أرشيف المقالات

معجزة الصعود والانقطاع

مدة قراءة المادة : 23 دقائق .
2معجزة الصعود والانقطاع
من أسف أن غار حراء وصعود الرسول صلى الله عليه وسلم إليه ثم انقطاعه فيه طوال شهر رمضان لمدة ثلاث سنوات يختزله العقل المسلم - أغلبه - في لحظة نزول القرآن الكريم، ثم نزوله صلى الله عليه وسلم منه، وهي لحظة فارقةٌ في تاريخ البشرية، توقف عندها الكثرة الكاثرة من أدباءِ ومفكري العالم شرقًا وغربًا.
هذه اللحظة التي تبدأ مع زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها، وكيف أن الحياة الجديدة الزاخرة بكل صنوف الراحة وأسباب السعادة لم تستقطبه!
فيعكف في ظلمة الليل وحيدًا في ذلك الغار يتحنَّث فيه الليالي ذوات العدد، ولو كان غيره مَن انتقل هذه النقلة الاجتماعية لكان همه تنمية الثروة؛ لينمو حظه من مباهج الحياة ومتعتها، كان قادرًا صلى الله عليه وسلم على أن يأخذ نصيبه من الراحة، ينام متى أحب، ويأكل ما شاء، متى وكيف يشاء، ويلبس الفارِهَ من الثياب كما يحلو له، لكنه لم يفعل.
تقول الدكتورة بنت الشاطئ[1]: (ونامت الدنيا، لا تُلقي بالاً إلى رجل من بني هاشم، ابن امرأة من قريش تأكل القديد، قد أوى إلى غارٍ هناك مستغرقًا في تأمله، يلتمس في العتمة الداجية شعاعًا من نور الحق، وينشد في خَلوته أنس الهدى وراحة اليقين، وخواطره تحوم حول البيت العتيق الذي رفع إبراهيمُ القواعد منه وإسماعيل).
تأمل محمد علي بن حسين الحريري رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم المنتظمة سنويًّا إلى غار حراء، فقال[2]: (إن صعودَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار وحده وتحمُّله المشقة في سبيل ذلك معجزة، إن التأمل في غار حراء وصعوبة الارتقاء إليه في جو لاهب من الحر والريح الجافة لتؤكد للناس عبر القرون أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان مؤيدًا ببأس قوي وعناية رب العالمين، عندما ينقطع في الغار اللياليَ ذواتِ العدد لا يعبأ بالوحشة والانفراد، ولا يتسلل إلى نفسه الشريفة خوفٌ من الوحوش والأفاعي، مما يجعل انقطاعه صلى الله عليه وسلم بالغار معجزةً مستقلة تؤكد صدقه صلى الله عليه وسلم وصبره على تلقِّي هذا الأمر العظيم من الوحي والنبوة والتبليغ).
لا يبالغ الحريريُّ في وصف الصعود بالمعجزة، ولعل مَن رأى صورة الجبل أو تابع رحلة صعود أحدهم إليه مرئيًّا قد تعطيه انطباعًا ما، غير أن الأمر يتوقف أولاً على وصف الجبل والغار، ووصف مَن صعِد وروى تجرِبته؛ ولذا فمن المستحسن أن نتعرف على جبل النور ذلك الذي يصل ارتفاعه حوالى 642 مترًا، وهو جبل شاق على من يصعده؛ ذلك لانحداره الشديد عند ارتفاع 380 مترًا، حتى يصل إلى ارتفاع 500 مترًا، ثم يستمر بانحدار 5.25 كم2، ويقع هذا الجبل في الشمال الشرقي لمكة المكرمة، وليس له غير ممر وحيد لارتقائه من ناحية الجنوب الغربي، ويمكن تقسيم صعود الجبل إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى - وهي أصعبها وعورة ومشقة - تبدأ من عند لوحة كبيرة وضعتها هيئة الأمر بالمعروف، وهذه المرحلة صعبة لدرجة أن الذي ينوي صعود الجبل ربما تردد عندها ليقنع نفسه بالتراجع عن قراره بالصعود؛ وذلك لِما سيلاقيه من إرهاق شديد، في الثلث الثاني تبدو الوعورة أخفَّ وأرحم، ومما ييسر المشقة وجودُ صخور مطلية باللون الأبيض، كعلامات لترشد صاعد الجبل بأسهل الطرق التي يجب أن يسلكها، وهي الطرق التي تزخر بالصخور المتقاربة لتكوِّن ما يُشبِه العتبات الحجرية غير المتناسقة، بينما يبدو الثلث الأخير هو الأيسر صعودًا؛ لوجود درجات عشوائية قام بعملها بعضُ المتطوعين ممن سبق لهم الصعود، بُغية الثواب من الله تعالى.
