أرشيف المقالات

تفسير: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل)

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
تفسير القرآن الحكيم
قول الله تعالى ذكره:
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ﴾
 
بسم الله الرحمن الرحيم
قول الله تعالى ذكره: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87].
 
يقول سبحانه: وإن من نعم الله العظمى على بني إسرائيل، إعطاءه موسى التوراة فيها هدى ونور، وكتب له فيها من كل شيء موعظة وتفصيلًا لكل شيء؛ فإن النعمة على موسى نعمة على بني إسرائيل، وإن التفضل بإعطاء موسى التوراة تفضُّل على بني إسرائيل الذين أُنزلت التوراة من أجلهم ولخيرهم وإسعادهم، وإنقاذهم مما كانوا فيه من الذلة والجهل والضلال والشقاء، فلم يقدروا هذه النعمة قدرها، ولم يأخذوها بقوة ويتبعوا نهجها المستقيم.
 
﴿ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ﴾: وهذه نعمة أخرى أن جعل الله في بني إسرائيل أنبياءَ كثيرين، أرسلهم متتالين بعد موسى، يقفو بعضهم أثر بعض، ويتبع بعضهم بعضًا؛ إذ إنهم جميعًا يسلكون طريق موسى، ويدعون إلى ما كان يدعو إليه موسى، يحيون ما يميت الناس من شريعة موسى، ويجددون العمل والحكم بالتوراة التي جاءهم بها موسى، والتي جعلوها وراء ظهورهم؛ وغلَّبوا عليها أهواءهم وآراءهم، وما كتبوه بأيديهم زاعمين أنه من عند الله وما هو من عند الله، وكان من أولئك الأنبياء: يوشع وشمويل وشمعون، وداود وسلمان، وشعيا وأرميا، وعزير وحزقيل، وإلياس واليسع وذو الكفل، وزكريا ويحيى، وغيرهم، فقد كان الله سبحانه يرسل في بني إسرائيل نبيًّا وأكثر كلما عموا وصموا عن اتباع التوراة والحكم بها، وكلما غلبت عليهم أهواء الملوك والسادة، وتحكَّمت فيهم شهوات الفروج والبطون، وانغمسوا في الترف والفسوق والعصيان، ولكن قسوة قلوبهم كانت أغلظ من أن يُلينها وعظ أولئك الأنبياء ونصحهم، بل كثيرًا ما طغت تلك القسوة على الأنبياء، ففريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون.
 
قال: ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾: الحجج الظاهرات، والمعجزات الواضحات في الدلالة على صدقه أعظم الصدق وأبينه على أنه رسول الله، وأنه وأمه آية للعالمين؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ [المائدة: 110]، وقال: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 48 - 50].
 
ثم قال: ﴿ وأيدنا ﴾: أعطيناه القوة، والأيد - بفتح الهمزة وسكون الياء -: القوة، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ﴾ [الذاريات: 47]؛ أي: بقوة شديدة، وقوله: ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 17]؛ أي: ذا القوة الشديدة.
 
﴿ بروح القدس ﴾، الروح: ما به الحياة والقوة المادية والمعنوية، وقد جاء في القرآن الكريم لعدة معانٍ كلها ترجع إلى ذلك؛ قال تعالى: ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ [البقرة: 87]، وقال: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْه ﴾ [النساء: 171]، وقال: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾ [النحل: 2]، وقال فيها أيضًا: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ [النحل: 102]، وقال: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 193، 194]، وقال: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾ [الشورى: 52]، وقال: ﴿ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ﴾ [غافر: 15]، وقال: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]، وقال: ﴿ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ﴾ [المجادلة: 22]، وقال: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ [الإسراء: 85]، وقال: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 29]، وقال: ﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ﴾ [السجدة: 9]، وقال: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج: 4]، وقال: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ﴾ [النبأ: 38]، وقال: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
 
فبتدبُّر هذه الآيات حقَّ تدبُّرها، نفهم أن المراد من الروح هو سر الحياة والقوة والكمال الذي يكون من الرب سبحانه وتعالى لمن يشاء من خلقه بحلة خفية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى، والمراد من "روح القدس" الذي أيَّد الله به عبده عيسى ابن مريم: أنه أمدَّه بقوة عظيمة في روحه وقلبه يقابل بها شديد كفر بني إسرائيل وعنادهم البالغ، وأحاطه مع ذلك بقوة خفية من حفظه وكف أذى بني إسرائيل عنه، وتطهيره من أيديهم الأثيمة، وكذلك أيَّد الله رسوله الأكرم محمدًا صلى الله عليه وسلم في مواقفه كلها بروح منه، وكذلك يؤيد عباده المنقطعين بأرواحهم الصافية لربهم عن ظلمات الهوى والمادة، وشهوات النفس الحيوانية، يمشون بين الناس بأجسامهم، ولكن عرجت أرواحهم إلى الله، فأيَّدهم الله بروح منه؛ ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173].
 
