أرشيف المقالات

شرح حديث: الأعمال بالنيات (2)

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2شرح حديث: «الأعمال بالنيات» ( 2 )   أقسام الهجرة: الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان. القسم الأول: هجرة المكان: فأنْ ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي، ويكثر فيه الفسوق، وربما يكون بلدَ كفر إلى بلد لا يوجد فيه ذلك.   وأعظمه الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وقد ذَكَر أهل العلم أنه يجب على الإنسان أن يهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام؛ إذا كان غير قادر على إظهار دينه.   وأما إذا كان قادرًا على إظهار دينه، ولا يُعَارَض إذا أقام شعائر الإسلام؛ فإنَّ الهجرة لا تجب عليه، ولكنها تُسْتَحب.   وبناءً على ذلك يكون السفر إلى بلد الكفر أعظمَ من البقاء فيه؛ فإذا كان بلد الكفر الذي كان وطن الإنسان؛ إذا لم يستطع إقامة دينه فيه، وجب عليه مغادرته، والهجرة منه؛ فكذلك إذا كان الإنسان من أهل الإسلام، ومن بلاد المسلمين؛ فإنه لا يجوز له أن يسافر إلى بلد الكفر؛ لِمَا في ذلك من الخطر على دينه، وعلى أخلاقه، ولِمَا في ذلك من إضاعة ماله، ولِمَا في ذلك من تقوية اقتصاد الكفار، ونحن مأمورون بأن نغيظ الكفار بكل ما نستطيع؛ كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 123].   وقال تعالى: ﴿ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [التوبة: 120].   فالكافر أيًّا كان؛ سواء كان من النصارى، أو من اليهود، أو من الملحدين، وسواء تَسَمَّى بالإسلام أم لم يَتَسَمَّ بالإسلام، الكافر عدوٌّ لله، ولكتابه، ولرسوله، وللمؤمنين جميعًا، مهما تلبَّس بما يتلبَّس به؛ فإنه عدوٌّ!!   فلا يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلد الكفر إلا بشروط ثلاثة: الشرط الأول: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات؛ لأن الكفار يوردون على المسلمين شُبَهًا في دينهم، وشُبَهًا في رسولهم، وشُبَهًا في كتابهم، وشُبَهًا في أخلاقهم، وفي كل شيء يوردون الشُّبْهَةَ؛ ليبقى الإنسان شاكًّا متذبذبًا، ومن المعلوم أن الإنسان إذا شَكَّ في الأمور التي يجب فيها اليقين؛ فإنه لم يقم بالواجب، فالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره - الإيمان بهذه - يجب أن يكون يقينًا؛ فإن شَكَّ الإنسان في شيء من ذلك، فهو كافر.   فالكفار يُدخلون على المسلمين الشكَّ، حتى إن بعض زعمائهم صرَّح قائلًا: «لا تحاولوا أن تخرجوا المسلم من دينه إلى دين النصارى، ولكن يكفي أن تُشَكِّكوه في دينه؛ لأنكم إذا شكَّكتموه في دينه سلبتموه الدين، وهذا كاف».   أنتم أخرجوه من هذه الحظيرة التي فيها الغلبة، والعِزَّة، والكرامة ويكفي؛ أما أن تحاولوا أن تدخلوه في دين النصارى - المبني على الضلال والسفاهة - فهذا لا يمكن؛ لأن النصارى ضالون، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان دين المسيح عليه الصلاة والسلام دينَ حق؛ لكنه دِينُ الحق في وقته، قبل أن يُنْسَخ برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الهُدَى والحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.   الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات، فالذي ليس عنده دين إذا ذهب إلى بلاد الكفر انغمس؛ لأنه يجد زهرة الدنيا، هناك شهوات من خمر، وزنا، ولواط، كل إجرام موجود في بلاد الكفر؛ فإذا ذهب إلى هذه البلاد يُخْشَى عليه أن ينزلق في هذه الأوحال، إلا إذا كان عنده دين يحميه؛ فلا بد أن يكون عند الإنسان دين يحميه من الشهوات.   الشرط الثالث: أن يكون محتاجًا إلى ذلك؛ مثل أن يكون مريضًا؛ يحتاج إلى السفر إلى بلاد الكفر للاستشفاء، أو يكون محتاجًا إلى علم لا يُوجد في بلد الإسلام تخصُّصٌ فيه؛ فيذهب إلى هناك ويتعلم، أو يكون الإنسان محتاجًا إلى تجارة، يذهب ويتَّجِر، ويرجع؛ المُهِمُّ أنه لا بد أن يكون هناك حاجة، ولهذا أرى أن الذين يسافرون إلى بلد الكفر من أجل السياحة فقط، أرى أنهم آثمون، وأنَّ كُلَّ قِرْش يصرفونه لهذا السفر فإنه حرام عليهم، وإضاعةٌ لمالهم، وسُيحاسبون عنه يوم القيامة؛ حين لا يجدون مكانًا يتفسَّحون فيه، أو يتنزهون فيه، حين لا يجدون إلا أعمالهم؛ لأن هؤلاء يُضيِّعُون أوقاتهم، ويُتْلِفون أموالهم، ويُفسدون أخلاقهم؛ وكذلك ربما يكون معهم عوائلهم؛ ومِن عَجَبٍ أن هؤلاء يذهبون إلى بلاد الكفر التي لا يُسْمَع فيها صوت مؤذن، ولا ذِكْرِ ذاكر، وإنما يُسْمَع فيها أبواقُ اليهود، ونواقيسُ النصارى، ثم يبقون فيها مدة هم وأهلوهم وبنوهم وبناتهم؛ فيحصل في هذا شَرٌّ كثير، نسأل الله العافية والسلامة.   