أرشيف المقالات

إذا جاء نصر الله والفتح. .

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 (مهداة إلى آية الله كاشاني) للأستاذ سيد قطب في الأفق بشائر - في هذه الأيام - على الرغم من كل ما يكتنفه من سحب وظلام.
في الأفق بشائر بالعودة إلى حمى الإسلام، تتجلى في كل أنحاء الوطن الإسلامي.
عودة الفلول الشاردة الممزقة، التي هدها الكلال وهي تلهث وراء أعلام أجنبية عن روحها وتاريخها؛ أجنبية عن أهدافها ووجتها.
إنها تعود رويدا رويدا في هذه الأيام إلى الحمى الذي استبيحت حرماتها عندما فارقته، والى الراية التي أزيلت عزتها حينما تخلت عنها.
.
إنها تعود إلى الإسلام تتنادى باسمه في كل مكان، وتطلب عنده القوة والعزة والسلامة.
.
وهذا هو موضع الرجاء في العالم الإسلامي في هذه الأيام. إن الدعاة اليوم إلى تكتيل العالم الإسلامي في جبهة، والى تحكيم الإسلام في هذه الكتلة.
.
ليسوا هم الدعاة الدينيين وحدهم، وليسوا هم (الإخوان المسلمين) وحدهم، وليسوا هم الأفراد الذين يوجه الإسلام تفكيرهم وحدهم.
.
انهم ليسوا هؤلاء وحدهم فحسب في هذه الأيام، إنما هم كذلك جماعات وأحزاب وشخصيات ليست الدعوة الإسلامية طابعها البارز، أو جهتها الإسلامية.
.
وهذا هو الدليل على أن الأمة الإسلامية قد وجدت نفسها بعد التيه والضلال، وأنها تتجاوب بصدى واحد، منبعث من ضميرها بلا تمحل ولا افتعال. لقد لعب الاستعمار لعبته الكبرى يوم مزق الوطن الإسلامي الأكبر، وحوله إلى دويلات تحمل الطابع القومي الهزيل، وتتخلى عن قوميتها الإسلامية الكبرى.
لقد هدم حينذاك كل ما بناه الإسلام من وحدة ضخمة تذوب فيها العناصر والأجناس، وتنصهر فيها الألوان واللغات، وتهتف كلها هتافا واحدا من قلوب متآخية في الله. ولم يكن بد للاستعمار من أن يلعب هذه اللعبة.
فما كان في استطاعته أو مقدوره أن يزدرد هذه الكتلة الكبرى وهي وحدة متماسكة.
فأما حين نفخ لها في بوق (القومية) الخداع فقد انفرط العقد، وانحلت العقدة، وتناثرت الفلول، وباتت كلها لقمة سائغة لمن أراد. ثم واجهت كل دويلة مشكلاتها الداخلية.
واجهتها عزلاء من راية تقف في ظلها، ومن قبلة تثوب إليها.
وانطلقت كل دويلة تجابه الاستعمار المتجمع المتكتل وحدها.
تارة في مجلس الأمن، وتارة في هيئة الأمم، وتارة في محكمة العدل.
وفي كل مرة كانت تؤوب بالفشل والخيبة، لان الاستعمار هناك وحدة؛ ولان (القومية) التي خدع بها المستضعفين في الشرق لا تجعله ينسى (الصليبية) التي يواجه بها الإسلام كافة! وانطلقت كل دويلة تجابه الطغيان الداخلي فيها والمظالم الاجتماعية بحلول ومبادئ تلهت وراءها في أرض غير أرضها؛ وفي بيئة غير بيئتها.
تارة باسم الديمقراطية.
وتارة باسم الاشتراكية.
وتارة باسم الشيوعية وهي كلها محاولات يائسة، أنشأتها أوضاع غير أوضاع الوطن الإسلامي، وهي أمتدادت طبيعية للفكرة المادية التي يدين بها الضمير الغربي والحضارة الغربية، وتجد جذورها في الحضارة الإغريقية والرومانية، ولا مبرر لنشأتها أو امتدادها في الجو الإسلامي والتفكير الإسلامي. وماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة في الخارج هي ما نراه من تفكك العالم الإسلامي وتكتل العالم الصليبي.
كانت هي ضعف الدويلات الإسلامية وقوة الاستعمار الأوربي.