أما عن موقع غار حراء، فهو يقع على يسار قمة جبل النور، وهذه القمة تشبه الطربوش الذي يُلبَس على الرأس، أو كسَنام الجمل، أو كالقبة الملساء، وهي عبارة عن فجوة، بابها باتجاه الشمال، طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع الذراع، يتسع للرجل البدين، ويقف فيه الرجل الفارع، ويتسع لبضعة رجال يصلون ويجلسون، ولكي تصل إلى الغار لا بد من النزول عبر عتبات للمدخل المؤدي إلى الغار، وهذا المدخل عبارة عن صخور كبيرة متراصَّة بعضها فوق بعض، بينها فجوة صغيرة شديدة الضيق بطول نحو ثلاثة أمتار، لا بد من اجتيازها بحذر وبشكل أفعواني يتناسب مع تكوين تلك الصخور الغريبة؛ لأنها مُسنَّنة ومدبَّبة كأنها مزلاج، والعابر منها كأنه مفتاح، ما تلبَثُ أن تمر من هذا المدخل العجيب حتى تستوقفك صخرةٌ أخرى مستوية تكفي لجسد إنسان يتمدَّد عليها، بعدها على يسار الداخل يجد باحة ضيقة، وفوقه يجد سقف الجبل كالأم الحانية يغطي المكان كلَّه حمايةً لمرتاديه من برد الليل وحر النهار، وأيضًا من الأمطار الموسمية، وإذا ما قادَتْك أقدامك عدة خطوات ستفاجئك باحة صغيرة مفتوحة، مساحتها الكلية لا تتجاوز ستة أمتار مكعبة، تستطيع أن تشاهد السماء منها، والأودية على الجانبين الغربي والجنوبي من الجبل.
لا تكاد تسير باتجاه القِبلة حتى تشاهد غار حراء؛ فالداخل للغار يكون متجهًا للكعبة مباشرةً، والغار عبارة عن تجويف صخري صغير داخل حجارة عظيمة رصَّت بعناية إلهية واضحة كالمظلات الشمسية، أيضًا باتجاه القبلة تعلوها فتحتان صغيرتان تجددان هواءه، يأنس الناظر من إحداها برؤية منارات المسجد الحرام وهي شامخة في عَنان السماء؛ وذلك لوجود انحناء بالغار، ويتسع غارنا الحبيب - الذي احتضن الحبيب صلى الله عليه وسلم - لخمسة أشخاص جلوسًا، وارتفاعه قامة متوسطة.
هذا الوصف للغار استقيتُه من فريق من قناة العربية ممن صعدوا وروَوْا تجرِبتهم الوحيدة المضنية الجماعية النهارية التي لم ولن تتكرر، ولقد بذلتُ أيضًا مجهودًا مضنيًا حتى استطعت أن أستخلص هذه المعلومات وأبسطها أمام القارئ حتى لا يختلط عليه الأمرُ بين وصف الجبل وبين وصف مدخل الغار، انتهاءً بوصف الغار، مرورًا بوصف قمة جبل النور، ومن المؤكد أن من قرأ الوصف السابق قد بذل جهدًا مضنيًا في قراءته واستيعابه، إذًا فما بالنا بمن صعِد وحده صلى الله عليه وسلم ومكث فيه شهرًا كاملاً، ثم كررها لعدة أعوام! أي جهدٍ مضنٍ بذَله صلى الله عليه وسلم دون أن يذكره لأصحابه ولا لأزواجه، سواءٌ على سبيل الفخر أو المنِّ أو على سبيل التذكُّر.
