مقاصد سورة إبراهيم
مدة
قراءة المادة :
30 دقائق
.
نور البيان في مقاصد سور القرآن"سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".
(14) سورة إبراهيم
الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، هدانا الله به إلى الصراط المستقيم، نشهد أنه بلغ رسالته، وأدى أمانته، ونصح للأمة، وكشفت الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهادٍ حتى أتاه اليقين، صلي يا ربنا وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله آله وأصحابه وأتبعاه الطيبين الطاهرين، وعلينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
أحبتي أحبة القرآن، على مائدة القرآن نلتقي، وفي صحبة سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، من خلال السورة التي سماها الله بذلك، بعد أن عشنا في اللقاء السابق مع سورة الرعد، فاليوم على مائدتنا سورة إبراهيم، لنتعرف عليها، هكذا سماها الله تبارك وتعالى، جعل اسم خليله عليه السلام عنواناً عليها، وإبراهيم معروف بكونه خليل الرحمن، وبأنه كان أمةً، وبأنه أبو الأنبياء والمرسلين، فهو أصل شجرة النبوة، حيث أن الله جاء من نسله بعديدٍ من الأنبياء، ما جاء من الأنبياء من بعده فكانوا جميعاً من نسله عليهم الصلاة والسلام، فسمي بأبي الأنبياء، إبراهيم كان أواهاً حليماً كريماً عطوفاً، عليه سلام الله، جُعل عنواناً على هذه السورة، وسورتنا هذه سورةٌ مكية، نزلت في العهد المكي قبل الهجرة المباركة، ولذلك هي كغيرها، ولعلنا حفظنا هذا، هي تركز على بيان أركان العقيدة، تثبتها في قلوب الناس، تصححها في مفاهيمهم، حيث غلقوا كثيراً جدًّا في هذه الأمور مع وضوحها وجلاءها، فسورة إبراهيم إحدى السور المكية التي تركز على أركان العقيدة، تركز بشكل واضح على الرسول والرسالة، أن نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، رسولٌ حقًّا، وأن رسالته من عند الله فعلاً وصدقاً.
هذا هو تركيزها الأساس، وسور كثيرة، وتعتبر معظم السور المكية تتحدث عن العقيدة؛ لأنها هي الأساس الذي ينبني عليه بنيان الإسلام، تتفرع منه وعليه أحكام الشريعة، ومن لا عقيدة له فلا قيمة لعمله، ومن لا عقيدة له فربما يكون بغير عملٍ صالح، فلابد إذاً من العقيدة، ولذلك ظل القرآن يعالجها في نفوس الناس ويبيّنها لهم على مدار ثلاثة عشر عاماً حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُحرم العهد المدني من معالجة ذلك أحياناً والتذكير به أيضاً، ولكن كان بشكل واضح في القرآن الذي نزل وفي الآيات والسور التي نزلت في مكة قبل الهجرة، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام وتمكنوا من الاعتقاد الصحيح، الله تعالى نزَّل الشريعة والحلال والحرام.
وتجد السورة تجمل ذلك في أولها وفي آخرها وما بينهما تفصيل، وإذا استعرضنا موضوعات السورة، أي ما اشتملت السورة عليه من أحاديث فنجد السورة في أولها قد أجملت العقيدة كما قلت، العقيدة الإسلامية سهلة وبسيطة في تصويرها وتعليمها، بعيداً عن التعقيدات التي يفعلها البعض، ولكنها ربما تكون صعبةً في تحقيقها في القلب، لكي يحصر الإنسان نفسه على عبادة الله وحده، لكي يصدق بالقرآن والسنة، لكي يؤمن بيومٍ آخر، غيبٌ لا يراه ولا يحسه، هذه الأمور ربما تكون صعبةً على بعض النفوس المريضة، لكن القرآن يعرض العقيدة في منتهى البساطة، يقول الله تبارك وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ الر ﴾ [إبراهيم: 1] استفتاحٌ كبعض السور في القرآن ببعض الحروف المفردة الف ولام وراء، وهذه الحروف للإعجاز، الله ذكرها في السور وفي القرآن لإعجاز العرب، وإثبات أن القرآن من عند الله عز وجل، ثم يقول: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ﴾ [إبراهيم: 1] كتابٌ هذه هي الرسالة، أنزلناه هذا هو الله سبحانه وتعالى هو الإله، أنزلناه إليك هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ﴿ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [إبراهيم: 1] طبيعة الرسالة وهدفها، أنها تريد أن تنير حياة الناس، وأن تدلهم على الطريق الصحيح والصراط المستقيم، ﴿ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [إبراهيم: 1، 2]، متى؟ هذه هي الآخرة، وهذا هو يوم الساعة، هذه الأركان الأربعة، الإله، النبي والرسول صلى الله عليه وسلم، الرسالة، اليوم الآخر، هذه الأركان الركينة في العقيدة والتي ينبغي أن نركز عليها أكثر من غيرها؛ لأن غيرها تفرع عليها، فهذه أصول ثوابت تتكرر في كثيرٍ من السور المكية، وتجدها أخي الكريم واضحةً بارزةً في آيات القرآن الكريم.
