تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد (3)
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد (3)أسلفنا في الكلمة السابقة أن خلود أهل كل دار فيها، وما يلقون من النعيم والعذاب جزاء مساوٍ لأعمالهم.
كما أنه فضل من الله في جانب أهل الجنة؛ وعدل منه في جانب أهل النار.
ونريد أن نبين هنا أن ما تطبعه الأعمال الصالحة أو الأعمال السيئة في نفوس أصحابها حتى يصير صورة ثابتة لتلك النفوس تنطبع به تلك النفوس لا يفارقها، بحيث يصير وصفاً ذاتياً لها: هو ميزان جزائها في الآخرة.
يرشدك إلى هذا إذا تدبرته تمام التدبر: قوله عز وجل في سورة الأنعام ﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 139] أي أنه تعالى سيعطي الجزاء عباده في الدار الآخرة على حسب الوصف الذي تطبعه الأعمال في نفوسهم حسناً وقبحاً، بحسب قوة هذا الوصف وضعفه.
وفي هذه الجملة حذف تقديره: سيجزيهم وصفهم ربهم من تعظيمه أو جحوده.
تقول العرب: إذا تمكنت الصفة في عضو من الأعضاء، كالكذب في اللسان؛ والحسن في الوجه، وصف لسانه الكذب ووجهها يصف الحسن، وعينها تصف السحر.
ومنه قوله عز وجل ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ [النحل: 116] الآية.
وهذا المعنى شائع في كلام العرب نظما ونثرا.
قال الشماخ يصف ناقته بسرعة السير حين تسري به ليلا:
إذا ما أدلجت وصفت يداها
لها الإدلاج ليلة لا هجوعا
وقال المعري:
سرى برق المعرة بعد وهن
فبات برامة يصف الكلالا
فدلت الآية على أن الجزاء مساو لهذا الوصف الذي تطبعه الأعمال بحيث يقال وصفت نفس المؤمن تعظيم الله عز وجل وهيبته ومعرفته وخوفه، واستمر هذا الوصف لها في حياتها الدنيا، وبعد خروجها من الجسم، وبعد ردها إليه بالبعث، فاستحقت ما تلقاه من النعيم والخلود جزاء لها على هذا الوصف، كما يقال مثله تماما في نفس الكافر لكن الفرق بين المؤمنين والكافرين: أن المؤمنين يتفضل الله عليهم مع ثواب أعمالهم المستمر بمضاعفة جزاء أعمالهم في الجنة إلى أضعاف كثيرة حسب مشيئته وأمره وهذا فضل محض وكرم خالص، خارج عن جزاء الأعمال الصالحة.
وسنسوق لك من النصوص ما يدل لك على هذا المعنى:
مضاعفة جزاء الأعمال الصالحة فضلا وكرما دون الأعمال السيئة عدلا وحكمة قال تعالى في سورة النساء ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40] وقال تعالى ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 245] وقال ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261] وقال تعالى ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 160].
وأما السنة ففيها أحاديث كثيرة في هذا المعنى، ومنها حديث ابن عباس وأبي هريرة عند البخاري وغيره واللفظ للبخاري "ومن همّ بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة".
وهذه النصوص تدل دلالة قاطعة على أن لا مضاعفة في جانب السيئة، وعلى المضاعفة في جانب الحسنة؛ وتلك المضاعفة محض فضل من الله عز وجل متفق مع رحمته ورأفته بالمؤمنين.
كشف شبه شرعية:
أوردها الرازي في تفسيره لآخر الآيات التي أوردناها، وإنما تعرضنا لها لقوتها، وضعف ما أجاب به عنها لنوقفك على أجوبتها الصحيحة بعد بيان فسادها وفساد ما أجاب به عليها:
قال في الشبهة الأولى ما نصه: كفر ساعة كيف يوجب عقاب الأبد على نهاية التغليظ؟ ثم أجاب عنها بأنه لما كان الكافر على عزم أن لو عاش أبدا بقي على هذا الاعتقاد فلذلك استحق عقاب الأبد بخلاف المؤمن المذنب فإنه لما كان على عزم أن ينقطع عن الذنوب انقطعت عقوبته.