وبعد استعراضنا لوصف ومشقة الصعود، سيتجلى إعجازُ الصعود أكثر حين نطالع تجارِب مَن روَوْا ذكرياتهم حول شرف المحاولة، وذلك بالتتبع التاريخي لرحلاتهم من قديم وحتى أيامنا هذه، ليشهد بذلك على امتدادية تلك اللحظة بنفس زخمها وقوتها وإعجازها وتأثيرها في نفوس وقلوب من صعِدوا؛ ولهذا فسنبدأ مع قدامى مَن حاولوا، انتهاءً بآخرِ مَن صعِد.
يقول الشيخ الفقيه والأديب والقاضي السوري علي الطنطاوي[3]، الذي حج حين كان طالبًا يدرس بمصر، وأرسلته الدولةُ المصرية مع بعثة طلابية للحج في النصف الأول من القرن العشرين، وهو آنذاك - رحمه الله - رياضيٌّ فتيٌّ، فيقول واصفًا الجبل والغار ورحلة الصعود المضنية: (كان الجبل بِدْعًا في الجبال، جبلين ركب أحدهما فوق الآخر..
أما الأسفل فجبل عادي، وأما الأعلى فقطعة واحدة من الصخر الأسود الأملس كأنه بيضة كسرت رأسها، ثم أقمتها عليه، أو كأنه قبة مصنوعة (بالإزميل) ذاهبة في السماء ...
كنا قد بلغنا القمة بعدما تقطعت أنفاسنا، ونشفت حلوقنا، وبلغت أرواحنا التراقيَ، ونظرنا فإذا نحن كالمعلَّق في السحاب، وإذا الدنيا كلها أسفل منا، وإذا نحن لا كمن هو على ظهر جبل، ففى الجبال ما على ظهره من فلوات فساح، بل كمن على ظهر عمارة سامقة، وإذا ذروة الجبل لا تزيد مساحتها عن مساحة غرفة من الغرف، أما الغار فكان تحتنا في مكان لا يمكن أن يصل إليه إلا من يتدلَّى ثم يمر من شق في الجبل حتى يبلغ فرجة في الصخر، كأنها وَكْرُ نَسْرٍ، ما أحسب طولها يعدو المترين، ولا يبلغ عرضها المتر، وكان هذا غار حراء ...
فقلت في نفسي: إننا لم نصل إلى القمة ونحن جماعة، ونحن نصعد على درج منحوتة، حتى أشرفنا على الموت، فكيف كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم يصعد وحده، وكيف عرف مكان هذا الغار، إلا أن يكون قد ارتاد هذه الجبال كلها وبلغ أعاليَها، وكيف كان يقيم وحده اللياليَ ذواتِ العدد، وما حوله إلا هذه الجبال السُّود، وهذه الوحشة الصامتة الراعبة؟ ونظرتُ فإذا كل شيء من حولي صامتٌ صمتَ الرهبة، ساكن سكونَ الجلال لا نأمة ولا حس ولا حركة، ولا شيء يشغَلُ الإنسان عن التفكير في السماء، والكعبة تبدو من بعيدٍ وسط هذا الإطار الصخري، فمن كان في الغار كأنه في الدنيا وما هو في الدنيا، يرى الكعبة وحدها فيتصل منها بكل ما هو سماوي طاهر، ويخفى عليه كل شيء غيرها، فينفصل عن كلِّ ما هو أرضي ملوث).
ونلتقي مع وصف أدبي ماتع حديث نسبيًّا، كتبه الأديب والشاعر الشيخ إبراهيم الحمدو العمر، عندما حج وأقام بمكة بالقرب من جبل النور، وذلك في أخريات عام 2009 ميلادية، تحت عنوان: "رحلة إلى غار حراء"، وقد سجل خواطر صعوده لجبل النور فجرًا مخافة الحرِّ، ظنًّا منه بأنه سيكون من السابقين، فيتفاجأ بالكثرة الكاثرة التي سبقته من الرجال والنساء على اختلاف الأعمار والجنسيات والألوان..
