أرشيف المقالات

الاحتناك

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
الاحتِناك
 
موقف واحد ذُكر في القرآن في أربعة مواضع، فيه الإجابة على سؤال حيوي ومصيري لكل إنسان، إنه موقف حوار رب العالمين مع إبليس اللعين؛ لنقرأ معًا:
1) ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 16، 17].
 
2) ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 39، 40].
 
3) ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 62].
 
4) ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 83].
 
والسؤال هنا: كيف عرف إبليس أن سيستطيع إغواء أكثر الناس؟ بل أقسم على ذلك ﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 83]، وفي المقابل ربنا سبحانه لم يَقُلْ له: لا تستطيع، بل جاء التهديد له ولمن تبِعه بجهنمَ وبئس المصير.
 
والمتأمل لتاريخ البشرية، سيدرك هذه الحقيقة؛ وهي أن أكثر أهل الأرض - تقريبًا في كل زمان - هم أتباع الشيطان، والقلة هم أتباع الرحمن.
 
بل وصل به الأمر إلى تعبير مقزز عن طريقة تعامله مع البشر؛ فقد قال: ﴿ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 62]؛ أي: لأسوقنَّهم كما تُساقُ الدابة، فالعرب تقول حنك الدابة يحنكها: إذا شدَّ في حنكِها الأسفل حبلًا ليقودها، وكم هي صورة قبيحة للإنسان، وقد شُدَّ حبلٌ في عنقه ثم يُقاد منه! فمَن يرضى بتلك الصورة؟ لكنها وقعت وفعلها إبليس اللعين منذ زمن وإلى الآن وحتى في المستقبل، فكيف عرف أنه قادرٌ على ذلك؟
 
عند مراجعة الآيات وتدبُّرِها يتبين أنه صرَّح بذلك وجهر به؛ بِناءً على ركنين اثنين:
♦معرفة نفسه من حيث "التعمير"؛ فقد حصل على العمر الطويل إلى قيام الساعة: ﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ﴾ [الحجر: 36، 37]، والثاني معرفة "قدراته"؛ فقد أقدره الله على الإغواء؛ ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾ [الحجر: 39]؛ أي: أعطيتني القدرة على الإغواء.
 
♦ معرفة خصمه؛ فهو قد عَلِم أنَّ الله خلق البشر لعبادته وصلاح الأرض، وأنَّه أودع فيهم ما يُعينهم على تلك المهمة، وعلم أنه من أجل تحقيق ذلك، ركَّب فيهم الشهوات، وعرف مدخلها؛ وهو "التزيين"؛ أي: التحسين، فوظَّف ذلك لتحقيق مآربه؛ ﴿ لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ ﴾ [الحجر: 39]،وأمر ثانٍ "القعود"؛ وهو أن هذا يتطلب المواظبة والاستمرار وعدم اليأس؛ ﴿ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ ﴾ [الأعراف: 16]، وهذا الفعل يتضمن الملازمة، والثالث هو التنوع في التزيين من كل جهة، ومن كل طريق؛ ﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ﴾ [الأعراف: 17]، وهكذا تمت الخُماسية الإبليسية: التعمير، والقدرات، والتزيين، والقُعود، والتنوع، وتم ما كان يسعى إليه إبليس، ليس بإضلال العباد فقط، بل بتحنيكهم وجعلهم كالبهائم يقودها إلى هلاكها، وهي تبتسم، وكل هذا بقدرٍ من الله، وحِكَمٍ يعلمها، ونعلم بعضها.
 
لكن الحلقة لم تكتمل؛ فثمة فريقٌ من البشر أدرك الحقيقة بالبصر والبصيرة، وعرف الحق بالنقل والعقل، وعمِل ما أراه رب الخلق، فتعامل مع إبليس على حقيقته، فاتخذه عدوًّا، وتلك بداية الانتصار في المعركة الدائمة.
 
فالخيار لك بين أن يحتنكك الشيطان، أو أن تكون عبدًا للرحمن.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١