تفسير الربع الأول من سورة الروم
مدة
قراءة المادة :
19 دقائق
.
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [*] الربع الأول من سورة الروم
• الآية 1: ﴿ الم ﴾: سَبَقَ الكلام على الحروف المُقطَّعة في أول سورة البقرة، واعلم أنّ هذه الحروف تُقرأ هكذا: (ألِف لام ميم).
• من الآية 2 إلى الآية 7: ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾ أي: هُزِمَتْ الروم من الفُرس﴿ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ﴾: يعني في أقرب بُقعة من أرض الروم إلى بلاد "فارس"، (وهي أرضٌ يقال لها "الجزيرة" بين نَهرَيْ دِجلة والفُرات)، ﴿ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ ﴾ أي مِن بعد هزيمتهم ﴿ سَيَغْلِبُونَ ﴾ أي: سوف يَغلِب الرومُ الفُرسَ﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ﴾: أي في مُدّة من الزمن (لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على عَشر)، ﴿ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾ يعني: للهِ سبحانه الأمر كله (في انتصار الفُرس أولاً، ثم في انتصار الروم أخيراً)، إذ ما شاءه الله كان وما لم يشأه لم يكن، ﴿ وَيَوْمَئِذٍ ﴾ يعني: يوم يَنتصر الروم على الفرس: ﴿ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴾﴿ بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾ للروم (لأنّ الروم كانوا أهل كتابٍ وإنْ حَرَّفوه، وأما الفرس فكانوا مشركين يعبدون النار).
﴿ يَنْصُرُ ﴾ سبحانه ﴿ مَنْ يَشَاءُ ﴾﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ أي الغالب، الذي لا يَمنعه أحد مِن فِعل ما يريد، القادر على إنجاز وعده، ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ الذى وَسِعَتْ رحمته كل شئ، حيث مَكَّنَ للمغلوب أن ينتصر رغم ضَعفه، ﴿ وَعْدَ اللَّهِ ﴾ أي: وبهذا وَعَدَ اللهُ المؤمنين وعداً حقاً لابد من إتمامه (وهو نَصْر الروم النصارَى، على الفرس المشركين) (وقد تحقق ذلك الوعد، ولله الحمدُ والمِنَّة)، ﴿ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أي لا يعلمونَ - يَقيناً - أنّ الله لا يخلف الميعاد، وإنما﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي يهتمون بما هو ظاهرٌ من أمور الدنيا (كتدبير مَعاشهم بالتجارة والزراعة وغير ذلك)، ولا يهتمون بحقيقة الدنيا (وهي أنها مَزرعة للآخرة)، ﴿ وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ ﴾ - وما فيها مِن نعيمٍ وجحيم - ﴿ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ (لا يُفكّرون في مصيرهم بعد موتهم).
♦ وهنا يَتعجب الإنسانُ: (كيف لِمُحمد صلى الله عليه وسلم أن يَتنبأ بنتيجة معركة حربية سوف تحدث بعد بضع سنوات؟! (على الرغم مِن أنَّ الروم حِينَهَا - كما يقول التاريخ - كانت في أشد حالات الضَعف والانهيار بعد تلك الهزيمة)، وما الذي يَجعله يَخوض في مِثل هذه الأمور الغَيبيَّة، ويُغامِر بقضية الدِين كلها دونَ أن يُطلَب منه ذلك؟!، بل ويؤكّد أنَّ ذلك سوف يَحدُث عندما قال القرآن: (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ)، وماذا كان سيحدث إذا لم يَصْدُق القرآن في كل حرفٍ قاله؟!، ولكنَّ القائل هو الله، والفاعل هو الله - الذي يستطيع وحده - أن يُحَقِقَ ما يقول، وأن يَفعل ما يريد، في الوقت الذي يريد).
• الآية 8: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ﴾: يعني ألم يتفكر هؤلاء المُنكِرون للبعث في خَلْق أنفسهم (فإنّ الله خَلَقهم ولم يكونوا شيئًا ثم جَعَلهم رجالاً)، أليس القادرُ على خَلْقهم وتربيتهم، قادرٌ على بَعْثهم بعد موتهم ليجازيهم بالعدل؟!، بلى قادر، فإنه سبحانه ﴿ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ أي لإقامة العدل والثواب والعقاب، وللدلالة على قدرته على البعث (لأنّ ذلك أهون عليه مِن خلْق السماوات والأرض)، ﴿ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ أي خُلِقَت السماوات والأرض وما بينهما بوقتٍ معلوم تَفنَى عنده (وهو يوم القيامة)، ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ ﴾ يوم القيامة ﴿ لَكَافِرُونَ ﴾ (رغم كثرة الأدلة وقوّتها)، وإنما هو الكِبر والعناد، والانقياد وراء الشهوات.
