أرشيف المقالات

أيها الهجريون

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2أيها الهِجْريون   محاصَرَين في مكة...
ترقبهما عيون قريش ألَّا يبرحاها...   وفي غَلَسِ ليلة ما يخرج من بين أيدي المطبقين على داره، وقد عميت أبصارهم عنه، بل وذرَّ على رؤوسهم التراب، وسيوفهم كانت مصلتة!
ويتجه لبيت صاحبه، وكان صاحبه قد أعد العدة، وأخذ ماله كله لرفيقه، وما ترك لأهله إلا كومة أحجار في هِميان؛ ليظنها والده الكافر آنذاك مالًا، وهذا أول التضحية لذلك المسير الشاق.   وغادرا مكة إلى جبل ثور... وفي الجبل حُوصر حَمَلةُ الإسلام يومًا ما في الغار...
في ظلمة الغار...
في حلق الغار... لو نظر جنود الكفر أسفل أقدامهم أثناء بحثهم، لربما حدث ما يثني مسار الدعوة...   ثم ينجي الله عبديه: النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، ويواصلان المسير نحو (طيبة) الطيبة. وفي الطريق... إذ بحوافر خيل تركض من خلفهم... إنه سُرَاقة...
يعثر عليهما، ويرى فيهما الجائزة التي أُعدت للقبض عليهما حيين أو ميتين...
وينجي الله نبيه وصاحبه بمعجزة غوص أقدام الخيل!   ثم خالفا طريق القوافل؛ هربًا من المطاردة... تعِبا...
وشق عليهما...
ولاقيا العَنَت والضنك... قالا في ظل صخرة...
شرِبا الحليب في خيمة أم معبد...
وواصلا...   إن أشد ما يلقاه المظلوم أن يُطرد من دياره بغير ذنب، ويظل مطارَدًا لا يلوي على شيء، وكل شيء يخيل إليه أنه نصيرٌ لأعدائه. الحمد لله... تلك المدينة... تلك مشارفها قد اكتظت بالأنصار...   كانوا يخرجون كل يوم لاستقباله، حتى عادوا في اليوم الذي جاء فيه آيسين منه ذلك اليوم، وما كادوا يصلون بيوتهم، حتى صرخ الصارخ: هذا محمد قد جاء.   فانطلقوا...
تزاحموا في الطرقات...
وخرجت النساء في الشرفات ليرونه...
وضجت المدينة: الله أكبر...
جاء محمد...
جاء محمد...   الرجال، الشباب، الصبيان، كلهم يصيحون: جاء محمد...
جاء محمد، وهم لما يروه من قبل...
لكنهم ما أحبوا أحدًا كحبِّه!   وكان اللقاء...
كان اللقاء الذي وضع التاريخُ عنده نقطة آخر السطر، وبدأ لا أقول فقرة جديدة؛ بل سِفْر تاريخ جديد...   إن خطوات الهجرة تلك خطوات حولت بوصلة العالم؛ فقد أسست دولة جعلت للعرب مكانة مُهابة وكلمة نافذة، وقد كانوا من قبلُ عَرَبًا متناحرين أشداءَ أغلاظًا ثَفِنِي الأخلاق.   تلك الهجرة الشريفة رفعت رأس العرب، وبها شمخ العربي بأنفه حتى أصبح سيد الجزيرة.   فدخل ربعيٌّ بأسباله البالية وسيفه المتثلم على (رستم) قائلًا: "لقد ابتعثنا الله؛ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سَعة الآخرة". هكذا غيرت الهجرة حال العربي. وبعد تلك الهجرة قذف الإسلام بشُهُب حارقة معاقلَ الكفر في مشارق الأرض ومغاربها؛ فاندفعت جنود الإسلام واقتحمت إيوان كسرى شرقًا، وطوت الأرض طيًّا حتى وطئت حوافرُ خيلِ (قتيبة) تخوم الهند!   ويمموا الغرب المظلم أيضًا...
الغرب التائه، فها هي رايات الإسلام تمر مر السحاب على صحاري إفريقية، فتنثر ماءها على رمالها، فتزهر البوادي والقفار...
راياتٌ يرفعها قائد عن قائد، حتى أكمل موسى والغافقيُّ مسيرة الأجداد؛ فبتنا نرى أطراف باريس، وهناك...