ثم بعد ذلك السورة تذكر أو يذكر الله فيها أنه أرسل موسى من قبل محمد عليه الصلاة والسلام، واليهود موجودون في عهد نزول القرآن وبإمكان العرب أن يسألوهم إن كان عندكم رسولٌ اسمه موسى أو لا؟ فإن كان فالقرآن حق فهو الذي أخبرهم بهذا ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [إبراهيم: 5] كل الرسل جاءوا هكذا ليخرجوا أقوامهم من الظلمات، من ظلمات الجهل والضلالة والكفر والغواية إلى نور الإيمان، نور الطاعة، نور الحق، ﴿ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾[إبراهيم: 5]، وأيام الله فيها مصائب وفيها مساعد، فيها نِقم وفيها نعم، ذكرهم بهذا وهذا، من الذي يقلبهم بين النعمة والنقمة؟ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [إبراهيم: 5] صبار على النقمة شكور على النعمة، وهذا هو حال المؤمن كما نعلم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم[1].
ثم تمضي السورة لتخبر عن مجمل الرسل مع أقوامهم، وماذا فعل الله بالأقوام هؤلاء، وكيف فعل برسله وانتهى أمرهم إلى ذلك، إجمالٌ قصير وموجز عن الأمم جميعاً في جملٍ واحدة، وفي حديثٍ واحد ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ﴾ [إبراهيم: 9] كأنهم كتموا أصوات الرسل لكي لا يصل صوت الرسل والحق إلى آذانهم ﴿ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ [إبراهيم: 9]، وذكر الله حواراً دار بين كل قوم ورسولهم تكرر في كل زمان، تكرر في كل أمة، اشتركت الأمم جميعاً في ذكر ذلك لرسلهم، اتهموهم بأنهم بشر، اتهموهم بأنهم يغيرون دينهم، توعدوهم بالتعذيب والإخراج والطرد، إلى أن قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [إبراهيم: 13]، وهذا هو منطق الكفر الغبي، منطق الكفر الجاهل حينما تقل حيلته في النقاش والحوار يلجأ إلى استعمال القوة، ولو وصل الأمر إلى القتل، كما حاولوا قتل رسولنا صلى الله عليه وسلم لولا أن الله أخرجه سالماً من بين أيديهم[2]، ﴿ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [إبراهيم: 13] ويزعمون أن الرسل كانوا على ملتهم ثم خرجوا منهم وصبئوا عنها ثم هم مطالبون أن يرجعوا إليها مرةً أخرى، ﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ﴾ [إبراهيم: 13] أي أوحى إلى الرسل ﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ [إبراهيم: 13، 14] ووعيد الله هو يوم القيامة، والحساب الشديد، والعذاب، لذلك ذكر الله بعضًا أو طرفاً من أحوال الكافرين يوم القيامة، وأن أعمالهم ضائعة، ولا ثواب لهم باقٍ، إلى أن ذكر موقف الحسرة والندامة وهم أتباع الشيطان، والشيطان يوم القيامة، شيطان الإنس والجن يتبرأ منهم، شيطان الإنس الذي كانوا يتبعونه ويصفقون له، ويرفعون ذكره ويحتمون به يتبرأ منهم يوم القيامة، وشيطان الجن إبليس عليه اللعنة يقف خطيباً فيهم يوم القيامة في النار وينادي فيهم بما يحسرهم ﴿ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ﴾ [إبراهيم: 21] الآن اعترفوا بالحقيقة ﴿ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ﴾ [إبراهيم: 21] أي كنا على ضلال وما عرفنا الحق إلا الآن بعد فوات الأوان، ﴿ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ﴾ [إبراهيم: 21] ما في مخلص ولا مهرب ولا نجاة، انتهى الأمر وقضي القضاء، نحن وأنتم في النار والعياذ بالله، ﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ﴾ [إبراهيم: 22] انتهى كل شيء واستقر أهل النار في النار فلا خروج أبداً، إنما الخلود الدائم الأبد، ﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [إبراهيم: 22]، وبماذا تنفع الملامة هنا في النار، يلومونه أو يلومون أنفسهم لا نفع ولا غَنَاء، ولا غنية ولا نجاة، ﴿ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ ﴾ [إبراهيم: 22] أي بمدافع عنكم ومخلصكم ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ﴾ [إبراهيم: 22] فأحدنا لا يغني عن أحدٍ شيئاً في هذه النار ﴿ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ ﴾ [إبراهيم: 22، 23] انتهى الأمر على هذا.
