حقوق العلماء في حياتهم
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
حقوق العلماء في حياتهمالأول: الدعاء لهم والإكثار من ذلك:
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "إنَّ الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون[1] على معلم الناس الخير"[2].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سألكم بالله فأعطوه، ومن استعاذكم بالله فأعيذوه، ومن آتي إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا، فادعوا له حتى تعلموا أنكم كافيتموه، ومن استجاركم بالله فأجيروه""[3].
وأي معروفٍ أعظم علينا في هذه الحياة من معروف علمائنا الذين بذلوا أوقاتهم على ما يقرِّبنا إلى رضوان الله تعالى بطاعته ويباعدنا عن سخطه بالبعد عن معصيته؟.
قال المروذي قلت: لأبي عبد الله – أحمد بن حنبل - ما أكثر الداعي لك! قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً بأي شيء هذا، وقلت له: قدم رجل من طرسوس، فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو، إذا هدأ الليل، رفعوا أصواتهم بالدعاء ادعوا لأبي عبد الله، وكنا نمد المنجنيق ونرمي عن أبي عبدالله ولقد رمي عنه بحجر، والعلج على الحصن متترس بدَرَقه[4]، فذهب برأسه وبالدرقه، قال: فتغير وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً، قلت: كلا[5].
وقال أبو علي الصدفي: سمعت الإمام أبا محمد التميمي ببغداد يقول: ما لكم تأخذون العلم عنا، وتستفيدونه منا، ثم لا تترحمون علينا؟ [6].
نسأل الله تعالى أن يوفق علماء الأمة الى ما يحب و يرضى، وأن يحفظهم من كل سوء وأن يسدد أقوالهم، وأن يوفقهم لما فيه الخير للإسلام والمسلمين.
الثاني: حماية أعراضهم وعدم الوقيعة فيهم، والذب عنهم:
إنَّ النيل من عرض المسلم محرم، وهذا معلوم بالضرورة من الدين الإسلامي، وهو أحد الضروريات الخمس (حفظ العرض).
عن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: "إعلموا أنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم، حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وكحرمة بلدكم هذا"[7].
والمصيبة الكبرى أن تجد من يتلذذ بالنيل من أعراض العلماء، وهذا يدل على خبث طويته وسوء مقصده، وإلا فكيف يستبيح لنفسه ذلك العمل القبيح!
فغيبة المسلم محرمة بنص القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12] [8].
وذلك لما للمسلم من كرامة بسبب إسلامه، فكيف بالعالم الذي تسمو منزلته على غيره، لشريف علمه وعظيم نفعه؟.
ومن اغتابهم أو رضي بغيبتهم فهو معرَّضٌ لموت القلب.
فعن مخلد قال:حدثنا بعض أصحابنا قال: ذكرت يوماً عند الحسن بن ذكوان رجلاً بشيء، فقال: مه لا تذكر العلماء بشيء، فيميت الله قلبك[9].
قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى:( واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أنَّ لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم، والاقتداء بما مدح الله به قول المتبعين من الاستغفار لمن سبقهم وصف كريم؛إذ قال مثنياً عليهم في كتابه وهو بمكارم الأخلاق وصدها عليم ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10] [10].
والارتكاب لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتياب وسب الأموات جسيم
﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63][11] [12].
لحوم أهل العلم مسمومة
ومن يعاديهم سريع الهلاك[13]
فكن لأهل العلم عوناً، وإن
عاديتهم يوماً فخذ ما أتاك
الثالث: احترامهم وتقديرهم، والتأدب معهم:
لقد كان سلف هذه الأمة يحترمون علماءهم احتراماً كبيراً، ويتأدبون معهم، حيث أن توقيرهم وتقديرهم من السنة.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا"[14].
قال طاووس بن كيسان رحمه الله تعالى: (من السنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد، قال:ويقال إنَّ من الجفاء، أن يدعو الرجل والده باسمه[15].
ولقد كان من تمام احترام السلف لعلمائهم أنهم كانوا يهابونهم، حيث يقول الشافعي رحمه الله تعالى: كنت أُصفِّحُ الورقة بين يدي مالك، صفحاً رفيقاً هيبة له، لئلا يسمع وقعها.
وقال الربيع رحمه الله تعالى: (والله ما اجترأتُ أن أشرب الماء، والشافعي ينظر إلي هيبة له) [16].
ومن حق العالم علينا ما ذكره علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حيث يقول: (إنَّ من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته في الجواب، وأن لا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عشرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته).