الكل يتتبعون خطاه صلى الله عليه وسلم، ويترصَّدون الأماكن التي مشى فيها، لكي يمشوا عليها، ولا تجد فيهم إلامتأمِّلاً متفكِّرًا معتبرًا، فأيُّ عظمة لهذا الدين؟ بل أيُّ سلطان لك يا رسول الله على قلوبأتباعك ومحبيك صلوات الله عليك وتسليماته؟! هكذا حدَّث نفسه.
سأنقل خواطر الشيخ إبراهيم العمر التي كتبها على غير ترتيب، بأسلوب قشيب، بتصرف غير مخلٍّ؛ لضيق المساحة، فيقول: (في نهاية الجبل وأنت تقصد الغار قمة وعرة جدًّا، وصعبة، وطريقها مخيف، والجبل مطلٌّ على الكعبة المشرفة، وقد رأيت منه منائر الحرم، والجبل في طبيعته على قسمين، كأنك منه في جبلين؛ فالقسم الأول قاعدة عريضة تعلوها قمة كالقلعة المستقرة على هذه القاعدة المتينة، أو قل: هي جبل صغير موضوع بإحكام فوق جبل كبير، وإن هذه القمة لتختلف حتى في طبيعة تكوينها اختلافًا لا يُخطِئه الناظر؛ فهي تكاد تكون مربَّعةً في شكلها لو نظرت إليها من بعيد، وهي تبدو للرائي كأنها صخرةٌ واحدة كبيرة، وبينما طريق الجبل الأسفل عريض يتسع لخمسة أو ستة أشخاص وفيه شيء قليل من سلاسة الصعود عليه وله من الطَّرَف الآخَر طريق آخر أيضًا، تجد طريق القمة ضيقًا جدًّا، يضيق في معظمه عن شخصين، وعر جدًّا، يكاد المتسلق عليه يفقد توازنه، وكثيرون هم الذين يحبون فيه حبوًا، خصوصًا من النساء وكبار السن، أو من يعتمد على عصًا، وليس لهذه القمة إلا هذا الطريقُ الضيق، فيدور معه الصاعد حيثما دار، والجميل في هذا الطريق الوعر أن سيل الصاعدين والنازلين الذي لا ينقطع لا يؤذي بعضهم بعضًا، ولقد قلت في نفسي: إن هؤلاء الذين يصعدون جبل النور على كثرتهم وضيق المكان بهم مع هذا اللُّطف والاحترام هم غيرُ أولئك الذين تراهم يزاحمون ويتدافعون عند البيت وفي الطواف وعلى الحجَر، وكأن رُوح الجبل برسوخه وسر الوحي سرَى في الصاعدين إلى هذا الجبل الوَقُور، وأنت في طول رحلتك الشاقة هذه على سماع مستمر لذِكر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبلُغَات مختلفة؛ من تركي، وباتان، وعربي، وغيرها، وقد كانت إقامتي قريبةً من جبل النور، وهذا من فضل الله ومنَّته، فكنت أتأمله كثيرًا ومرات عديدة في اليوم، فيخيل لي أن لقِمَّتَه هذه التي أتكلم عنها من الإشراق ما لا أرى للجزء الآخر منه، وهو قاعدته، وكأن هذه القمَّة صِيغت صياغة أخرى في تكوينها؛ فهي قمة منيعة كأنها وقنة نَسْر [الوقنة: محضن الطائر في الجبل]، أو مرصد قائد، أو نجعة المتأمل الذي يرمق الأُفق البعيد بنافذ بصره، أو هي محراب المتعبد المتبتِّل الخاشع، الذي هجَر الدنيا وأهلَها، وهُرِع إلى ربِّه يناجيه ويأنَسُ به، ويُطلِق رُوحه الوثاب ليعانق إشراقات النور الباهر أو ....