• الآية 9: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا ﴾ - أي هؤلاء المُنكِرون للبعث -، ألم يَمشوا ﴿ فِي الْأَرْضِ ﴾ مُتأملينَ مُعتبِرين، ﴿ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ من المُكَذِبين وما نَزَلَ بهم من الهلاك؟، وقد ﴿ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ ﴿ وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ﴾ يعني إنهم كانوا أقدر منهم على التمتع بالحياة (حيث قلَبوا الأرض للحرث والزراعة، وبنَوْا القصور وسكنوها)، فعَمَروا دُنياهم أكثر مما عَمَرها أهل مكة، ومع ذلك لم تنفعهم عِمارتهم ولا طول مدتهم، ﴿ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ أي بالحُجَج الواضحة، فكذَّبوهم فأهلكهم الله، ﴿ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾ بذلك الإهلاك، ﴿ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ بالشِرك والعِصيان.
• الآية 10: ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا ﴾: أي كانَ مصير أهل السُوء من الطغاة والفاسقين: ﴿ السُّوأَى ﴾ أي أسوأ العواقب وأقبحها، وهي: ﴿ أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي كانَ مصيرهم: التكذيب والاستهزاء بآيات الله، فاستحقوا بذلك الهلاك والعذاب، (ألاَ فليحذر المُصِرُّونَ على المعاصي أن تَجُرَّهم ذنوبهم إلى أسوأ العواقب، وهي الكفر والعياذ بالله، وليُسارعوا بالتوبة قبل فوات الأوان).
♦ ويُحتمَل أن يكون المعنى: إنّ مصير الذين أشركوا وفعلوا المعاصي هي السُوأَى (وهي أسوأ العقوبات في الدنيا والآخرة) مِن أجل أنهم كذبوا بآيات الله واستهزؤوا بها، واللهُ أعلم.
• الآية 11:﴿ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾: أي يُنشئ سبحانه الخلق من العدم، ثم يُميتهم، ثم يُعيدهم كهيئتهم قبل أن يُميتهم ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ بعد موتكم، فيُجازي المحسن بإحسانه والمُسيء بإساءته.
• الآية 12، والآية 13: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ﴾أي يَيئَس المجرمون من النجاة من العذاب،﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ ﴾: يعني لم تشفع لهم معبوداتهم الباطلة عند الله تعالى كما كانوا يظنون في الدنيا ﴿ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ أي تبرؤوا من معبوداتهم يوم القيامة، عندما يئسوا من شفاعتهم لهم، خوفاً من زيادة عذابهم.
• من الآية 14 إلى الآية 19: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴾ أي يَفترق أهل الإيمان وأهل الكفر:﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ ﴾ من رياض الجنة (والروضة: هي كل أرضٍ ذات أشجار وماء وزهور)، ﴿ يُحْبَرُونَ ﴾ أي يُسَرُّون ويُنعَّمون (اللهم ارزقنا الجنة يارب)،﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ أي يُحضرهم اللهُ في العذاب المقيم، جزاءً لهم على تكذيبهم.
♦ ولمَّا بَيّنَ سبحانه أن الإيمان والعمل الصالح يُنَجّي صاحبه من النار ويكونُ سبباً في نعيمه الأبدي، أمَرَ سبحانه عباده بإقامة الصلوات الخمس (المشتملة على التسبيح والحمد) في المساء والصباح والظهيرة والعصر، فقال: ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ ﴾ يعني: فيا أيها المؤمنون سَبِّحوا الله ونَزِّهوه عما لا يليق به، وصَلُّوا له ﴿ حِينَ تُمْسُونَ ﴾ أي حين تدخلون في المساء (وهذا يشمل صلاة المغرب وصلاة العشاء) ﴿ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ أي حين تدخلون في الصباح (وهذا يشمل صلاة الصبح)، ﴿ وَلَهُ الْحَمْدُ ﴾ أي له سبحانه الشُكر على نعمه، وله الثناء الجميل ﴿ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.
♦ وقوله تعالى: ﴿ وَعَشِيًّا ﴾ معطوف على قوله: (وَحِينَ تُصْبِحُونَ)، أي صَلُّوا له في العَشِيّ، وهو الوقت الذي بعد العصر (وهذا يشمل صلاة العصر)، ﴿ وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾ أي حين تدخلون في وقت الظهيرة (وهذا يشمل صلاة الظهر).
