أرشيف المقالات

التقديم والتأخير في القرآن

مدة قراءة المادة : 24 دقائق .
التَّقديم والتَّأخير في القرآن


الحمد لله رب العالَمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إله الأولين والآخِرين، الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، مَن بعثه الله رحمة للعالمين، وهداية للخلق أجمعين، عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته الأكرمين، أنوار الهدى، ومصابيح الدجى أجمعين، أما بعد:
فإن للتقديم والتَّأخير في القرآن الكريم فوائد مهمة، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
بسم الله الرحمن الرحيم
أهمية التَّقديم والتَّأخير في اللغة:
التَّقديم والتَّأخير هو أحد أساليب البلاغة؛ فإنهم أتوا به دلالةً على تمكنهم في الفصاحة، وملكتهم في الكلام، وانقياده لهم، وله في القلوب أحسن موقعٍ، وأعذب مذاقٍ.
 
هناك آياتٌ أشكل معناها على كثيرٍ من الناس بحسب ظاهرها، فلما عُرِف أنه من باب التَّقديم والتَّأخير اتضح معناها،وسوف نذكر بعضًا منها:
(1) روى ابن جرير الطبري عن قتادة في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا ﴾ [التوبة: 85]، قال: هذه من تقاديم الكلام، يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا؛ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة)؛ (تفسير الطبري ج- 14 ص- 295).
 
(2) روى ابن أبي حاتمٍ عن قتادة في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ﴾ [طه: 129]، قال: هذا من تقاديم الكلام، يقول: (لولا كلمةٌ وأجلٌ مسمى، لكان لزامًا)؛ (تفسير ابن أبي حاتم ج- 7 ص- 2441 - رقم 13580).
 
(3) روى ابن أبي حاتمٍ عن مجاهدٍ في قوله تعالى: ﴿ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا ﴾ [الكهف: 1، 2]، قال: هذا من التَّقديم والتَّأخير: "أنزل على عبده الكتاب قيِّمًا، ولم يجعل له عوجًا"؛ (تفسير ابن أبي حاتم ج- 7 ص- 2344 - رقم 12694).
 
(4) روى ابن أبي حاتمٍ عن قتادة في قوله تعالى: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ [آل عمران: 55]، قال: هذا من المقدَّم والمؤخَّر؛ أي: "رافعُك إليَّ ومتوفِّيك"؛ (تفسير ابن أبي حاتم ج- 2 ص- 661 - رقم 3583).
 
(5) روى ابن جرير الطبري عن عكرمة في قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾[ص: 26]، قال: هذا من التَّقديم والتَّأخير يقول: "لهم يوم الحساب عذابٌ شديدٌ بما نسوا"؛ (تفسير الطبري ج- 21 ص- 189).
 
(6) روى ابن جريرٍ الطبري عن ابن زيدٍ في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83]، قال: هذه الآية مقدمةٌ ومؤخرةٌ، إنما هي" أذاعوا به إلا قليلًا منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينجُ قليلٌ ولا كثيرٌ"؛ (تفسير الطبري ج- 8 ص- 576).
 
(7) أخرج ابن جريرٍ الطبري عن ابن عباسٍ في قوله تعالى: ﴿ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [النساء: 153]، قال: إنهم إذا رأوا الله فقد رأوه، إنما قالوا: "جهرةً أرنا الله"، قال: هو مقدمٌ ومؤخرٌ،قال ابن جريرٍ: يعني أن سؤالهم موسى كان جهرةً؛ (تفسير الطبري ج- 9 ص- 359).
 
(8) ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾ [البقرة: 72]، قال البغوي: هذه أولُ القصة، وإن كان مؤخرًا في التلاوة.
 
وقال الواحدي: كان الاختلاف في القاتل قبل ذبح البقرة، وإنما أُخِّر في الكلام؛ لأنه تعالى لما قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ﴾ [البقرة: 67] الآية، علِم المخاطبون أن البقرة لا تذبح إلا للدلالة على قاتلٍ خفِيَتْ عينه عليهم، فلما استقرَّ علمُ هذا في نفوسهم، أتبع بقوله: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾ [البقرة: 72]، فسألتم موسى، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67].
 