كانت هي هذه الحلقة المفرغة التي تدور فيها هذه الدويلات حول دول الاستعمار.
كانت هي توزيع الأسلاب بين إنجلترا وفرنسا وهولندا وأمريكا.
كانت هذه المواقف الهزلية التي تقفها حكومة الدويلات شبه المستقلة كمصر والعراق، تقدم رجلا وتؤخر أخرى! وكانت العاقبة في الآخر هي هذه البلبلة في مواجهة الطغيان والمظالم الاجتماعية.
منا من يريد مواجهتها باسم الإسلام، ومنا من يريد مواجهتها باسم الاشتراكية، ومنا من يدعو خفية للشيوعية.
والإقطاع العارم وإلى الفاجرة يقفان في الجبهة الأخرى صفا، يضربان هؤلاء بأولئك، ويوقعان بينهم الفتنة والبغضاء! وبين الحين والحين يخرج بغاث هزيل، وببغاوات فارغة تحذرنا من دعوة الإسلام ومن راية الإسلام.
تحذرنا عداء العالم الغربي إذا نحن هتفنا باسم الإسلام، وتجمعنا كتلة تحت رايته كان هذا العالم يساقينا اليوم كؤوس المودة!.
وتحذرنا الفرقة والتنابز في داخل الوطن الواحد.
كأننا اليوم جبهة واحدة لا شراذم وشيع وفرق! وتحذرنا ما هو اشد وأنكى تحذرنا طغيان الحكم الإسلامي.
.
تحذرنا هذا الطغيان كأنما ننعم اليوم في بحبوحة الحرية! وتحذرنا ألاعيب رجال الدين المحترفين.
كأننا الآن لا نذوق منها الأمرين! إنها تعلات فارغة لا تخدم أحداً إلا المستعمرين الذين يفزعون من فكرة التكتل الإسلامي تحت راية الإسلام، لأنهم يدركون ما أدركته الملكة فكتوريا، وما أدركه جلادستون من أن راية القرآن يجب أن تمزق قبل أن يتسنى للرجل الأبيض حكم هذه البقاع الإسلامية.
ولأنهم يدركون أن ظل الاستعمار الأسود سيتقلص يوم ترتفع هذه الراية من جديد. أن الاستعمار الغربي لا تخفى عليه ضخامة القوة التي يمكن أن تواجهه في ميدان الحرب والسياسة والاقتصاد لو تكتل الوطن الإسلامي.
لا تخفى عليه ضخامة الموارد البشرية والمادية التي يمكن أن يحشدها لا يخفى عليه أن الدفة سيتحول اتجاهها يوم يقف أربعمائة مليون من البشر تحت راية واحدة وفي ظل عقيدة واحدة، ونظام اجتماعي واحد. أن الرأسمالية والشيوعية كلتيهما لترتعشان من هذا اليوم (الرأسمالية) لأنها تعلم أن الأسس الاقتصادية التي تسمح لها بالربى والاحتكار والاستغلال الرأسمالي.
.
كلها ستتحطم يوم يحكم الإسلام، فيقيم بنائه الاقتصادي على أسسه الاقتصادية الخاصة التي تطرد المرابين والمحتكرين والمستغلين، ولا تسمح لهم في ظلها بهذا النشاط الآثم الظالم.
ويومئذ يخرج من قبضتها الاقتصادية الاستغلالية هذا العالم المترامي الأطراف من شواطئ الأطلنطي إلى شواطئ الباسفيكي.
يخرج من قبضته المؤامرات إلى - كما خرجت دول الكتلة الشرقية تماما في ظل الشيوعية - وعندئذ تضيق الأرض بما رحبت.
فماذا يبقى للرأسمالية الغربية حين يخرج العالم الإسلامي كله من قبضتها وقد خرجت من قبل كتلة العالم الشيوعي؟ إن الرأسمالية الغربية يومئذ تختنق وتسقط جثة هامدة.
وذلك ما يخشاه المستعمرون من الراية الإسلامية والحكم الإسلامي.
وما قد يخيفهم اكثر من الجيوش والكتائب التي يجردها الوطن الإسلامي عليهم لتسحقهم سحقا. (والشيوعية) لأنها تعلم أن فرصتها الوحيدة في العالم هي الاختلال الاجتماعي والاقتصادي.