يقول يوسف بن هارون:
وأجلَّهُ في كلِّ عينٍ عِلمُهُ
فيرى لهُ الإجلالَ كلُّ جَليلِ[17]
وكذلك العُلماءُ كالخلفاءِ
عند الناس في التعظيم والتبجيلِ
يقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى: (عليك أيها الطالب التحلي برعاية حرمة الشيخ، فإن ذلك عنوان النجاح والفلاح والتحصيل والتوفيق، فليكن شيخك محل إجلال منك وإكرام وتقدير وتلطف، فخذ بمجامع الآداب مع شيخك في جلوسك معه، والتحدث إليه، وحسن السؤال والاستماع، وحسن الأدب في تصفح الكتاب أمامه ومع الكتاب، وترك التطاول والمماراة أمامه، وعدم التقدم عليه بكلام أو مسير أو إكثار الكلام عنده، أو مداخلته في حديثه ودرسه بكلام منك، أو الإلحاح عليه في جواب، متجنباً الإكثار من السؤال، ولا سيما مع شهود الملأ، فإن هذا يوجب لك الغرور وله الملل) [18].
الرابع: إعذارهم وإحسان الظن بهم:
إنَّ من حقّ المسلم على أخيه أن يجد له الأعذار، ويحسن الظن به، وأن يحبّ كلّ منهما الخير للآخر، ما دام الجميع قد أجمع على أنّه لا معصوم من البشر إلا الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام -.
فإحسان الظن والتماس العذر للمسلمين، من أخلاق الدعاة، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (لا تظن بكلمة خرجت من فِي مسلم شراً؛ وأنت تجد لها في الخير محملاً)[19].
وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى أنه قال: (إذا بلغك عن أخيك شيء؛ فالتمس له عذراً، فإن لم تجد له عذراً؛ فقل لعل له عذراً) [20].
وقال جعفر بن محمد رحمه الله تعالى: (إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره، فالتمس له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً، فإن أصبته؛ وإلا قل لعل له عذراً لا أعرفه) [21].
وإنَّ ما يفعله بعض مدعي العلم من تتبّع عثرات العلماء، والتنقيب عن أخطائهم، والتّشهير بهم، والحطّ من مرتبتهم، فإنّه نقص كبير وشرّ مستطير.
فعن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى أنه قال:( ليس من شريف، ولا عالم، ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب لا بد، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه، من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله) [22].
فالعلماء أولى بأن يعذروا ويحسن الظن بهم، وأن تحمل أقوالهم وأفعالهم على أفضل المحامل وأحسنها، إذ فضلهم مشهور، وذنبهم بعد الاجتهاد مغفور.
[1] معنى ( يصلون ) أي يدعون.
[2] الجامع الصحيح سنن الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، 5 /50، رقم الحديث ( 2685 )، قال أبو عيسَى هذا حَديثٌ غريب، وقال عنه الألباني صحيح، انظر صحيح سنن الترمذي رقم الحديث ( 2685 ).
[3] سبق تخريجه، ص: 69.
[4] الدَرَق: ضرب من الترسة، تتخذ من الجلود، ليس فيه خشب ولا عقب.انظر لسان العرب 10 /95.
[5] سير أعلام النبلاء، أبو عبد الله الذهبي، 11 /210.
[6] الصلة، أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال، تحقيق: إبراهيم الأيباري، 1 /661، ط1، 1410هـ/1989م، دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني، القاهرة، بيروت.
[7] صحيح ابن خزيمة، باب صفة الخطبة يوم عرفة، 4 /250 رقم الحديث ( 2808 ) قال المحقق الأعظمي إسناده حسن لغيره.
[8] سورة الحجرات، آية: 12.
[9] الصمت وآداب اللسان، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد ابن أبي الدنيا القرشي البغدادي، تحقيق: محمد عطا، ص:268، ط1، 1409هـ/ 1988م، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.
[10] سورة الحشر، آية: 10.
[11] سورة النور، آية: 63.
[12] تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، 1/29-30، ط3، 1404ه، دار الكتاب العربي، بيروت.
[13] حرمة أهل العلم، محمد المقدم، ص:323.
[14] مسند الإمام أحمد بن حنبل، 5/ 323، رقم الحديث ( 22807 )، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، إسناده حسن، 1 /127.
[15] المصنف، أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي 11 /137، ط2، 1403ه، المكتب الإسلامي، بيروت.
[16] تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، ابن جماعة الكناني، ص:189.
[17] جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، ص: 175.
[18] حلية طالب العلم، بكر بن عبد الله أبو زيد، ص:35، ط5، 1415ه، دار العاصمة، الرياض.
[19] مداراة الناس، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد ابن أبي الدنيا القرشي البغدادي، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، ص: 50، ط1، 1418هـ/ 1998م، دار ابن حزم، بيروت، لبنان.
[20] تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل، ابن عساكر، 22 /149.
[21] شعب الإيمان، البيهقي، 6 /323.
[22] الكفاية في علم الرواية، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق:أبو عبدالله السورقي, إبراهيم حمدي المدني، 1 /79، المكتبة العلمية، المدينة النبوية.