أرشيف المقالات

بر الوالدين نجاة في الدنيا والآخرة (خطبة)

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
بر الوالدين نجاة في الدنيا والآخرة
 
الخطبة الأولى
أما بعد:
إخوة الإيمان؛ إن بِرَّ الوالدين من أعظم الحقوق التي افترضها الله تعالى على عباده بعد عبادته؛ فقد قرَنَ بِرَّ الوالدين بعبادته؛ فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36]، وقال سبحانه: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 23 - 25].
 
واعلموا عباد الله أن بِرَّ الوالدين سبب للسعادة في الدنيا والآخرة، وسبب للنجاة من الشدائد في الدنيا والآخرة؛ لذا سنقف اليوم مع (بِر الوالدين نجاة في الدنيا والآخرة)، فكيف يكون البِرُّ سببًا من أسباب النجاة؟ وما هي الأمور التي ينجو منها البارُّ بوالديه؟
 
أعيروني القلوب والأسماع:
بر الوالدين نجاة من الوقوع في الكبيرة:
اعلم - زادك الله علمًا- أن بر الوالدين من أوجب الواجبات، والعقوق من أكبر الكبائر التي حرَّمَها الله تعالى على عباده، فالبارُّ قد نجا من الوقوع في تلك الكبيرة؛ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟)) ثَلَاثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا - أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ))، مَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَيْتَهُ سَكَتَ [1].
 
وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ))، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: ((يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ)) [2].
وفي رواية: ((إِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ))، قَالَ: قِيلَ: وَمَا عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ؟ قَالَ: ((يَسُبُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ)) [3].
 
يعني: أن يكون الإنسان سببًا في لعن والديه مع أنهما كانا سببًا في وجوده، هذا شيء مستعظم، فالرسول صلى الله عليه وسلم بيَّنَ أن اللعن يمكن أن يكون عن طريق التسبُّب، لا عن طريق المباشرة، بأن يسُبَّ الرجل أبا رجل من الناس، فيقوم ذلك الرجل فيسُب أباه.
 
بر الوالدين نجاة من سخط الله:
أخي المسلم، هل تريد رضا الله تعالى؟ هل تريد النجاة من غضب الله ومن سخطه جل في علاه؟
الجواب: عليك برضا الوالدين، فثم رضا الله تعالى؛ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ)) [4].
والحديث فيه دلالة على أنه يجب على الولد الوقوف على حال الذي يرضاه الوالدان ولا يسخطهما؛ ففي ذلك سخط الله سبحانه وتعالى، فيقدم رضاهما على فعل ما يجب عليه إذا كان من فروض الكفاية، كما ثبت في حديث ابن عمرو في الرجل الذي جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أحَيٌّ والداك؟))، قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد))، وفي رواية: ((ارجع إليهما، ففيهما المجاهدة))[5].
والظاهر أن "في" في قوله: "في رضا الوالدين" للسببية، بمعنى: أن رضا الوالدين سبب رضا الله، وسخط الوالدين سبب لسخط الله، والرضا معروف؛ أن يكون الإنسان مطمئنًا بالشيء، منشرحًا به صدره، وغير ذلك، فإذا أطعت والدك أو والدتك تطمئن به نفسه، ويشرح له صدره، فهذا هو سبب الرضا، والمراد بالوالدين: الأم والأب، وهما أحقُّ الناس بالبر.
 
الفوز بدعائهما والنجاة من الدعاء عليك:
اعلم - بارك الله فيك - أن دعوة الوالدين مستجابة، سواء كانت بالخير أم بالشر بسبب العقوق، دعوات الوالدين حافظات منجيات في وقت المحن؛ روى البخاري (في الأدب المفرد) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ)) [6].
 
يحتمل أن تكون دعوته لمن أحسن إليه، وبالشر لمن آذاه وأساء إليه؛ لأن دعاءه لا يخلو عن الرقة، ودعوة الوالد على ولده.
 
عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ إِلَّا ثَلاثَةٌ: عِيسى، وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ، كَانَ يُصَلِّي، جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْه، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصلِّي؟ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ! لاَ تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ المُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ، وَكَلَّمَتْهُ، فَأَبى، فَأَتَتْ رَاعِيًا، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلامًا، فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ، وَأَنْزَلُوهُ، وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتى الغُلامَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلامُ؟ قَالَ: الرَّاعِي، قَالوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لا، إِلَّا مِنْ طِينٍ))[7].
 