وهذا من البلاء الذي يحل الله به النكبات التي تأتينا، والتي نحن الآن نعيشها، كلها بسبب الذنوب والمعاصي؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].   نحن غافلون، نحن آمنون في بلادنا؛ كأنَّ ربنا غافل عنَّا، كأنه لا يعلم، كأنه لا يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.   والناس يُعْصَرُون في هذا الحوادث، ولكن قلوبهم قاسية والعياذ بالله! وقد قال الله سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [المؤمنون: 76]؛ أخذناهم بالعذاب، ونزل بهم، ومع ذلك ما استكانوا إلى الله، وما تضرَّعوا إليه بالدعاء، وما خافوا مِن سَطْوَتِه، ولكن قَسَت القلوب - نسأل الله العافية - وماتت؛ حتى أصبحت الحوادث المصيرية تَمرُّ على القلب وكأنها ماء بارد، نعوذ بالله من موت القلب وقسوته، وإلا لو كان الناس في عقل، وفي قلوب حَيَّة، ما صاروا على هذا الوضع الذي نحن عليه الآن، مع أننا في وضع نعتبر أننا في حال حرب مدمرة مهلكة، حرب غازات الأعصاب والجنود وغير ذلك، ومع هذا لا تجد أحدًا حَرَّك ساكنًا إلا أن يشاء الله، هذا لا شك أنه خطأ؛ إنَّ أناسًا في هذه الظروف العصيبة ذهبوا بأهليهم يتنزهون في بلاد الكفر، وفي بلاد الفسق، وفي بلاد المجون، والعياذ بالله!   والسفر إلى بلاد الكفر للدعوة يجوز؛ إذا كان له أثر وتأثير هناك، فإنه جائز؛ لأنه سفر لمصلحة، وبلاد الكفر كثير من عوامهم قد عُمِّي عليهم الإسلام، لا يدرون عن الإسلام شيئًا، بل قد ضُلِّلُوا، وقيل لهم: إنَّ الإسلام دينُ وحشية، وهمجية، ورعاع، ولا سيما إذا سمع الغرب بمثل هذه الحوادث التي حصلت على أيدي من يقولون إنهم مسلمون، سيقولون: أين الإسلام؟! هذه وحشية! وحوش ضارية يعدو بعضها على بعض، ويأكل بعضها بعضًا، فَينفرُ الناس من الإسلام بسبب أفعال المسلمين، نسأل الله أن يهدينا جميعًا صراطه المستقيم.   القسم الثاني: هجرة العمل: وهي أن يهجر الإنسانُ ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»؛ فَتَهْجُر كُلَّ ما حَرَّم الله عليك، سواء كان مما يتعلق بحقوق الله، أو ما يتعلق بحقوق عباد الله؛ فتجهر السبَّ، والشتم، والقتل، والغِشَّ، وأكل المال بالباطل، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وكل شيء حَرَّمَ اللهُ تَهْجُرُهُ؛ حتى لو أن نفسك دعتك إلى هذا، وألَحَّت عليك، فاذكر أن الله حَرَّمَ ذلك حتى تهجره وتبعد عنه.   القسم الثالث: هجرة العامل: فإنَّ العامل قد تجب هجرته أحيانًا؛ قال أهل العلم: «مِثْلُ الرَّجُل المجاهر بالمعصية الذي لا يبالي بها؛ فإنه يُشْرَع هجره إذا كان في هجره فائدة ومصلحة».   والمصلحة والفائدة: أنه إذا هُجِرَ عرف قدر نفسه، ورجع عن المعصية.   ومثال ذلك: رجل معروف بالغِشِّ بالبيع والشراء؛ فيهجره الناس، فإذا هجروه تاب من هذا ورجع وندم، ورجل ثانٍ يتعامل بالربا، فيهجره الناس، ولا يُسلِّمون عليه، ولا يُكلِّمونه؛ فإذا عرف هذا خجل من نفسه وعاد إلى صوابه، ورجل ثالث - وهو أعظمهم - لا يصلي؛ فهذا مرتد كافر - والعياذ بالله - يجب أن يُهْجَر؛ فلا يُرَدُّ عليه السلام، ولا يُسَلَّم عليه، ولا تُجَاب دعوته؛ حتى إذا عرف نفسه، ورجع إلى الله، وعاد إلى الإسلام، انتفع بذلك.   أما إذا كان الهجر لا يفيد ولا ينفع، وهو من أجل معصية، لا من أجل كفر؛ لأن الهَجْرَ إذا كان للكفر فإنه يُهْجَر، والكافر المرتد يُهْجَر على كل حال - أفاد أم لم يفد - لكن صاحب المعصية التي دون الكفر إذا لم يكن في هجره مصلحة؛ فإنه لا يحل هجره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ».   ومن المعلوم أن المعاصي التي دون الكفر عند أهل السُّنَّة والجماعة لا تخرج من الإيمان، فيبقى النظر بعد ذلك: هل الهجر مفيد أو لا؟ فإنْ أفاد وأوجب أن يدع الإنسان معصيته، فإنه يهجر، ودليل ذلك: قصة كعب بن مالك رضي الله عنه، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم الذين تختلفوا عن غزوة تبوك، فهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأَمَرَ المسلمين بهجرهم، لكنهم انتفعوا في ذلك انتفاعًا عظيمًا، ولجؤوا إلى الله، وضاقت عليهم الأرض بما رَحُبَت، وضاقت عليهم أنفسهم، وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فتابوا، وتاب الله عليهم.   هذه أنواع الهجرة: هجرة المكان، وهجرة العمل، وهجرة العامل.   المصدر: « شرح رياض الصالحين »



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