أرشيف المقالات

144 فائدة من حديث جابر الطويل المشهور في صفة حج النبي - للعلامة العثيمين

مدة قراءة المادة : 65 دقائق .
2144 فائدة من حديث جابر - رضي الله عنه - الطويل المشهور في صفة حج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – للعلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله   الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فهذه جملة من الفوائد التي تبلغ 144 فائدة تقريبًا ذكرها سماحة العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - أثناء شرحه لحديث جابر - رضي الله عنه - نقلتها من مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (24/ 506) جمع وترتيب: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، وفي ثناياها جملة من التساؤلات والفوائد أضعاف هذا؛ ولكني حذفت الكثير منها - مع ما فيها من الفوائد النافعة، والماتعة - طلبًا للاختصار وهي جميعها أو أكثرها من المسائل التي ذكرها - رحمه الله - استطرادًا للفائدة، أو تساؤلًا لدفع إشكال ما، أو بيان وتوضيح للمسألة، أو للترجيح بين أقوال العلماء، أو نحو ذلكم، وأنوه إلى أني - أيضًا - نقلت حواشي الجامع بشيء من التصرف والزيادة.
وإلى فوائد هذا الحديث: 1- أن حجة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كانت في السنة العاشرة من الهجرة، لقوله: " ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حاج ".

2- أن ميقات أهل المدينة ذو الحليفة.
لقوله: (فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة).
3- أن الصحابة - رضي الله عنهم - من أحرص الناس على طلب العلم، ذكورهم وإناثهم، لقوله: (فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع).
4- أن طلب العلم لا يختص بالرجال؛ فكما أن الرجل يشرع له طلب العلم، بل يتعين عليه، إذا كانت عبادته لا تقوم إلا به فإنه يتعين عليه فكذلك المرأة ولا فرق.
5- أنه يستحب الغسل للإحرام للرجال والنساء حتى من لا تصلي فإنها تغتسل، لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأسماء بنت عميس: ((اغتسلي)).
فأمرها أن تغتسل.
وإذا كانت النفساء - وهي لا تصلي - تؤمر بالغسل، فكذلك من سواها.
6- أن الحيض أو النفاس لا يمنع انعقاد الإحرام، كما لا يمنع دوامه، بدليل قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((وأحرمي)).
وبناء على ذلك، فإن المرأة إذا وصلت إلى الميقات وهي حائض، أو أصابها حيض فلا تقل: لن أحرم حتى أطهر، بل نقول: أحرمي.
7- جواز الإحرام ممن عليه جنابة.
وجه ذلك أنه أمر النفساء أن تحرم، والنفاس موجب للغسل.
8- أنه ينبغي التلبية إذا استوى على البيداء لقوله: ((حتى إذا استوت به على البيداء أهل بالتوحيد)).
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء - رحمهم الله..
9- أن الإنسان لا ينقل إلا ما بلغه علمه؛ فإن جابرًا - رضي الله عنه - لم ينقل ما نقله عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أهل حين استوى على ناقته، بل قال: "حتى إذا استوت به على البيداء".
وهذا بعد ما ذكره عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما.
10- مشروعية رفع الصوت بالتلبية، لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: (( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال )).
(2) فينبغي للرجل أن يرفع صوته امتثالًا لأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - واتباعًا لسنته، وسنة أصحابه.
فقد قال جابر - رضي الله عنه -: " كنا نصرخ بذلك صراخا"[1].

ولا يسمع صوت الملبي من حجر، ولا مدر، ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة، فيقول: أشهد أن هذا حج ملبيًا.

ومع الأسف أن كثيرًا من الحجاج لا يرفعون أصواتهم بالتلبية إلا نادرًا.

فإن قال قائل: أليس النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -قال لأصحابه وقد كبروا في سفر معه: (( أيها الناس اربعوا على أنفسكم- أي: هونوا عليها- فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ))[2]..
قلنا: لكن التلبية لها شأن خاص؛ لأنها من شعائر الحج، فيصوت بها.