بر الوالدين نجاة من تعجيل عقوبة العاق لوالديه في الدنيا قبل الآخرة:
واحذر أخي المسلم من عقوق والديك؛ لأن العقوق دين وكيل، فكما تدين تُدان، وبالكيل الذي تكيل به تكتال؛ عنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((اثْنَتَانِ يُعَجِّلُهُمَا اللهُ فِي الدُّنْيَا: الْبَغْيُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ)) [8].
 
قال الصنعاني: «تعجيل العقوبة في الدُّنيا دليلُ غضب الربِّ على المعصية، وسرعة انتقامه من فاعلها، وعقوبة الآخرة، وإن كانت أشدَّ إلَّا أنَّها دار الرَّحمة ودار الشَّفاعات، فَرُبَّ ذنبٍ فيها يُغفَر، وجُرم فيها يُكَفَّر، وحسنات ترجح، فتعجيل العقوبة دليل أنَّه لا يُكَفِّرها إلَّا التَّوبة، ثمَّ في تعجيل عقوبة العقوق زجرٌ للعباد عن ذلك، فهو لطف لعلَّهم ينزجِرون به عن العُقوق، وقد يكون سببًا لتوبة العَاق عن عقوقه، وتلافيه مما ارتكب من ذلك»[9].
 
قال الأصمعيُّ (رحمه الله): حدَّثني رجلٌ مِن الأعراب، قال: خرجت من الحيِّ أطلب أعقَّ الناس، وأبرَّ الناس، فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو، لا تطيقه الإبل في الهاجرة، والحر شديد، وخلفه شابٌّ في يده رشاء (الحبل) من قدٍّ (جلد مدبوغ) ملوي يضربه به، قد شقَّ ظهره بذلك الحبل، فقلت: أما تتَّقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه؟ قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيرًا، قال: اسكت فهكذا كان هو يصنع بأبيه، وهكذا كان يصنع أبوه بجدِّه، فقلت: هذا أعقُّ الناس [10].
 
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((بَابَانِ مُعَجَّلَانِ عُقُوبَتُهُمَا فِي الدُّنْيَا: الْبَغْيُ, وَالْعُقُوق)) [11].
 
النجاة من استحقاق لعنة الله لمن سبَّ والديه أو لعنهما:
واحذر أخي الحبيب من سب ولعن الوالدين، فأمسك عليك لسانك؛ لتنجو من لعنة الله تعالى؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَلْعُونٌ مَنْ سَبَّ أَبَاهُ، مَلْعُونٌ مَنْ سَبَّ أُمَّهُ، مَلْعُونٌ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ تُخُومَ الْأَرْضِ، مَلْعُونٌ مَنْ كَمَهَ أَعْمَى عَنْ طَرِيقٍ، مَلْعُونٌ مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ، مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ)) [12].
 
وعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قُلْنَا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَخْبِرْنَا بِشَيْءٍ أَسَرَّهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا أَسَرَّ إِلَيَّ شَيْئًا كَتَمَهُ النَّاسَ؛ وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ((لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ الْمَنَارَ)) [13].
 
نجاة من أسباب دخول النار:
واعلم بارك الله فيك: أن بر الوالدين شهادة ضمان لدخول جنة الرحمن، وأن عقوقهما وعيد شديد بالدخول في جنهم والعياذ بالله؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ))، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ)) [14].
 
وعنه رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: ((آمِينَ آمِينَ آمِينَ))، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ قُلْتَ: (( آمِينَ آمِينَ آمِينَ))، قَالَ: ((إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، وَمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَبَرَّهُمَا، فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، وَمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ)) [15].
 