ثم نتنقل السورة إلى بيان جمال الإيمان وروعة الإيمان وثبات الإيمان، فيضرب الله مثلاً لكلمة الإيمان الطيبة لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يضرب لها المثال بشجرةٍ طيبة أصلها ثابت لا يتزعزع، وفرعها في السماء هناك، والنخلة معروفة والتمثيل بها واضح، ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم: 24] لذلك فكلمة الإيمان تُثِّبت الإنسان أمام النعمة فلا يفخر ولا يبتر ولا يتكبر، وأمام النقمة فيصبر، ويثق في الله عز وجل وينتظر خيراً، أصله ثابت، كلمة الإيمان تثبته ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27]، وبعض المفسرين يذكر من المعاني الإضافية أيضاً أن هذه الشجرة الطيبة لا مانع أن تكون شجرة الأنبياء، والتي بدأت – البداية الأخيرة – بسيدنا إبراهيم عليه السلام، فهذا أصلها وهو ثابتٌ بخُلة الله، معمقاً في النبوة والرسالة، له مقامٌ عظيمٌ عند الله تبارك وتعالى، وفرعها في السماء هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويناسب هذا القول أن الوحيد في الأنبياء الذي رفع إلى السماء هو رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، ليلة المعراج، وارتقى فوق ما يرتقي جبريل عليه السلام، ﴿ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا ﴾ [إبراهيم:24، 25] أي ثمارها تُؤْتِي ﴿ كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ [إبراهيم: 25]، ففي كل حين يبعث الله نبياً فرعاً من هذا الأصل العظيم من شجرة النبوة، في كل أمةٍ رسول ﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر: 24] وهكذا، فكأنها شجرة تتفرع يوماً بعد يوم وتمد أهل الأرض بثمراتها اليانعة بالأنبياء الذين اصطفاهم الله تعالى.
ثم تنتقل السورة إلى بيان جحود الإنسان لنعمة الله، كيف يكون الله تعالى هو المنعم بكل شيء، وهذا أمرٌ ملموس لا يحتاج إلى بيان، كيف يكون الله تعالى هو المنعم بكل شيءٍ ثم نعبد غيره؟! ثم نخضع لغيره وسواه؟! وكما مثلت قبل ذلك مثل الكافرين في هذا يرزقهم الله تعالى ويأكلون رزقه ونعمه ويعبدون غيره، مثلهم كمثل ولدٍ والده ينفق عليه ويغدق عليه العطاء ثم هو لا يقبِّل يده أبداً إنما يقبل يد خاله أو عمه أو نحو ذلك، فأبوه يغضب لهذا، أولى الناس بهذا التقبيل وهذا الاحترام الذي ينفق عليك، فما بالك بالذي يرزقك، مع وجود الأب ومع غير وجوده الله هو الرزاق سبحانه وتعالى ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ [هود: 6]، فيقول الله تعالى ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾ [إبراهيم: 28 - 30]، فهؤلاء بدلوا نعم الله عز وجل، واستعملوها في الكفر، نعمٌ أنعم بها عليهم ليعرفوا الله من خلالها وليستدلوا على الله بها، ولكنهم أكلوها ونسوا، أكلوها ولم يلتفتوا إلى من أنعم بها، وراحوا يعبدون أحجاراً وأصناماً لا تنفع ولا تضر، وما أنعمت عليهم يوماً ولا نفعتهم بشيءٍ من الأشياء، إن هذا لهو الضلال البعيد، ولذلك يذكر الله بعض النعم على سبيل المثال ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ﴾ [إبراهيم: 32] لكم لكم لكم، هكذا في السورة ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ ﴾ [إبراهيم: 32] أيضاً لكم ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ﴾ [إبراهيم: 33] أي مستمرين ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ [إبراهيم: 33] في كل جملة يقول لكم ليذكرهم