وأقول: هذا الجواب فاسد من وجوه:
(1) فإنا لا نسلم أن كل كافر عنده هذا العزم وإنما ذلك يتأتى في المعاندين فقط والكفر لا ينحصر في العناد للحق ولا ينحصر الكفار في المعاندين.
(2) ماذا يقول في الذين كفروا جهلا، مع تقصيرهم في البحث عن الحق مع إمكان الوصول إليه كأهل الفترة.
(3) وماذا يقول في الأحاديث التي تدل على عذاب أطفال الكفار بعد الامتحان الذي يجريه الله عز وجل يوم القيامة لمن لم يدركوا بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
ولكن الجواب الحق الذي تنهار به هذه الشبه من أساسها هو ما قدمناه لك من وصف قلوب الكفار الذي لا يفارقهم كما يشير إليه قوله عز وجل ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 27] وقد سبق الكلام على هاتين الآيتين.
(الشبهة الثانية): قال فيها ما نصه: إعتاق الرقبة جعل مرة بدلا عن صيام ستين يوما، وذلك في كفارة الظهار؛ ومرة بدلا من صيام أيام قلائل، وذلك يوجب عدم اعتبار المساواة.
والمراد بقوله بدل صيام أيام قلائل يعني في كفارة الأيمان؛ حيث جعل بدلا من صيام ثلاثة أيام.
ثم أجاب عن هذه الشبهة بقوله: إن المساواة إنما تعبر بوضع الشارع وحكمه.
ومعنى جوابه: أن الشارع هو الذي جعل هذه المساواة وحكم بها؛ وهو جواب العاجز الحائر الغافل؛ عن بقية الحكم في مشروعية الإعتاق.
والجواب الحق: أن إعتاق الرقبة نلاحظ فيه تخليصها من الرق ما أمكن، ويدل على ذلك تفاوت الكفارة فيما عدا الإعتاق، لانتفاء الحكمة السابقة في غيره.
ومما يدل على صحة جوابنا: أن الله تعالى جعل إعتاق الرقبة في كفارة الظهار أساساً.
ضرورياً وأمرا حتميا لا يجوز للمظاهر الانتقال عنه إلا عند العجز لعظم ذنب الظهار لتتساوى العقوبات مع مقتضياتها.
وجعله في كفارة اليمين أمراً تخييريًا، وفاوت في الصوم والإطعام بين الظهار واليمين تفاوتاً بليغاً حيث جعلها في اليمين صيام ثلاثة أيام عند العجز عن إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.
وجعل كفارة الظهار فيما عدا الإعتاق صيام شهرين متتابعين مقدماً على الإطعام.
وجعل الإطعام في الظهار لستين مسكينا تحقيقا للتساوي الملحوظ بين الأحكام وعقوباتها.
ومما يدل على أن كفارة الظهار مفارقة تمام المفارقة لكفارة اليمين، وأن ذكر الإعتاق في كفارة اليمين إنما هو لحرص الشارع على تخليص الرقبة من الرق: أنه قد يطلب من الحالف في باب الأيمان أن يعدل عن المضي في يمينه وأن يوقعها ويكفر عنها إذا رأى غيرها خيرا منها، ولا يتصور ذلك في المظاهر، لأن صورة يمينه تتضمن تحريم حلال، ولهذا قال الله تعالى في المظاهرين ﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ﴾ [المجادلة: 2].
فتدبر هذه الدقائق في أحكام الله عز وجل وعقوباتها فإن له تعالى الحكمة البالغة والحجة الدامغة، ولو شاء لهداكم أجمعين.
وموعدنا بإيراد الشبهتين الأخريين المقال الآتي إن شاء الله تعالى وبه المستعان وفقنا الله جميعا إلى تدبر أحكامه والوقوف على مصادرها ومواردها وتحقيق موازينها ومقاصدها إنه خير مأمول وأكرم مسئول وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المجلة
السنة
العدد
التاريخ
الهدي النبوي
الثانية
السادس عشر
رجب سنة 1357 هـ