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
 
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أن لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
 
بر الوالدين نجاة عند الشدائد:
واعلم أن في بِرِّ الوالدين نجاة عند الشدائد والمحن، فخير ما يتوسَّل به العبد من العمل الصالح بِرُّ الوالدين؛ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَرَجَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَرْتَادُونَ لِأَهْلِيهِمْ مَنْزِلًا فَأَوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوا فَانْحَدَرَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، فَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلِي وَلَا مَالِي، وَإِنِّي طَلَبْتُ الشَّجَرَ يَوْمًا - يَعْنِي الْمَرْعَى - فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا وَجِئْتُهُمَا بِهِ، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلِي وَمَالِي، فَقُمْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدِي أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا، فَلَمْ يَسْتَيْقِظَا حَتَّى بَزَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ رَجَاءَ ثَوَابِكَ وَرَحْمَتِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ انْفِرَاجًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ))، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ، وَكَانَتْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَطَلَبَتْ مِنِّي عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ، فَلَمَّا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ قَالَتْ: إِنِّي لَا أَحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، قَالَ: فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوقُوعِ عَلَيْهَا، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ رَحْمَتِكَ وَمَخَافَةَ عَذَابكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ انْفِرَاجًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ))، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أُجُورَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ لَهُ أَجْرَهُ وَكَثَّرْتُ مِنْهُ الْأَمْوَالَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَجَاءَ بَعْدَ حِينٍ شَيْخٌ كَبِيرٌ يَطْلُبُ أَجْرَهُ، فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَاللَّهِ لَا تَسْتَهْزِئْ بِي، قُلْتُ: إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ، وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ وَرَجَاءَ رَحْمَتِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا مِنَ الْغَارِ يَمْشُونَ)) [16].
 
بر الوالدين نجاة من الحجب والحرمان من النظر إلى الملك الديان:
واحذر أخي أيضًا من العقوق، فهو سبب من أسباب الحجب والحرمان من رؤية الملك الديان، وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَشْهَدُ لَقَدْ سَمِعْتُ سَالِمًا يَقُولُ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ بِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ - الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ – وَالدَّيُّوثُ))[17].
 
بر الوالدين نجاة من التأخُّر في دخول الجنة:
واعلم أن من ثمرات البِرِّ أن تدخل الجنة في زمرة الفائزين يوم القيامة، فبرُّهما نجاة من التأخُّر في الدخول، وفي عقوقهما وعيد شديد بعدم الدخول في زمرة الفائزين؛ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ، وَلَا مَنَّانٌ، وَلَا مُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ))[18]؛ أي: مع السابقين الأولين، أو من غير سبق عذاب.
 
الدعاء...

[1] أخرجه أحمد (5/36، رقم 20401)، والبخاري (5/2229، رقم 5631)، ومسلم (1/91، رقم 87).

[2] البخاري (5973)، ومسلم 146 - (90)، وأحمد (6529)، وأبو داود (5141)، والترمذي (1902).

[3] رواه أحمد (7004)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[4] الصحيحة" (516) "التعليق الرغيب" (3/ 218).

[5] البدر التمام شرح بلوغ المرام (10/ 210).

[6] (صحيح الجامع؛ للألباني، حديث 2810).

[7] أخرجه أحمد (2/308، رقم 8058)، والبخاري (3/1268، رقم 3253)، ومسلم (4/1976، رقم 2550).

[8] رواه البخاري في التاريخ (494), وكنز العمال (45458), وانظر: صَحِيح الْجَامِع (137).

[9] التنوير شرح الجامع الصغير 8: 156 ـ157.

[10] مساوئ الأخلاق؛ للخرائطي، صـ 252.

[11] رواه الحاكم في "المستدرك" (7350), وانظر: صَحِيح الْجَامِع (2810), والصحيحة (1120).

[12] حسن: رواه أحمد في "المسند" (1875،2914)، وابن حبان (4417).

[13] مسلم44 - (1978).

[14] مسلم9 - (2551)،وأحمد (8557).

[15] حسن صحيح: رواه ابن حبان (907)، وقال الألباني: حسن صحيح.

[16] أخرجه البخاري (2/793، رقم 2152)، ومسلم (4/2100، رقم 2743).

[17] رواه أحمد في "المسند" (6180)، والنسائي (2562)، وابن حبان (7340)، وانظر: السلسلة الصحيحة (674).

[18] أخرجه أيضًا: أحمد (6/441، رقم 27524).

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير