أرشيف المقالات

سيد البرية رائد الأخلاق وتأليف النفوس البشرية

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
سيد البريَّة
رائد الأخلاقِ وتأليفِ النفوسِ البشريَّة

يتكلم علماء التنمية البشرية دائمًا عن نشر الابتسامة؛ لأنها سر التفاؤل ونشر المحبة بين الناس، ويقولون: إنها كالعدوى النافعة، فإذا أهديت ابتسامتك للآخرين، بادلوك الهدية، وكسبت ابتسامة جديدة.
 
يقول الدكتور ديفيد نيفن في كتاب مائة سر بسيط من أسرار السعداء: "إن ابتسامتك تسعد الآخرين وهي سبب في سعادتك أيضًا".
 
ولكن بدل أن نبحث في الشرق والغرب لنعد إلى بستان المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونقطف منه أزكى الثمار، فهو بحقٍّ رائد الأخلاق الحقيقية، الذي نَمَّى البشر في كل العصور، فإذا دخلنا جامعة المصطفى التي ما زالت تخرِّج الأجيال الصالحة إلى قيام الساعة، ونظرنا إلى قوله: "تبسُّمك في وجه أخيك صدقة"، والحديث لأبي ذر، ورواه الترمذي.
 
فهكذا كان الحبيب المصطفى رحمةً لكل الناس، حريصًا عليهم، بسامَ المحيَّا، لا يغضب لنفسه أبدًا, إلا أن تنتهك حُرمات الله عز وجل.
 
فقد كان يعامل أصحابه بالحسنى، فكسب قلوبهم، بل قلوب البشرية, ولله در شوقي إذ يقول:
وإذا صحبتَ رأى الوفاء مجسمًا *** في بردكَ الأصحابُ والخُلطاءُ
 
فهو صلى الله عليه وسلم لم يأمر غيره بالتبسم فقط، بل كان أسوة لهم في كل ما أمر به، أو نهى عنه، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ)؛ رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني.
 
فقد كان يبتسم كثيرًا، ومع الكل غنيًّا وفقيرًا، بل مع الأطفال الصغار، ويتحول التبسم، بل الوجه الطليق إلى معروف وإلى صدقة يكسبها المسلم تضاف إلى حسناته، وهكذا سبق ديننا الحنيف رواد التنمية البشرية الحديثة بقرونٍ، وسبقهم في أن عمل البسمة والفرحة خالصة لوجه الله تعالى.
 
وإذا تكلمنا عن العكس، حين يواجه الإنسان ما يغضبه من مثيرات خارجية، نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو رائد أيضًا إذا تطلَّب الموقف شيئًا غير الابتسامة، فعندما يتطلب الموقف تعليمًا لجاهل أتى ذنبًا لا يقصده لجهله بهذا الأمر، فنجد الرسول صلى الله عليه وسلم رائدًا في الحلم على خطأ الجاهل، وكذلك في الصبر على تعليمه وإرشاده بأرقى أساليب التربية، دون تجريح المخطئ أو تحقيره، ثم يحوِّله بعد ذلك إلى إنسان فعال ذي طاقة إيجابية يتفادى الوقوع في نفس الخطأ مرة أخرى، بل يحرص أيضًا على الإتقان لاقتدائه بسيد المعلمين معلم الأمة كلها صلى الله عليه وسلم.
 
قال العلماء في تفسير سورة الحجرات وهي سورة الآداب الاجتماعية في الإسلام في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 5]، يؤخذ منها احترام كل معلم، والصبر عليه، وعدم إيذائه، ومن باب أولى احترام الرسول صلى الله عليه وسلم معلم الأمة كلها.
 
ورد تعليم الجاهل في مواقف كثيرة، كل حسب حالته واحتياجه، ومنها حالة الأعرابي الذي بال في المسجد، ويبدو أنه كان حديث عهد بالإسلام، ولا دراية له بحال المسجد؛ لأنه من أهل البادية الذي اعتاد التبول في أي مكان، وكان المسجد ذا تربة طينية، فأخذ ناحية منه، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين «أن رجلًا أعرابيًّا دخل المسجد فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فقال النبي صلى الله عليه سلم: (لا تزرموه)، ورواه أيضًا البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: لَما هموا به قال: (لا تزرموه)، ونهاهم أن يتعرضوه وقال: (إنما بُعثتم ميسرين، ولم تُبعثوا معسرين)، فلما فرغ الأعرابي من بوله أمر النبي صلى الله عليه سلم أن يصبَّ على بوله سجلًا من ماء يعني: دلوًا من ماء، واكتفى بذلك».
 