بأني ما فعلت ذلك إلا من أجلكم، فاشعروا بذلك واشكروه، ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، ومن أجلِّ النعم أحبتي الكرام على البشرية جميعاً أن الله بعث فيهم الأنبياء كما قلنا، ومن أجلّ نعمةٍ على أهل مكة الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآذوه وطاردوه وحاولوا قتله ودبروا له وقاطعوه وآذوه إيذاءً شديداً هو وأصحابه عليه الصلاة والسلام، من أجلّ نعم الله عليهم أن جعل بيته عندهم، فكان عزاً لهم وشرفاً لهم، وأمنوا حول البيت الحرام، لأن الله آمَّن بيته ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [آل عمران: 97]، ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ﴾ [البقرة: 125]، فكانت مكة بفضل الله مجتمعاً عظيماً موروداً من كل الجهات، بالتجارة والحج وما إلى ذلك، فشعر أهله – أهل هذا البلد – شعروا بالأمن والاستقرار والرواج وكثرة الثمار والنعم ﴿ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا ﴾ [القصص: 57]، فجاء الله تعالى بقصة إبراهيم عليه السلام حين بدأ يبني البيت، أو حين بنى البيت وبدأ يُسكن أهله هناك، فعلَّم الله إبراهيم مكان البيت، وأمره برفع قواعد البيت، القواعد موجودة ولكن إبراهيم عليه السلام سيرفع بناء الكعبة فوق هذه القواعد، ولأن القواعد كانت قد تغطت بالرمال والمطر وما إلى ذلك، فعلَّم الله مكانها لإبراهيم عليه السلام، وأمره أن يُسكن زوجه هاجر عليه رحمة الله وولده إسماعيل الصغير عليه سلام الله هناك عند البيت، فاستجاب لربه سبحانه وتعالى، وهكذا تم الأمر تأسيساً لهذا المجتمع الآمن، المجتمع وافر الخير، قال الله تعالى﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35] إذاً البيت الحرام بيتٌ آمنٌ من بدايته، ويأمن من استجار به وتعلق به، وكان أهل الجاهلية يؤمّنون من دخل البيت الحرام، فلا يطلب الرجل الرجل وله عليه دم، فلا يطلبه طالما كان في جوار الكعبة، حتى إذا خرج تبعه حتى يقتله[3]، وهو آمنٌ إلى يوم القيامة والمسلمون مكلفون بتأمينه، الأمن.
ثانياً البيت بُني لله تعالى، فكيف يعبد أهل مكة الكافرون أصناماً أخرى داخل بيت الله، ذكر هذا في البداية، يُشعر بالخطأ العظيم الذي وقع فيه أهل مكة والجريمة الكبرى التي طرحوها ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35]، هو بيت الله عز وجل، فكيف تعبد فيه غيره، إن كان ولابد وستتخذون أصناماً وآلهةً أخرى، فابنوا لها معابدها، وابنوا لها بيوتاً خاصة، ولذلك يمتن الله على قريش بأنه نجى البيت الحرام من أبرهة وجنده وجيشه العظيم، بعد أن قال ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾ [الفيل: 1] قال ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴾ [قريش: 1] وكأنه قال ﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 3 - 5] لماذا أهلك هؤلاء الكفرة، هؤلاء الذين جابوا ليهدموا الكعبة، لماذا؟ ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴾ [قريش: 1، 2] أي حفاظاً على ائتلاف قريش وأمنها ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 3، 4]، البيت بيت الله، والنعمة، نعمة الغذاء والطعام من عند الله، ونعمة الأمن من عند الله، فكيف يا كفار مكة تبدون داخل البيت الحرام أصناماً أخرى من اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أو غيرها من الآلهة التي اتخذوها جهلاً وكفراً من دون الله عز وجل.
