره مع رحلة اطلاعه الأدبية وحاله مع مسيرته العلمية، وصرحِ النور الذي شاده بجد واجتهاد وعزيمةٍ، لمستُ منه برودًا في الإجابة لم أعهده منه، حتى استطاع بحنكته التي أعرفها عنه من قديم أن يحرفني عن مسار سؤالي، واستفصالي إلى الحديث عن سقطات بعض طلبة العلم، وعن الأخطاء المنهجية وخطر اللامذهبية التي أودت بكثير من الشباب المُجتهد اليافع إلى التخبُّط المنهجي، والانتقائية في الآراء والاجتهادات، ثم بدأ يسرد عليَّ مشاهد واقعية من ذلك، وكأنني به وقد أخذ هذا الأمر من شغله حيزًا كبيرًا، ثم كاد عجبي أن يخرجني عن وقاري حين قال بعد حديثه الطويل هذا: (حتى صرنا واللهِ يا أخي نستثقل قراءة مؤلفاتهم العلمية)!
 
فأدركتُ حينها - وبعد انقضاء ذلك المجلس بحديث مُشجٍ - أنه تحوَّل - وبسبب المآخذ الكثيرة هذه وغيرها من الأسباب التي يزعمها - إلى الانشغال بمُطالعَة الكتب الثقافية العامة، وبقيةٍ باقية من كتب الأدب المُعاصِر التي لا تعدو أن تكون مكمِّلةً لا أساسية ولا أصلية في عملية تبلور العقلية العلمية - عن العلوم الكبرى والشعاب الوعرة تلك؛ بين حدثنا وأنبأنا، وعن أئمة الإسلام وسادات المذاهب واختيارات شيخ الإسلام، وترجيحات متأخري الحنابلة ومجالس الكبار، ومُجاراة العِظام...
إلخ، مُحتجًّا بأن المسلم مطالبٌ بأداء الفروض ولزوم الورد القرآني، والأذكار والسلامة من الناس، والقناعة بما وُهِب، فحسب!
 
إن هذا الأخ المكرم والصاحب العزيز، ليس إلا أنموذجًا من نماذج "التحوُّل" العِدة من السعي في طلب الكمال - وَلَن يُنال ولكن حسبنا السعي - إلى الركون لِما ألِفَه عامة الناس من أداء أدنى الواجبات الشرعية المنوطة بهم من صلاة وصيام وذكر ونحوه، مع بقائهم في هامش الحياة، وإلى استبدال مجالس العلم وأهله بالإكثار من مجالسِ اللغو وهدر الأوقات، وقليلٍ من مسائل النزاع الأزلية بين الفقهاء ومسائل عالقة من العهد القديم، فهي التي لا زالت تربطه بعلوم الشريعة!
 
مشاريع علميَّة متمثلة في شاب يافع طموح جاد، حرَّاث للمصنَّفات، غوَّاص في بحورها، زوَّار لمجالس العلم وأهله، يدخل الجامعة ليتخرج بعدها من سِنِيِّ الدراسة الأكاديمية، لتتبدَّد هذه المشاريع العِلميَّة، وتذهب أدراج الرياح، وتُصبح في مَهبِّ الريح، ويعود في مجتمعه القهقرى فردًا لا يُعرَف إلا بأنه حسن السيرة، قائمٌ بفروض ربه الخمسة، ملتزمٌ في وظيفة العمل، ذو مالٍ وعيال!
 
أيًّا كانت الأسباب في ظاهرة التحوُّل هذه (العوامل السياسية، العوامل المجتمعية، التحولات الفكرية، النزاعات الفقهية أو الخلافات المنهجية، شوائب النوايا، تثاقل العِلْم عليه) - فإنه لا يسع من ذاق العلم وطَعِمَ لذَّته، وعاش بين أهله الكبار، ونهل من نور الشريعة الغراء، والمعين العذب، أن ينزل إلى دنايا الأمور وسفسافها، وتُثنيه عن مزاحمة مجالس العلم ومسابقة أهله بحجة أن هذا الميدان له أهله!
وقد صدق القائل:
ولَم أرَ في عيوبِ النَّاسِ عيبًا *** كنقصِ القادرينَ على التمامِ
 
وقد جاء في الأثر عن الإمام أحمد رحمه الله: عزيزٌ عليَّ أن تُذيب الدنيا أكباد رجالٍ وَعَتْ صدورُهم القرآنَ.
 
أيها الصاحب الذي فترَ عن الكمال، اسمَح لي بهذا النعت الذي لا أَجِد نعتًا يصدُق على حالك المؤسِفِ غيره، اعلم أن الدنيا حلوة خضرة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، غرَّاء لا تفتأ تعرض مفاتنها لأهلها في كل حين، وتنادي أمثالك على وجه الخصوص: هيت لك! وإن النفسَ ميَّالة بطبعها للدعة والراحة والكسل: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ [يوسف: 53]، وما لم تقسرها قسرًا، وتأطرها أطرًا على معالي الأمور وعوالي المرامي، فإنها ستأخذ بك كل مأخذ وتهوي بك في مهاوي الخسران
والنفسُ كالطفل إن تترُكه شبَّ على *** حبِّ الرضاع وإن تَفطِمهُ ينفَطِم
 
قد تسوِّل لك نفسُك في لحظة ضَعفٍ أو غفلة منك أن هذا السبب الذي يعتريك أو ذاك، هو العذر وهو السبب المبيح لك لأن تأخذ بناصية الراحة والدعة في الدنيا، وترك غمار العلم والجد والعُلُوِّ، فلا تركننَّ أخي لندائها:
وما نيلُ المطالَب بالتمني *** ولكن تؤخَذُ الدنيا غلابَا
 
وخُذها أخي غلابًا، وليكن لك في الأنبياء أسوة حسنة ومثالًا أسمى: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [مريم: 12]، ولا تجعل من ضعاف النفوس والإرادات وخوَّاري العزائم معيارًا لك وحَكَمًا، فالنهايات للأجدر والبدايات المُحرِقة نهاياتها مُشرِقَة، والأيام حَكَمٌ، وهي كما في مجمع الأمثال: "غمراتٌ ثم يَنْجَلينَ"، وعند الصباح يَحمَدُ القومُ السُّرى.
 
ولله درٌ المتنبي إذ قال:
لولا المشقَّةُ سادَ النَّاسُ كلُّهم *** الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قَتَّالُ

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١