(9) ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾ [الفرقان: 43]، والأصل "هواه إلهه"؛ لأن من اتخذ إلهه هواه غير مذمومٍ، فقدم المفعول الثاني للعناية به.
 
(10) ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ [فاطر: 27]، والأصل "سودٌ غرابيب"؛ لأن الغربيبَ الشديدُ السواد.
 
(11) ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا ﴾ [هود: 71]؛ أي: فبشرناها فضحِكَتْ.
 
(12) ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ [يوسف: 24]؛ أي: لَهَمَّ بها، وعلى هذا فالهَمُّ منفيٌّ عنه.
 
الحكمة من التَّقديم وأسراره:
(1) التبرُّك؛ كتقديم اسم الله تعالى في الأمور ذات الشأن، ومنه قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾ [آل عمران: 18]، وقوله: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ﴾ [الأنفال: 41].
 
(2) التعظيم؛ كقوله: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾ [النساء: 69]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ ﴾ [الأحزاب: 56]، ﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾[التوبة: 62].
 
(3) التشريف؛ كتقديم الذَّكر على الأنثى؛ نحو: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ﴾ [الأحزاب: 35]، والحُر في قوله: ﴿ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾ [البقرة: 178]، والحي في قوله: ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ [الأنعام: 95]، ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ﴾ [فاطر: 22]، والخيل في قوله: ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ﴾ [النحل: 8]، والسمع في قوله: ﴿ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ ﴾ [البقرة: 7]، وقوله: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ﴾ [الإسراء: 36]، وقوله: ﴿ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ﴾ [الأنعام: 46]، حكى ابن عطية عن النقاش أنه استدل بها على تفضيل السمع والبصر؛ ولذا وقع في وصفه تعالى: ﴿ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [الحج: 61] بتقديم "السميع"، ومِن ذلك تقديمه صلى الله عليه وسلم على نوحٍ ومن معه في قوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ ﴾ [الأحزاب: 7]، وتقديم الرسول في قوله: ﴿ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ ﴾ [الحج: 52]، وتقديم المهاجرين في قوله: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 100]، وتقديم الإنس على الجن حيث ذكرا في القرآن، وتقديم النبيين، ثم الصِّدِّيقين، ثم الشهداء، ثم الصالحين في آية النساء، وتقديم إسماعيل على إسحاق؛ لأنه أشرف بكون النبي صلى الله عليه وسلم مِن ولده، وأسنُّ، وتقديم موسى على هارون؛ لاصطفائه بالكلام، وقُدِّم هارون عليه في سورة طه رعايةً للفاصلة، وتقديم جبريل على ميكائيل في آية البقرة؛ لأنه أفضل، وتقديم العاقل على غيره في قوله: ﴿ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [النازعات: 33]، ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ﴾ [النور: 41]،وأما تقديم الأنعام في قوله: ﴿ تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ ﴾ [السجدة: 27]؛ فلأنه تقدَّم ذِكر الزرع؛ فناسب تقديم الأنعام، بخلاف آية (عبس)، فإنه تقدم فيها: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾ [عبس: 24]؛ فناسب تقديم (لكم)، وتقديم (المؤمنين) على (الكفار) في كل موضعٍ، وأصحاب اليمين على أصحاب الشمال، والسماء على الأرض، والشمس على القمر حيث وقع، إلا في قوله: ﴿ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾ [نوح: 15، 16]، فقيل: لمراعاة الفاصلة، وقيل: لأن انتفاع أهل السموات العائد عليهن الضمير به أكثر.
 
وقال ابن الأنباري: يقال: إن القمر وجهه يضيء لأهل السموات، وظهره لأهل الأرض؛ ولهذا قال تعالى: (فيهن) لما كان أكثر نوره يضيء إلى أهل السماء.
 
ومنه تقديم الغيب على الشهادة في قوله: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [الأنعام: 73]؛ لأن عِلمه أشرف، وأما: ﴿ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه: 7] فأُخِّر فيه رعايةً للفاصلة.
 
(4) المناسبة، وهي إما مناسبة المتقدم لسياق الكلام؛ كقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6]؛ فإن الجمال بالجمال وإن كان ثابتًا حالتي السراح والإراحة، إلا أنها حالة إراحتها وهو مجيئها من المرعى آخر النهار يكون الجمال بها أفخرَ؛ إذ هي فيه بطانٌ، وحالة سراحها للمرعى أول النهار يكون الجمال بها دون الأول؛ إذ هي فيه خماصٌ، ونظيره قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] قدم نَفْي الإسراف؛ لأن الشرف في الإنفاق.
 