ويمضي سيدنا إبراهيم عليه السلام في دعائه لربه عز وجل، إلى أن يقول ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41]، ثم في نهاية السورة يهدد الله تعالى أولئك الظالمين الذين ظلموا حق الله فعبدوا غيره وسواه في بيته الذي أمَّنه وأغدق عليه النعم، وظلموا أنفسهم بذلك أيضاً حيث أوقعوا أنفسهم تحت عقاب الله عز وجل، فقال ﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ﴾ [إبراهيم:42، 43] مهطعين من الذلة ﴿ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ﴾ [إبراهيم: 43] طأطأ رأسه في الأرض من الخزي ﴿ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾ [إبراهيم: 43] بصره شاخص يتطلع من أين يأتيه العذاب، ماذا سيجري له؟ ماذا سيحل به؟ فلا يرجع إليه بصره، يعني عينه لا تطرف ولا تغمض من شدة الخوف والهول، ﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ [إبراهيم: 43] والفؤاد هذا غلاف أو وعاء القلب، يعني صارت أفئدتهم فارغةً من قلوبهم من شدة الخوف والهيبة والجلال طارت قلوبهم من مكانها فما عاد لهم قلب، من شدة الهول والفزع ﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ [إبراهيم: 43] يعني خالية فارغة.
وتختم السورة أحبتي الكرام بما بُدأت به، ودائماً سور القرآن هكذا تختم بما بدأت به، كما قلنا ذكر الله في الآية الأولى تقريباً أو الآيتين الأوليين مجمل العقيدة، كذلك في آية واحدة في آخر السورة أو في آيتين أيضاً، الله تعالى يجمع هذه الأركان مرةً أخرى باختصار، فيقول سبحانه وتعالى ﴿ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [إبراهيم: 51]، متى الجزاء ومتى الحساب؟ يوم القيامة ﴿ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ ﴾ [إبراهيم: 52] القرآن، السنة، الدين ﴿ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ ﴾[إبراهيم: 52] ومن الذين ينذرهم؟ رسول الله عليه الصلاة والسلام، ﴿ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [إبراهيم: 52]، وهكذا يتعانق أول السورة مع آخرها.
ومن هنا نتعرف على هدف السورة، بعد هذا الاستعراض لموضوعاتها الهائلة، العظيمة، الرائعة، لها هدف مخصص ومختصر رغم ما فيها من موضوعات عظيمة، إنها تركز على الرسالة، فعنوانها إبراهيم وإبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام، وأولها العقيدة وآخرها العقيدة، وكثر فيها ذكر لفظ أرسلنا، أو أرسل، أنزلناه، وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، فلقد أرسلنا موسى، حوالي من عشر مرات تذكر هذه الكلمة بصيغ مختلفة، فكأن تركيز السورة على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صدقه كرسول، هذا هو هدف السورة، تحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وتصديقها، فهو رسول حقٍ وما جاء به حقٌ وما جاءكم إلا لتشكروا الله تعالى على نعمه، والشكر يكون بالإيمان بالله، وبما أنزل، وبما أرسل سبحانه وتعالى.
هذا هو تركيز السورة، ولماذا سميت إبراهيم؟ ما العلاقة بين إبراهيم ولم تسمى باسم نبي آخر؟ لأن إبراهيم كما قلنا هو أبو الأنبياء، إبراهيم أيضاً عليه السلام مرضيٌ عنه من الكفار في مكة، من اليهود، من النصارى، من المسلمين، حتى ادعى اليهود والنصارى أنه يهوديٌ أو نصراني، نسبوه إلى أنفسهم، رغم أنه كان قبل أن تنزل التوراة والإنجيل، فقال الله تعالى ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 67]، ثم إن إبراهيم عليه السلام جاء في دعائه أن يعمر الله تعالى هذا المكان بإقامة الصلاة ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]، وفي سورة البقرة في الآيات المشابهة لهذه جاءت دعوة إبراهيم عليه السلام ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 129] من العرب ﴿ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]، كأن الله يقول لهم بهذا العنوان على السورة بذكر اسم إبراهيم عليه السلام، كأن الله تعالى يقول لهم: لِمَ تنكرون رسالته، ألا تؤمنون بإبراهيم؟ فهو دعوة إبراهيم عليه السلام، هو دعوة إبراهيم جاءكم استجابة من الله تعالى لدعوة جده إبراهيم عليه السلام من قبل، فهو رجل منكم وجاء يتلو عليكم آيات الله ويعلمكم الكتاب والحكمة وهي السنة، ويزكيكم من أدرانكم وأرجاسكم من الكفر والعصيان والضلال لتطهروا بالإيمان.