روينا أرض الغرب بدماء زاكية لونت صحفات الزمان بالأحمر القاني.   أيها العالم، لم تتوقف خطوات الهجرة النبوية على أطراف المدينة فحسب، بل أكملها أولئك الأفذاذ، كلٌّ بما تيسر له، كلٌّ بما فتح الله عليه. وورث الخَطْوَ كابرٌ عن كابر...   فتزاحموا بالرُّكب على حِلَق العلم التي طالما عانوا في الرحلة إليها...
وسوَّدوا صحفهم بالمحابر...
وألقوا شباكهم أسفل كراسي العلم؛ ليلتقطوا درر العلماء، ونُكت الجهابذة؛ فيشعلوا بها سُرُج العلم في زُقاق الجهل، ويزيلوا أغطية الران عن العقول، ويتلقوا بأتراسها سيوف الشُّبَه، ورماح الأفكار الضالة؛ فأُلِّفت التآليف الخالدة في الفنون المتنوعة...   وواصل مسيرَ الهجرة رجالٌ بنوا للأمة حضارة مستقلة بذاتها...   فأشرقت الشمس يومًا ما على قصور الأندلس، وحصون الشام، وأساطيل المغاربة، وحدائق العراق، وصناعات ما وراء النهر، وعلى أنظمة ودواوين، ودراسات واختراعات، وأفكار وآداب، وتآليف وبنايات...
أشرقت على حضارة جديدة ناشئة!   وبقي فَيءُ الهجرة وارفًا تتنعم فيه دول الإسلام والشعوب قرونًا متعاقبة... حتى جاء زمننا هذا...
حتى جاء التاريخ الحديث... حيث شاخت حضارة الأمة؛ فذابت قوالب القيم في كأس الحضارة الغربية إلا ما شاء الله.
  سمعت أحدهم مرة يتحدث عن حدث ما، وأراد أن يحدد زمنه فقال: كان هذا في (أوقست)؛ يعني: شهر أغسطس! أحد أبناء تلك الأمة العريقة التاريخ والحضارة، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وكأنما من التحضر هجر الهجرة وتاريخها وإلمامك بالتاريخ الميلادي! ما العيب في ذكر الهجرة؟ وما الإضافة في ذكر الميلاد؟
حتى في التاريخ، أصبحنا لا نفخر بتلك الهجرة التي أضحت شامة في جبين الأيام، آهٍ أيها المسلم، بقدر التبعية يكون الذل.   أما علِم أولئك الهاجرون للهجرة، وقاطعو تلك الخطوات التي أوصلها السلف العظماء إلى حدود التاريخ الحديث - أن التاريخ الميلادي الذي ينمِّقون لفظه ويجمِّلون حرفه مُختلَف في حقيقته وبدايته؟   تاريخنا الهجري تاريخ موغل في العراقة، تاريخ لو كان لأمة أخرى لاحتفلت بكل يوم فيه، تاريخ يكفيه شرفًا أن كثيرًا من العبادات الكبرى؛ كالصوم، والحج، والأعياد، والزكاة، وغيرها - لا تصح إلا بأيامه لا بأيام التاريخ الميلادي؛ فلِمَ لا نكتفي بتاريخ نتعبد الله به؟ وإن لم يكن فليُذكر أولًا، ويكون الميلادي تبعًا.   قال يهودي لعمرَ رضي الله عنه وهو يحدثه عن قول الله: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]: "لو نزلت علينا معشر يهود، لاتخذنا اليوم الذي نزلت فيه عيدًا"، لقد كان اليهود - وهم اليهود - ينظرون لتاريخنا بإجلال ومهابة.   يوم الهجرة يوم قامت فيه دولة، ونهضت أمة، وفرَّغ التاريخ صفحات الدنيا لبقية أحداثه، إنه يوم حقيق أن يُقَدَّم ذكره، ويُعلى شأنه، ونعتز به في كتاباتنا وأوراقنا الرسمية وتوثيقنا الإعلامي.   إننا - بوصفنا أمةً مسلمة - حري بنا أن نربط أيامنا وأحداثنا، عباداتنا وعاداتنا بذلك العهد النوراني، كما تفعل كل أمة تفخر بأيامها التالدة، وما دمنا على الحق؛ إذًا نحن أحق.   تنازلاتنا الكثيرة لا ينبغي أن تطول تاريخنا أيضًا. كلنا هِجْريون أبًا عن جد، وسنظل معتزين بذلك، وإذا لم نصنع صنع تلك الأجيال، أفكثير أن نكتب أرقامًا تربطنا بصنائعهم؟



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