أو هي قمة جبل النور التي اختارها الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه مكانًا يعبُدُ فيه ربَّه بعيدًا عن أصنام قريشٍ وخرافاتها وضوضائها، وهي المكان الذي كان ملتقَى أول إشعاعات الوحي الإلهي على قلبِ الحبيب المصطفى صلوات الله عليه، لتكون هذه الرسالة قمةً بين الرسالات كقمَّة هذا الجبل، وعرة على من يريدها بسُوءٍ كوعورته، عصيَّة على مَن يكيد لها.
يتسلق إليها المسلمون على اختلاف أجناسهم بدون انقطاع بسيل هدار يملأ الدنيا بهدوء وحكمة ورويَّة، كهدوئهم في صعود هذا الجبل الأبيِّ، ولقد تأملت في هذا الجبل وفي الجبال التي مِن حوله مرات ومرات، فما وجدته إلا كما وصفت لك من مَنَعَتِه وإحكامه، وما وجدت بين الجبال الكثيرة من حوله ما يشبهه، وأظن أن من يقرأ وصفي له سوف يهديه نظره إليه بمجرد أن يراه دون أن يسأل أحدًا عنه..
وبالطبع إذا ما كان قريبًا منه وقارن بروية بين هذه الجبال الكثيرة وأسلوب تكوينها، ولو وصف لي كما أصفه لك الآن لما بقيت أيامًا بجانبه وأنا لا أعرفه، واختيار هذا المكان من النبي صلى الله عليه وسلم ليس اختيارًا عاديًّا؛ فإنك لن تجد في جبال مكة كلها ما يساويه، من حيث إنه يفتح باب التأمل، يطل على بيت الله، ويتصل منه بشعاع لا ينقطع، وينأى عن خرافات أهل مكة، وهمج قاطنيها، ويغتسل كل لحظة بالغمام الطَّهور، وتصافحه مواكب النسيم، وتقبِّله قطرات الندى، ولولا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فوق العبقرية وأجلُّ، لقلت: إنه اختيار عبقري، ففيه كل ما يطلبه ذو اللب من صفاء ذهن، وفتح لآفاق الفكر..
وانطلاقه في فسح تلك الأودية عبر تلك الصخور، على قمم تلك الجبال، خلال ظلمات تلك الكهوف، خلف مرامي تلك الخيالات، في طهر ذلك الغمام الذي يغمرك وأنت تصعد ذلك الجبل، معانقًا أشعة الشمس أول ما يبدو حاجبها الفتَّان من خلف الغار، وآهٍ من ذلك الشعاع، ما أجمله وما أروعه! شعاعها على جبل النور له ضياء من النور آخر..
وبريق من الجمال مختلف جدًّا.
ترى كيف يرى عشاق الحبيب المصطفى صلوات الله عليه شعاع الشمس وضوء القمر على هذا الجبل الحبيب؟ بل قل: ماذا يكشف لهم من الأسرار في تلك الصخور العاشقة التي احتضنت بين جنباتها أشرف نسَمة من بني الإنسان، ورأت أمين الوحي يسلم الحبيب المصطفى صلوات الله عليه بريدَ خاتمة الرسالات السماوية من رب العزة جل جلاله في هذا المقام، ثم يلقاه بين الفينة والأخرى يبلغه أوامر مليكه العزيز؟ ويا ترى ماذا حصل لتلك الحجارة العاشقة حينما خفق عليها بجناحيه جبريلُ عليه السلام أول مرة، وهي التي طال عهدها بمثل ذلك النور الملائكي المضمخ بعبق العرش والكرسي وظلال الجنة وأنفاس الأملاك العلوية؟