هكذا أحبتي الكرام تتبين وتنكشف سورة إبراهيم أمامنا جليةً، وهي من السور التي وضحت أمر العقيدة كما علمها الله تعالى لأهل مكة، وناقشهم فيها وبين ماذا ينبغي أن يعتقده الإنسان من ذلك في هذا الأمر.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لحسن السماع وحسن العمل، ربنا اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
أحبتي الكرام، بقيت فقط المناسبة بين سورة إبراهيم وبين سورة الرعد، فسور القرآن مرتبطة فيما بينها ارتباطاً عظيماً ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، قلنا سورة إبراهيم عليه السلام، تركز – بعد ذكر العقيدة المجملة – تركز على أمر الرسول والرسالة، وما أجمل أن تجد في نهاية سورة الرعد ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43]، فكأن سورة إبراهيم ردٌ على قول الكافرين، تقولون لست مرسلاً، هذا بلاغ انظروا فيه وتعلموا منه أن محمد بن عبد الله رسولٌ حقاً ونبيٌ صدقاً عليه الصلاة السلام.
في السورة تركيزٌ على هامش الهدف والموضوعات تركيزٌ على شكر نعمة الله تبارك وتعالى، تركيزٌ على أن الأنبياء جميعاً جاءوا بمثل ما جاء بعضهم به، وأنهم لاقوا مثل ما لاقى بعضهم من أممهم، كانت مواجهة الكافرين لهم على مر الأزمان واحدة، ومتشابهة لدرجةٍ كبيرة، مما يدل على أنها خطةٌ شيطانية، ورقة عمل شيطانية يلقيها في كل أمها فتنفذها مع رسولها، ولذلك ذكرهم الله جميعاً في هذه السورة بأقوالٍ واحدة.
في هذه السورة كذلك دعوةٌ إلى النظر في نعمة الله التي أسبغها عليها في السموات وفي الأرض، وفي البحار، وفي الجبال، وفي الليل والنهار، والشمس والقمر وغير ذلك، فيها تركيزٌ على الصلاة، إبراهيم عليه السلام يُسكن قومه أو زوجته وولده هناك عند البيت الحرام ويدعو ربه أن يجعلهم مقيمين للصلاة ﴿ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [إبراهيم: 37] وفي نهاية أو نهايات دعواته يقول ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40]، الصلاة الصلاة، آخر وصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته، كان يقول: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم"[4]، "الصلاة عمود الدين"[5]، في السورة إشارة إلى أن يوم الآخر ويوم القيامة يومٌ عظيم، يومٌ شديد، نسأل الله تعالى السلامة فيه والعفو عنده.
اللهم أحسن إيابنا إليك ويسير حسابنا بين يديك، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، يسر أمورنا، واشرح صدورنا، واهدنا سبلنا، إنك أنت الرحمن الرحيم، اللهم اغفر اللهم للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات ورافع الدرجات، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين.
عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم..
وأقم الصلاة.
[1] أخرج مسلم في صحيحه (2999) عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له".
[2] انظر: البداية والنهاية (3/181)، السيرة النبوية لابن كثير (2/233، 234)، والسيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، للدكتور إبراهيم علي محمد أحمد: (135).
[3] انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الدكتور جواد علي: (16/ 118).
[4] أخرجه ابن ماجه (2698)، وصححه الألباني في الإرواء، وفقه السيرة.
[5] أورده السيوطي في الجامع الصغير (5186)، وقال: رواه أبو نعيم الفضل بن دكين في (الصلاة) عن عمر، وضعَّفه الألباني في ضعيف الجامع (3567)، ويشهد له حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة" رواه الترمذي (2616) وابن ماجه (3973) وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (2866).