وقوله: ﴿ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ [الرعد: 12]؛ لأن الصواعق تقع مع أول برقةٍ، ولا يحصل المطر إلا بعد توالي البرقات.
 
وقوله: ﴿ وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 91] قدمها على الابن لَمَّا كان السياق في ذكرها في قوله: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ﴾ [الأنبياء: 91]؛ ولذلك قدم الابن في قوله: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ [المؤمنون: 50]، وحسَّنه تقدُّم موسى في الآية قبله.
 
ومنه قوله: ﴿ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 79] قدم الحُكْم وإن كان العلم سابقًا عليه؛ لأن السياق فيه؛ لقوله في أول الآية: ﴿ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ﴾ [الأنبياء: 78].
 
وإما مناسبة لفظٍ هو من التقدم أو التأخر؛ كقوله: ﴿ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ﴾ [الحديد: 3]، ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ﴾ [الحجر: 24]، ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴾ [المدثر: 37]، ﴿ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [القيامة: 13]، ﴿ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ﴾ [الواقعة: 39، 40]، ﴿ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾ [الروم: 4]، ﴿ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ﴾ [القصص: 70]، وأما قوله: ﴿ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى ﴾ [النجم: 25]؛ فلمراعاة الفاصلة، وكذا قوله: ﴿ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ﴾ [المرسلات: 38].
 
(5) الحث عليه، والحض على القيام به؛ حذرًا من التهاون به؛ كتقديم الوصية على الدَّيْنِ في قوله: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 11] مع أن الدَّين مقدمٌ عليها شرعًا.
 
(6) السبق، وهو إما في الزمان باعتبار الإيجاد، بتقديم الليل على النهار، والظلمات على النور، وآدم على نوحٍ، ونوح على إبراهيم، وإبراهيم على موسى، وهو على عيسى، وداود على سليمان، والملائكة على البشر في قوله: ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ﴾ [الحج: 75]، وعاد على ثمود، والأزواج على الذرية في قوله: ﴿ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ ﴾ [الأحزاب: 59].
 
والسِّنَة على النوم في قوله: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255]، أو باعتبار الإنزال؛ كقوله: ﴿ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 19]، ﴿ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [آل عمران: 3، 4]، أو باعتبار الوجوب والتكليف؛ نحو: ﴿ ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ﴾ [الحج: 77]، ﴿ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 158]؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((نبدأ بما بدأ اللهُ به)).
 
أو بالذات؛ نحو: ﴿ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ [فاطر: 1]، ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ ﴾ [المجادلة: 7]، وكذا جميع الأعداد، كل مرتبةٍ هي متقدمةٌ على ما فوقها بالذات، وأما قوله: ﴿ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ﴾ [سبأ: 46]؛ فللحثِّ على الجماعة والاجتماع على الخير.
 
(7) السببية؛ كتقديم العزيز على الحكيم؛ لأنه عزَّ فحكَم، والعليم عليه؛ لأن الإحكامَ والإتقانَ ناشئٌ عن العلم، وأما تقديمُ الحكيم عليه في سورة الأنعام فلأنَّه مقامُ تشريعِ الأحكام.
 
ومنه: تقديم العبادة على الاستعانة في سورة الفاتحة؛ لأنها سببُ حصول الإعانة، وكذا قوله: ﴿ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]؛ لأن التوبة سبب الطهارة.
 
﴿ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ [الجاثية: 7]؛ لأن الإفك سبب الإثم.
 
﴿ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ [النور: 30]؛ لأن البصرَ داعيةٌ إلى الفَرْجِ.
 
(8) الكثرة؛ كقوله: ﴿ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ﴾ [التغابن: 2]؛ لأن الكفار أكثر.
 
﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ﴾ [فاطر: 32] قدَّم الظالم لكثرته؛ ثم المقتصد، ثم السابق؛ ولهذا قدَّم السارق على السارقة؛ لأن السرقة في الذكور أكثر، والزانية على الزاني؛ لأن الزنا فيهنَّ أكثر.
 