في أعلى هذا الجبل العاشق غار حراء، أول بقعة أشرق بين جنباتها نور الله، وأول من احتضن سر النبوة، وأول من سمع مناجاة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: (اقرأ)، فيقول الحبيب صلوات الله عليه: ((ما أنا بقارئٍ))، والغار مكان لا يليق به إلا التعبُّد والتفكُّر، صغير يتسع لأشخاص معدودين فقط، في قُنَّة الجبل (القُنَّة بالضم أعلى الجبل)، يترك الجبال من خلفه ويمنحها ظهره، ويواجه الوادي الفسيح الذي يتصل بمكة فيظهر منه بيت الله، والقاعد فيه يُطِلُّ على الكعبة من علٍ، والكعبة بيت الله تواجهه بهيبتها وأسرارها وأنوارها، وملائكتها المتنزلة، يزينها يمين الله الحجر الأسود، ياقوتة الجنة، ودرة الأرض، ومغناطيس المحبين العاشقين الذي يجذبهم بسلاسل النور وسرِّ الحب، فلا يفلت منهم أحد، غار خلق للتأمُّل، وخص بـ: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، وأبَى أن يؤوي إليه من النُّسَّاك إلا أشرف الخَلق صلوات الله عليه، فكيف كان صلوات الله عليه يصعد هذا المرتقى وحده وهو البعيد البعيد عن أمِّ القرى للسائر على رجليه؟ وكيف كانت إقامته في ذلك الغار؟ وكيف كان اتصاله بخالقه جل جلاله؟ وكيف كانت تلك السيدة التي جاوزت الخمسين من عمرها تتجشَّمُ عوائق الصخور الحادة وعَنَت الصحراء، وأهوال الفضاء الرحيب لتسير حاملة الطعام لحبيبها صلوات الله عليه؟ وأي إخلاص هذا وهي السيدة الشريفة ذات العز والجاه والمال والشَّرف الرفيع والمكانة في قومها وعشيرتها، فأية زوجة كانت؟ وأية رابطة محكَمة أوثقت عرى ذينك القلبينِ الشريفين حتى كانت تتحمَّلْ معه مثل هذه الحياة التي لم يألَفْها أهل مكة، فكانت تساعده وتقف معه وتسانده وتريش فؤاده بعطفها وحنانها؟ وأي زوج ذلك الذي امتلك لبَّ تلك الشخصية الكبيرة من أشرف نساء قريش والعرب قاطبة، وأسرها؟..
هنا يُحجِم القلم وتعجم التخرُّصات وتكذِب الظنون، وهنا يكفينا قولُه صلوات الله عليه: ((ما أبدلني اللهُ خيرًا منها؛ قد آمنت بي إذ كفَر بي الناس، وصدَّقَتْني إذ كذَّبني الناس، وواسَتْني بمالها إذ حرَمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء)).
وكان صالح بن حسين المحضار[4] من الذين صعِدوا الجبل، والذي يصف رحلة الصعود للغار، فيقول: (إذا ما نظرت إلى الأسفل..
فقد قطعت شوطًا لا بأس به..
بل هو طويل..
وإذا ما نظرت أمامك ابتعت بطاقة بريدية تقدم لك الغار على طبق من ورق..
فإذا ما نظرت إلى الأعلى شاهدت خيوطًا رفيعة من البشر..
الذين يتشاركون في الرحلة معك إلى غار حراء، أحدهم قال وهو يجيب على سؤال لي: الطريق طويلة..
لكن رفيقة دربه قالت: بل الطريق مطوية..
وصعِدنا لا نلوي على شيء، فإذا ما اشتدَّت أنفاسنا علينا..
توقَّفنا..
وتوقف معنا آخرون..
الصاعد كان أكثر لهفةً على معرفة شيء..
أي شيء..
فقد كان ينظر إلى نوق، والنازل كان يتقي بيده حرارةَ السماء..
ثم ينظر إلى مكة..
كان النظر إلى الوراء باعثًا على الإحساس بالرهبة..
واصلنا السير حثيثين إلى قمة الجبل..
الحقيقة أنه لم يعُدْ سيرًا، بل كان تسلُّقًا للرُّوح يشبه تسلق قمة إيفرست دون اللجوء إلى عِصِي أو حبال..
ثم ما لبثت أن انتصف الجبل - أو هكذا خيل إلينا - فيما أخذت القمة شكلاً يصعب الولوج منه، بَيْدَ أن النساء كن أكثر قدرة على دفع أنفسِهن من الرجال الذين كانوا يستغلون فرصة التوقف ليسمع الصاعد من النازل كلامًا يدفع به إلى أعلى..
