أرشيف المقالات

تفسير قوله تعالى: ﴿ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس.. ﴾

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
تفسير قوله تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ...

 
قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 94]
 
يزعم بنو إسرائيل أن لهم الآخرة عند الله، وأن الجنة لهم، وأن النار لغيرهم حيث قالوا: ﴿ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ [البقرة: 111]، وقد رد الله عليهم بقوله: ﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 111، 112]
 
كما قالوا: ﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ﴾ [البقرة: 80]، ورد الله عليهم بقوله: ﴿ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 80 - 82]
 
وقالوا: ﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [المائدة: 18]، فرد الله عليهم بقوله: ﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 18].
 
وفي الآية هنا تحداهم بتمني الموت إن كانوا صادقين في دعواهم أن الدار الآخرة لهم خالصة من دون الناس.
 
وهذا وما قبله من قوله: ﴿ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 91]وقوله: ﴿ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ ﴾ [البقرة: 93] كله في معرض الرد على قولهم: ﴿ نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ﴾ [البقرة: 91].
 
قوله: ﴿ قل ﴾ الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم أو له ولغيره ممن يصح خطابه ﴿ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ ﴾ [البقرة: 94]أي: وما فيها من الجنة ونعيمها، وقدم الخبر "لكم" للحصر، والخطاب لليهود الموجودين في حال نزول القرآن الكريم.
 
﴿ عِنْدَ اللَّهِ ﴾، أي: مدخرة لكم عند الله، ﴿ خَالِصَةً ﴾: حال من الدار، أي: حال كونها خالصة، ويجوز كونها خبر "كان".
 
﴿ مِنْ دُونِ النَّاسِ ﴾ أي: لا يشرككم فيها غيركم، وخاصة بكم دون جميع الناس كما تزعمون؛ لأنهم يقولون كما سبق: ﴿ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ [البقرة: 111]، ويقولون: ﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ﴾ يعني: ثم يخرجون إلى الجنة.
 
﴿ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ﴾ جواب الشرط في قوله: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَتْ ﴾ أي: اطلبوا حصول الموت، أو ادعوا على أنفسكم بالموت لتخلصوا وتصلوا إلى الدار الآخرة ونعيمها؛ لأنه لا يخلص ولا يوصل إليها إلا بعد الموت.
 
وقد قال بعض المفسرين: إن هذا من جنس آية المباهلة، وأن معنى: ﴿ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ﴾ أي: سلوه وادعوا به على الكاذب المفتري من الطائفتين، وقد اختار هذا ابن القيم وابن كثير- رحمهما الله[1].
 
والأول أقرب ودلالة السياق عليه أظهر، وقد كان هذا شأن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال الشهادة والجنة ولقاء الله، فقد ارتجز جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يوم غزوة مؤتة، حين اقتحم على المشركين بقوله:






يا حبذا الجنة واقترابها
طيبة وبارد شرابها[2]











وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه عند خروجه إلى غزوة مؤتة، ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين:






لكنني أسأل الرحمن مغفرة
وضربة ذات فرعٍ تقذف الزبدا


أو طعنة من يدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا


حتى يقولوا إذا مروا على جدثي:
أرشدك الله من غاز وقد رشدا[3]






 
وقال عمير بن الحمام:






جريًا إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد[4]











﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في دعواكم أن الدار الآخرة خالصة لكم من دون الناس.
 
وفي هذا أعظم التحدي لهم؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 95] كما قال تعالى في سورة الجمعة: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 6، 7].
 
فنفي عز وجل بـ "لن" و"لا" نفيًا مؤبدًا أن يتمنوا الموت، وفي هذا تكذيب لزعمهم أن لهم الدار الآخرة عند الله خالصة، فهم يكرهون الموت أشد من غيرهم؛ لأنهم يكرهون لقاء الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"[5].
 
﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [البقرة: 95] الباء للسببية، و"ما": موصولة، أو مصدرية أي: بسبب الذي قدمت أيديهم، أو بسبب تقديم أيديهم، والمعنى: أنهم لن يتمنوا الموت ولا يتمنونه أبدًا، ولا نطقا بألسنتهم دون مواطأة قلوبهم.
 
وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وذلك بسبب الذي عملوه من الأعمال السيئة من الكفر وتكذيب الرسل، والقول على الله بغير علم، والكذب والدعوى الباطلة بأن لهم الدار الآخرة خالصة، ونحو ذلك، ولما يعلمون ما لهم بسبب ذلك من المآل السيئ والعقبى الخاسرة عند الله.
 
﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ الجملة حالية، أي: والحال أن الله عليم بالظالمين من اليهود وغيرهم.
 
أي: أنه عز وجل محيط علمًا بهم وبأعمالهم وأحوالهم، وغير ذلك، وإنما خص علمه بالظالمين تهديدًا لهم، وإلا فعلمه محيط بكل شيء، كما قال تعالى: ﴿ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98].
 
وأظهر في مقام الإضمار فلم يقل: "والله عليم بكم" للتسجيل عليهم بوصف الظلم، وليشمل الوعيد أيضًا غيرهم من الظالمين، إضافة إلى مراعاة فواصل الآيات.



[1] انظر: "بدائع التفسير" (1/ 330- 332)، "تفسير ابن كثير" (1/ 182).


[2] انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي 9/ 260.


[3] انظر: "حلية الأولياء" 1/ 191.


[4] انظر: "الاستذكار" 5/ 132.


[5] أخرجه البخاري في الرقاق (6507)، ومسلم في الذكر والدعاء (2683)، والنسائي في الجنائز (1836)، والترمذي في الجنائز (1066)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١