فلا مجال للشيوعية في مجتمع عادل متوازن، لا تتضخم فيه الثروات، ولا تتضخم فيه الفوارق، ولا يسوده الربا والاحتكار والاستغلال الرأسمالي، ولا يقوم فيه العداء بين العمال وأصحاب العمل، لأنه لا سبيل فيه لتحكم أصحاب العمل ولا إلى غبن العمال. ولما كان المجتمع الذي يمكن أن ينشئه الإسلام، حين يقوم على أصوله الصحيحة مجتمعا غير طبقي؛ لأن مصالح العمال لا تفترق فيه عن مصالح رأس المال، فالعمال أنفسهم أصحاب الحق في نصف الربح، كما أنهم أصحاب حق في تحويل نصيبهم أو بعضه إلى أسهم في مرفق العمل.
ومجتمعا لا ترف فيه ولا شظف فكلاهما مكروه أو حرام.
ومجتمعا لا تضخم فيه للثراء لأنه يحرم الربا والاحتكار والظلم في الأجور.
ومجتمعا متوازنا لأن الدولة فيه ملزمة بإعادة توزيع الثروة كلما أصابها الاختلال.
بل مكلفة أن تتخذ من الوسائل الوقائية ما يمنع كل ما قد يؤدي إلى هذا الاختلال.
ومجتمعا كل المرافق العامة فيه مؤممة أو شائعة الملكية وليس فيها احتكار.
.
لما كان المجتمع الإسلامي كذلك فان فرصة الشيوعية في اقتحامها نادرة بل مستحيلة، ولهذا تحرص الشيوعية حرص إلى على مطاردة فكرة التكتل الإسلامي والحكم الإسلامي.
وتطلق أبواقها يخوفون من هذه الفكرة أو يهونون من قيمتها، أو ينكرون أن تطبيقها العملي؛ ويبذلون من الجهود ما تبذله الجهة إلى سواء بسواء!. وفي وسط هذا كله تتجاوب صيحة واحدة مشتركة في جوانب العالم الإسلامي، تدعوا إلى راية الإسلام، وتهتف بالوحدة الإسلامية، وتنادي بالحكم الإسلامي.
وليس الأخوان المسلمون هم الذين يستقلون بهذه الدعوة.
وليس أصحاب التفكير الإسلامي من الكتاب والدعاة هم الذين ينفردون بها كذلك إنما هي دعوة تنبعث من ضمير هذه الأمة الإسلامية، من حيث تحتسب ومن حيث لا تحتسب. إنها تنبعث من حكومة الباكستان تدعو إلى مؤتمر اقتصادي إسلامي، لتنظيم اقتصاديات العالم الإسلامي على أسس إسلامية. إنها تنبعث من آية الله كاشاني زعيم إيران الروحي، يصرخ في وجه الإنجليز الكلاب أن يخرجوا لا من إيران، ولكن من الوطن الإسلامي.
ويبعث بتشجيعه وتوجيهه إلى رئيس الوزارة المصرية.
ويطلق المظاهرات في شوارع إيران تأييدا لمصر في قضيتها. إنها تنبعث من علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني زعيمي مراكش، التي حاربتها فرنسا في دينها بالظهير البربري سنه 1931 لأنها يئست من إخضاع مراكش قبل أن تمزق وحدتها الدينية. إنها تنبعث من مسلمي الملايو في آسيا، والصومال في أفريقيا، وهم يتجهون إلى دول العالم الإسلام. إنها تنبعث من احمد حسين زعيم الحزب الاشتراكي في رسالة حارة يبعث بها على صفحات الاشتراكية آية الله كاشاني والى مصدق رئيس حكومة إيران، التي طعنت احتكار البترول بخنجر الإسلام فأدماه! إنها تنبعث من احمد أبو الفتح في كتابه: (حكايات لمصر) دعوة الخلاص، بحكم الإسلام وبعدل الإسلام. إنها اليقظة.
إنه لهدى إنه النور.
إنه ضمير هذه الأمة كلها يستيقظ ويهتدي ويستنير.
إنها لم تعد دعوة فرد، ولا دعوة هيئة.
إنه صوت السماء يهبط مرة أخرى إلى الأرض.
إنها البشائر التي تلوح في الأفق على الرغم من كل ما يكتنفه من سحب وظلام. سيد قطب

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