(لاَ تُزْرِمُوهُ): بضم التاء وإسكان الزاي، والإزرام: القطع، والمعنى: لا تقطعوا عليه بوله.
وفي الحديث فوائد؛ منها: الرفق بالجاهل وعدم العجلة عليه، وأن المسلمين بُعثوا ميسرين لا معسرين، وأن الرفق بالجاهل من التيسير، وأن الشدة عليه من التعسير، وكذلك فإن المفسدة الكبرى تدفع بارتكاب اليسرى، وأن المصلحة العظمى تحصل ولو فاتت الدنيا؛ لأنهم لو ألزموه بالكف عن ذلك، لربما تطاير من بوله قطعٌ في أماكن كثيرة، فربما نجس نفسه ونجس بدنه وثيابه، وأضر بصحته أيضًا، وربما نفر من الإسلام، وكره الدخول في الإسلام، هذه مفاسد كبيرة، وكونه يكمل بوله، ثم يصب عليه الماء أسهل، ويُعلَّمُ بالرفق هذا أنفع وأسهل، وأقرب إلى تأليف قلبه وإلى محبته لإخوانه المسلمين، وإلى دخوله في الإسلام ورغبته فيه، فصارت المفسدة العظمى هي ما يحصل بالشدة عليه والعنف عليه، وهذا شيء ينفره من البقاء في الإسلام ومحبة المسلمين.
 
فاتضح أن المصلحة العظمى في عدم تنفيره وتأليفه، وفي تقليل النجاسة، مقدمةٌ على المصلحة الدنيا، وهي الاستعجال في كفه عن البول، ومنعه منه، وكذلك المفسدة العظمى التي تترتب على الشدة عليه وتنفيره من الإسلام، وتنفيره من إخوانه المسلمين، وتعدُّد النجاسة، هذه مفسدة عظمى تركت بارتكاب الدنيا، وهي تركه يكمل بوله، هذه مفسدة صغرى تركت وارتكبت؛ لأن ذلك أسهل من العنف عليه والشدة عليه كما تقدم.
 
أما إذا كان الخطأ أفدح كالشاب الذي استأذن في الزنا؛ فعن أبي أمامة قال: إن فتىً شابًّا أتى النبي، فقال: يا رسول اللَّه، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا له: مه، مه! فقال له: ((ادنه))، فدنا منه قريبًا، قال: ((أتحبه لأمك؟))، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم))، قال: ((أفتحبه لابنتك؟))، قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، جعلني اللَّه فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لبناتهم))، قال: ((أفتُحبه لأختك؟))، قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم))، قال: ((أفتحبه لعمتك؟))، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لعماتهم))، قال: ((أفتحبه لخالتك؟))، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم))، قال: فوضع يده عليه، وقال: ((اللَّهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه))، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء؛ أخرجه أحمد في المسند من حديث أبي أمامة، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه إلى الطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح، 1/129، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، برقم 370، ج1.
 
فنجد هنا التوجيه التربوي من الأب الحاني عل الشاب والأمة كلها، وإقناعه بالحوار العقلي البناء، ورغم أن هذا الشاب ربما لجهله أو لشدة اتباع رغباته ولو كانت محرَّمة، أراد أن يتغير الدين؛ ليدخل الجنة دون أن يتغير هو، فنجده يستأذن من علم الدنيا العفاف والتقى في أن يبارز الله بكبيرة من أكبر الكبائر، فماذا فعل الحبيب الذي كان أشد حياءً من العذراء في خدرها؛ لكي يعلم هذا الشاب الغر؟
أولًا: زجره الناس متعجبين ومبعدين، فقالوا: مه، مه؛ أي: نتعجب منك، فاسكُت وأبعد عن مجلس خير البشر صلى الله عليه وسلم، وقال له الرسول: ادنُ متوددًا ومقربًا، وحاوره في إقناع عقلي؛ ليُبغِّض إليه هذه الجريمة التي لا يرضاها الناس لبيوتهم ولنسائهم؛ صيانةً للعرض وحبًّا للشرف والطهارة.
 
فاقتنع الشاب بأن يتغير هو؛ لينال رضا الله ورسوله والجنة، ثم وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدر ذلك الشاب، ودعا له هذا الدعاء الجامع: (اللَّهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه))؛ ويا له من دعاء جميل بغفران الذنوب؛ أي: ما مضى في زمن الجهالة، وتطهير القلب ليعود نقيًّا مؤمنًا, وتحصين الجوارح التي ترتكب الذنوب، فيكون التطهير شاملًا؛ أي: إنه تم علاج حب المعصية في قلب هذا الشاب بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عصرنا الحديث تحوَّل شاب من عشق الرغبات والمعاصي المحرمة إلى التوبة والإصلاح في الأرض؛ لأنه دعا لنفسه بدعاء المصطفى: اللَّهم اغفر ذنبي، وطهر قلبي، وحصِّن فرجي، وصدق النية في التوبة، وتمنى دعاء الرسول له بنفسه، فكان هذا الدعاء وتلك التوبة فاتحة خير لهذا الشاب، بل تحوَّل إلى شاب ذي خُلق يدعو إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
 
إذًا نفخر أن رسولنا الكريم سيد الخلق وإمام المرسلين، هو رائد التعامل مع البشر بتأليف قلوبهم بلا منازع.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