وهناك مسافرون يستريحون كلما جثا بهم التعب ليجدون عريشًا من ظل لا يملِكه أحد..
والمشهد كان مكة البيضاء..
تخيلتها لوهلة: أكوامًا من اللؤلؤ..
هل أتجاوز حين أطلق عليه (بانوراما)، ولولا أن سبقني أحدهم إلى قول مثله لقلت: (إن الناس قد انقسموا إلى قسمين)، أولئك الذين شاهدوا من هنا مكة، وأولئك الذين لم يشاهدوها..
تسمع صلوات على النبيِّ فيما يتردد كثيرًا اسمه (محمد) فتصلي على النبي، ولما تسمع اسمًا كجبريل عليه السلام وهو المأمور بعدم إخافته صلى الله عليه وآله وسلم فيقول له: (اقرأ)، ((ما أنا بقارئ)) فيقول له: (اقرأ)، ((ما أنا بقارئ))، فيقول له: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾ [العلق: 1 - 4].
إن أكثر ما يقرُّ في قلب وعقل كل من يطالع رحلة الصعود والانقطاع في غار حراء ويشهد بكونها تشكل معجزة بشرية للنبيِّ صلى الله عليه وسلم هو ما توقَّف عنده أكثرُ العلماء والمفكرين بالدهشة والحيرة والاستغراب: • كيف لرجل ثري أن يترك المدينة المتوهجة بنورها وناسها ثم يختار - بمحض إرادته - مكانًا ليس فيه ما يغري أي إنسان في أي عصر بالذَّهاب إليه، ويبعد عن داره حوالي أربعة كيلو مترات ليصعد طريقًا شاقًّا يحتاج تقريبًا لثلاث ساعات، ثم يجلس وحده في غار قابع في قمة جبلٍ موحِش ومظلم؟!
والاستغراب الذي يثير التساؤل: ما وجهُ الاضطرار لهذا الصنيع مع كونه لا يمثل للرسول صلى الله عليه وسلم - آنذاك - أية شَعيرة دِينية حتى يمتثل لها طائعًا؟!
• لماذا الحرص على تكرار الصعود والانقطاع والدوام عليه؟! أي إنه لم يكن فكرة طارئة قام بها الرسولُ صلى الله عليه وسلم ليُشبِعَ في نفسه رغبة ما، ثم تولَّى عنها.
أذكر حين كنت أشرح تلك المعجزة في مدينة سياحية تغص برجال الأمن، وتحوطها الجبال أن أشرتُ إلى تلك الجبال غير القريبة والمظلمة، فقلت لمن أحاضر فيهم: • هل يستطيع أن يتحرك أحدكم بدون سيارة لأي جبل يختاره، فيقصده صاعدًا ثم يبقى فيه وحيدًا منقطعًا عن الناس؟!
ولم أنتظر الإجابة؛ فقد أتت بإقرارِهم في كون صعود الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطاعه في الغار إعجازًا.
لقد زرت جبل النور بسيارة مكيفة في وضَح النهار، والعمران والأمن يحيطان بالمكان، ولم أصعده رغم شغفي وشوقي؛ لعِلمي ببدعيَّة الصعود، وعدمِ مشروعية تلك الزيارة، وأيضًا لعدم القدرة على امتطاء صهوة جبل صعب القِياد.
إن نظرة طويلة فاحصة من أسفل الجبل صعودًا إلى منتهاه، تجعل اللسان ينطق رغمًا عنه مشدوهًا: حقًّا ..
إنها لمعجزة!


[1] دكتورة عائشة عبدالرحمن: مع المصطفى في عصر المبعث ص 15. [2] مجلة الجندي المسلم، عدد (122) بتاريخ 1/1/2006. [3] علي الطنطاوي: من نفحات الحرم ص 20-21. [4] مقال: "غنيت مكة"، مجلة الجزيرة، العدد (142) محرم 1427هـ.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١