أنعم الله على بني إسرائيل بنعمة إرسال موسى وإيتائه التوراة، وإرسال كثير من الرسل تترى بعد موسى من بني إسرائيل، يقيمون لهم التوراة ويجددون ما درسوا منها، حتى كان آخر أولئك الرسل عيسى ابن مريم الذي أعطاه من الآيات والمعجزات ما لم يؤت من قبله، وأعطاه الإنجيل مصدقًا لما بين يديه من التوراة، وليحل لبني إسرائيل بعض الذي حرِّم عليهم، نِعمٌ تتضاءل بجانبها كل نعمة، ويعجز الإنسان - مهما بلغ من الجد في شكر الله آناء الليل والنهار - عن إيفائها حقَّها من الشكر اللائق بها، ومع ذلك فلم يقابل بنو إسرائيل هذه النعم إلا بأشنع الكفر وأقبحه.
واسمع إلى ذلك الاستفهام التوبيخي الداخل أوضح الدلالة على شنيع كفرهم بأولئك المرسلين؛ إذ يقول الله: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ ﴾ [البقرة: 87]، وما كانت تجيء إلا بالدين الحق الذي به صلاح النفوس وطهارة القلوب، ومكارم الأخلاق وزكاة الأرواح، أفكلما جاءكم رسول بالهدى والعلم والشرعة المحكمة الصالحة للإنسانية، نفرت أنفسكم الشريرة، وقمصت قلوبكم القاسية الفاسقة، وَوَلَّيتُم مدبرين عن الدين الحق والهدى؛ لأنكم ألِفتُم الفسوق والعصيان، واسْتَمْرَأْتُم التمرد على الله وعلى شرائعه وهدايته، واستحليتم مواقع سخطه ومنازل غضبه في طاعة شياطين الجن والإنس، وكلما حاول الرسل إنقاذكم من الغضب والسخط وإخراجكم من ظلمات الهوى إلى نور العلم، وإبعادكم عن فساد وشرور القول في الدين بالرأي، والجرأة على الله إلى الشرعة الرحيمة المنزلة من عند أرحم الراحمين - ﴿ اسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ [البقرة: 87]، وأبيتُم إلا الارتكاس في غضب الله، والبقاء على ذلك الفساد والكذب على الله، والقول عليه بالبهتان والباطل، وزيَّن لكم الشيطان ذلك وحسَّنه في صورة أنه الموروث عن الشيوخ والآباء، وأن اتباع الرسل خروج عن نهجهم وبُعد عن طريقهم، ينطوي على الذم لهم والقدح فيهم، والطعن عليهم، وفي ذلك ما فيه، فضلاً عن أن أولئك الرسل ستُخرج العامةَ من أيديكم، وتُحرر عقولهم من استعبادكم؛ إذ تُفهمهم أن الدين ليس محتكرًا على طائفة دون طائفة، وأن علم الشريعة المنزلة حق مباح للجميع، مُفتحة أبوابه لكل من أراد الدخول إلى جنته، ليجني من ثمراتها الطيبة.
 
وما زال الشيطان يغريكم بالاستكبار ويُزين لكم الباطل، ويضرب على قلوبكم بالقسوة، حتى جعلكم أشد الناس عداوة للرسل الذين هم مصابيح الهداية وعناوين الرحمة، ومثال الخير، وبهم تنزل البركات والرحمات من السماء؛ ﴿ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87]، وإذا كان هذا شأنكم مع الأنبياء الذين كانوا منكم والذين شرَّفكم الله بهم، فليس بغريب منكم أن تكفروا بالنبي الأمي والرسول العربي الذي ختم الله به الرسالة، والذي جاء لينقذ العالم كله من شروركم وشرور غيركم، وليس بعجيب منكم وقد استولى الشيطان على قلوبكم، فأصمها وأعماها عن التوراة التي تتشدقون بالفخر بها - وأنتم أشد الناس بعدًا عنها وكفرًا بها - أن يعمي قلوبكم ويصمها عن القرآن وهدايته ونوره، فتحاربوه حسدًا وبغيًا وظلمًا وعدوانًا، وتحاولون قتل الرسول العربي والله يعصمه منكم، أعاذنا الله من مثل هذا الكفر والعصيان والبغي والحسد!
 
ونسأل الله أن يهدي قلوبنا بهداية رُسله، وأن يوفقنا لشُكر أنعُمِه، وأن يُنير قلوبنا بنور القرآن والسنة المحمدية، ويعصمنا من الزيغ والضلال، واتباع الهوى وطاعة الشيطان.

شارك الخبر

المرئيات-١