♦ ومِن مَظاهر قدرته سبحانه واستحقاقه وحده للعبادة أنه ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ (كإخراج الزرع من الحَب، والمؤمن من الكافر)، ﴿ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ (كإخراج البيض من الدجاج، والكافر من المؤمن)، ﴿ وَيُحْيِي الْأَرْضَ ﴾ - بإنزال الماء وإخراج النبات - ﴿ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ يعني بعد أن كانت الأرض يابسة لا حياةَ فيها ﴿ وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾يعني: وكما أخرج سبحانه الحيَّ من الميت، وكما أحيا هذه الأرض الميتة، فكذلك تُخرَجون - أيها الناس - من قبوركم أحياءً للحساب والجزاء.
• الآية 20: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ ﴾ الدالة على وجوب توحيده وعلى قدرته على البعث ﴿ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ﴾ أي خَلَقَ أباكم آدم من تراب، ﴿ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ ﴾ يعني: ثم جعلكم بَشَراً تتناسلونَ، و﴿ تَنْتَشِرُونَ ﴾ في الأرض لتعمروها، وتسعوا في طلب رِزقكم.
• الآية 21: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾: أي خَلَقَ لكم - مِن نفس نوعكم - زوجاتٍ ﴿ لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾: أي لتستريح نفوسكم معهنّ، ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾: أي جَعَلَ سبحانه بين المرأة وزوجها محبةً وشَفَقة (إلا إذا ظلم أحدهما الآخر، فإنّ تلك المحبةً والشَفَقة قد تزول حتى يزول الظلم ويرجع العدل والحق، ويتوب الظالم منهما إلى ربه) ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ ﴾ تدل على قدرة الله ووحدانيته ورحمته وحكمته ﴿ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي يتفكرون في آيات الله، ويتدبرون ما ينفعهم في الدنيا والآخرة.
• الآية 22: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ ﴾ وارتفاعها بغير عمد، ﴿ وَالْأَرْضِ ﴾ مع اتساعها وامتدادها، ﴿ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ ﴾ أي اختلافُ لُغاتكم أيها الناس ﴿ وَأَلْوَانِكُمْ ﴾﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ أي العالِمينَ بآيات الله وشَرْعه، العارفينَ بحقائق الأمور.
• الآية 23: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾: يعني إنه سبحانه جَعَلَ النومَ راحةً لأبدانكم في الليل، وكذلك في النهار (وقت الظهيرة)، ﴿ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ يعني: ومِن آياته طَلَبُكم لأرزاقكم مِن فضل ربكم في الليل والنهار (إذ بعض الناس يعملون بالليل)، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ ﴾ تدل على قدرته على البعث والجزاء (لأن النوم كالموت، والانتشار في النهار كالبعث بعد الموت)، وقد جَعَل الله هذه الآيات ﴿ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾: أي يَسمعون المواعظ سماعَ تأمُّل وتفكُّر واعتبار (فهؤلاء هم المنتفعون بها).
• الآية 24: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ ﴾ - الدالة على كمال قدرته وعظيم حكمته وإحسانه - أنه ﴿ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا ﴾ من الصواعق التي فيه (لتخافوا عذابه وتتقوه)، ﴿ وَطَمَعًا ﴾ في نزول المطر (لترجوا رحمته وتدعوه)، ﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ ﴾ أي يُخرج به النبات من الأرض ﴿ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ يعني بعد أن كانت يابسةً لا حياةَ فيها، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ ﴾ على قدرة اللهِ تعالى على البعث ﴿ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ أي يَعقلون البراهين فيَعتبروا بها.
• الآية 25: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ ﴾ الدالة على عظمته وكمال قدرته ﴿ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ﴾ (والمقصود أنّ السماء والأرض قامَتا واستقرَّتا بأمْره تعالى وقدرته، فلم يَختل نظامهما ولم تسقط السماء على الأرض)، (فالقادرُ على ذلك قادرٌ على بَعْثكم بعد موتكم)، ﴿ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ ﴾ يعني إذا ناداكم يوم القيامة - عن طريق نفخة المَلَك إسرافيل في "البوق" - ليَبعثكم سبحانه من باطن الأرض أحياءً: ﴿ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾ مُسرعين من قبوركم، ليحاسبكم على جميع أعمالكم.