ومنه تقديم الرحمة على العذاب حيث وقع في القرآن غالبًا؛ ولهذا ورد: ((إن رحمتي غلبَتْ غضب)).
 
وقوله: ﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ﴾ [التغابن: 14]، قال ابن الحاجب (رحمه الله): إنما قدم الأزواج؛ لأن المقصود الإخبارُ أن فيهم أعداءً، ووقوع ذلك في الأزواج أكثر منه في الأولاد، وكان أقعد في المعنى المراد فقدم؛ ولذلك قدمت الأموال في قوله: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15]؛ لأن الأموالَ لا تكاد تفارقها الفتنةُ؛ ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7]، وليست الأولاد في استلزام الفتنة مثلها؛ فكان تقديمها أَوْلى.
 
(9) الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى؛ كقوله: ﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 195]، بدأ بالأدنى لغرض الترقي؛ لأن اليدَ أشرفُ من الرِّجْل، والعين أشرف من اليد، والسمع أشرف من البصر، ومن هذا النوع تأخير الأبلغ، وقد خرج عليه تقديم الرحمن على الرحيم، والرؤوف على الرحيم، والرسول على النبي في قوله: ﴿ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 51]، وذُكِرَ لذلك نُكَتٌ، أشهرها: مراعاة الفاصلة.
 
(10) التدلِّي مِن الأعلى إلى الأدنى، وخرج عليه: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255]، ﴿ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً ﴾ [الكهف: 49]، ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [النساء: 172] .
 
(11) منها كونه أدلَّ على القدرة وأعجب؛ كقوله: ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ﴾ [النور: 45]، وقوله: ﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ﴾ [الأنبياء: 79].
 
قال الزمخشري: قدم الجبال على الطير؛ لأن تسخيرها له وتسبيحَها أعجبُ وأدلُّ على القدرة، وأدخلُ في الإعجاز؛ لأنها جمادٌ، والطير حيوانٌ ناطقٍ.
 
(12) رعاية الفواصل؛ كقوله: ﴿ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37]، بتقديم "إياه" على "تعبدون" لمشاكلة رؤوس الآي، وكقوله: ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ﴾ [طه: 67]؛ فإنه لو أخَّر (في نفسه) عن (موسى) فات تناسُبُ الفواصل؛ لأن قبله: ﴿ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ [طه: 66]، وبعده: ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ﴾ [طه: 68].
 
وكقوله: ﴿ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ﴾ [إبراهيم: 50]؛ فإن تأخيرَ الفاعل عن المفعول؛ لمناسبتِه لِما بعده.
 
وكقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [إبراهيم: 51]، وهو أشكلُ بما قبله؛ لأن قبله: ﴿ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ﴾ [إبراهيم: 49].
 
ومنه: ﴿ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ [طه: 70] بتقديم "هارون"، مع أن "موسى" أحقُّ بالتَّقديم.
 
(13) إفادة الحصر للاختصاص.
وذلك بتقديم المفعول، والخبر، والظرف، والجار والمجرور، ونحوها، على الفعل؛ كقوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [الفاتحة: 5]؛ أي نخصُّك بالعبادة، فلا نعبد غيرك.
 
وقوله: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37]؛ أي: إن كنتم تخصونه بالعبادة.
 
والخبر كقوله: ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي ﴾ [مريم: 46]، وقوله: ﴿ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 2]؛ (البرهان في علوم القرآن للزركشي ج- 3 ص- 236: 233)، (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج- 3 ص- 41: 35).
 
فائدة مهمة:
قد يقدَّم لفظٌ في موضعٍ ويؤخَّر في آخرَ، وفائدة ذلك إما لكون السياق في كل موضعٍ يقتضي ما وقع فيه، وإما لقصد البداءة والختم به للاعتناء بشأنه؛ كما في قوله: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106]، وإما لقصد التفنُّنِ في الفصاحة، وإخراج الكلام على عدةِ أساليبَ؛ كما في قوله: ﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾ [البقرة: 58]، وقوله: ﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ﴾ [الأعراف: 161]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ [المائدة: 44]، وقال في الأنعام: ﴿ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ﴾ [الأنعام: 91]؛ (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج- 3 ص- 41).
 
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعَلَه ذخرًا لي عنده يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].
 
كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم،وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالَمين.
 
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