• الآية 26: ﴿ وَلَهُ ﴾ سبحانه جميع ﴿ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ من الملائكة والإنس والجن والحيوان والنبات والجماد (مُلكاً وتصرفاً وتدبيراً وإحاطة)، ﴿ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ أي كل هؤلاء خاضعونَ لتدبيره ومشيئته.
• الآية 27: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ﴾ من العدم ﴿ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ حيًا بعد الموت، ﴿ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ يعني: إنَّ إعادة الخَلق أهْوَنُ عليه سبحانه (لأنّ إعادة الشيء كما كان، أسهل من إيجاده أول مرة)، ﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ يعني: وللهِ تعالى الصفات العُليا (من الكمال والاستغناء عن جميع خَلقه)، فهو سبحانه ليس كمثله شيء، ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ أي الغالَب الذي قهر جميع المخلوقات، ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ في أقواله وأفعاله وتدبير أمور خلقه.
• الآية 28: ﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا ﴾ أي جعل لكم أيها المُشركون مَثَلاَ ﴿ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ (يوَضِّح لكم فيه فساد الشِرك وبُطلانه)، وهو: ﴿ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾؟ يعني: هل هناك أحدٌ مِن عبيدكم يُشارككم في أموالكم ﴿ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ﴾: أي بحيثُ تصبحون أنتم وإياهم متساوون في المال، و﴿ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾: أي تخافونَ منهم في مُقاسمة أموالكم كما تخافون الشركاء الأحرار؟! إنكم لن ترضوا بذلك أبداً (إذاً فكيف ترضون بذلك لله تعالى وتجعلون له شركاء مِن خَلقه وعبيده؟!)، ﴿ كَذَلِكَ ﴾ يعني بمثل هذه الأمثال ﴿ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾: أي نُبيِّن البراهين والحُجَج لأصحاب العقول السليمة الذين ينتفعون بها.
• الآية 29، والآية 30: ﴿ بَلِ ﴾ يعني: وليس الأمر تقصيراً في ضرب الأمثال الدالة على الحق، ولكنْ: ﴿ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي اتّبع المُشركون أهواءهم، فقلَّدوا آبائهم بغير علمٍ أو دليل، ﴿ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ﴾ يعني: فلا أحد يقدر على هداية مَن أضلَّه الله (بسبب إصراره على كُفره وعِناده)، ﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ يُخَلِّصونهم من عذاب الله.
♦ فإذا علمتَ أيها الرسول أحوال المُعرِضين عن الحق بعد ظهور دلائله ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ﴾ أي استقم - أنت ومَن اتّبعك - على الدين الذي شَرَعه الله لك، وهو الإسلام، واتّبع ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ (فإنّ اللّهَ تعالى قد فَطَرَ عباده على دين الإسلام الواضح الذي لا عِوَجَ فيه، فخَلَقَ فيهم القابلية للإيمان بربهم وتوحيده، ولكنّ هذه الفِطرة قد تتغير وتتبدل بما يأتي عليها من العقائد الفاسدة، قال صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين -: (ما مِن مَوْلودٍ إلا يُولَدُ على الفِطرة، فأبَوَاهُ يُهَوِّدانِه - (أي يَجعلانه يهودياً) - أو يُنَصِّرانِه - (أي يَجعلانه نَصرانياً) - أو يُمَجِّسانِه) - (أي يَجعلانه مَجُوسِيّاً)).
﴿ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ أي لا تُبَدِّلوا تلك الفِطرة ولا تغيّروها، بل نَمُّوها بالتربية، حتى ينشأ الطفل على الإيمان والتوحيد، (واعلم أنّ هذه الجملة: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) قد تضمنتْ الأمر بعدم التبديل وإن لم تُصَرِّح بذلك، فهي كقول الله تعالى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)؟ أي انتهوا)، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي الإسلام هو ﴿ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ أي الطريق المستقيم الموصل إلى رضا رب العالمين وجنته، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ أي لا يعلمون أن الذي أمَرْتُكَ به - أيها الرسول - هو الدين الحق الذي لا شك فيه.
♦ واعلم أنّ معنى "حنيفاً" أي: مائلاً، والمقصود: (المَيْل عن أيّ دين باطل، والاستقامة على الدين الحق)، واعلم أيضاً أن الله تعالى خَصَّ الوجه بالاستقامة في قوله:(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ)،لأن الوجه هو أكرم الجوارح وأشرفها، وبه يَحصُل التوجُّه إلى كل شيء، فإذا خضع وجه العبد لله: خضعتْ له جميع جوارحِه، فلا يُشرك بعبادته أحدًا.
[*] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو تفسير الآية الكريمة.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.