أو يقال إن أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يهونوا على أنفسهم لأنهم كانوا يرفعون رفعًا شديدًا يشق عليهم.
أما المرأة فتسر بها؛ لأن المرأة مأمورة بخفض الصوت في مجامع الرجال، فلا ترفع صوتها بذلك، كما أنها مأمورة إذا نابها شيء في الصلاة مع الرجال أن تصفق، لئلا يظهر صوتها، فصوت المرأة - وإن لم يكن عورة - لكن يخشى منه الفتنة.
ولهذا نقول: المرأة تلبي سرًا بقدر ما تسمع رفيقتها ولا تعلن.
11- مشروعية رفع الصوت بالتلبية من حين الإحرام.
12- مشروعية تعيين النسك في التلبية.
فإذا كان في العمرة يقول: لبيك اللهم عمرة، وفي الحج يقول: لبيك اللهم حجًا، وفي القِرَان يقول: لبيك اللهم عمرة وحجًا.
13- أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر أنه في مجيئه إلى مكة وإحرامه أنه إنما يفعل ذلك تلبية لدعاء الله.
قال الله تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج:27].
فالأذان بأمر الله يعتبر أذانًا من الله.
فإذا كان الله هو الذي أذن فأنا أجيبه وأقول: لبيك اللهم لبيك...
إلخ.
14- أن التلبية توحيد خالص؛ لأن الإنسان يقول: لبيك اللهم لبيك.
ولبيك هذه جواب، جواب دعوة.
ولهذا إذا دعي أحدنا فقيل: يا فلان! قال للداعي: لبيك، وهي بصيغة التثنية، ولكن المراد التكرار، ومن ثم يقول النحويون إنها ملحقة بالمثنى؛ لأن لفظها لفظ تثنية، ومعناها التكثير.
والتلبية هي الإجابة؛ فكأنك تقول: يا رب إجابة لك بعد إجابة.
وتكرر توكيدًا.
15- الثناء على الله - عز وجل - بالحمد والنعمة؛ فإنه هو المتفضل - عز وجل -بذلك ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل:53].
16- انفراد الله بالملك لقوله: ((..
لك والملك لا شريك لك)
)
.
17- جواز الزيادة على تلبية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يسمعهم يزيدون ولا ينكر عليهم.
وممن زاد في التلبية عمر وابنه - رضي الله عنهما -: "لبيك وسعديك، والرغباء إليك والعمل".
وكما قال أنس - رضي الله عنه -: "منا المهل، ومنا المكبر".
وكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يسمعهم ولا يرد عليهم شيئًا.
لكن لزوم تلبية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل وأتم في التأسي.
18- أن الناس كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج، بل إن العرب في الجاهلية يرونها من أفجر الفجور، ويقولون: لا يمكن أن تأتي إلى مكة بعمرة وحج، بل لابد أن تأتي بعمرة في سفر، وحج في سفر وهم ينظرون إلى ذلك من ناحية اقتصادية، حتى يكثر الزوار والحجاج، وتكون الأسواق أكثر اشتغالًا.
19- أنه ينبغي للإنسان الحاج أو المعتمر أن يبادر حين الوصول إلى مكة إلى الذهاب إلى المسجد ليطوف؛ لأن هذا هو المقصود ولا ينبغي أن يجعل غير المقصود، مقدمًا، بل المقصود ينبغي أن يكون مقدمًا، على كل شيء.
20- حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على العلم بأفعال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليتبعوه فيها.
21- مشروعية البداءة في الطواف بالحجر الأسود؛ فإن بدأ دونه مما يلي الباب لم يعتد بالشوط.
22- مشروعية استلام الحجر الأسود عند ابتداء الطواف، لقوله: ((حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن)).
23- مشروعة تقبيل الحجر الأسود في الطواف.
وأما تقبيل غيره من الجمادات والأحجار فبدعة.
24- مشروعية استلام الحجر الأسود والركن اليماني في الطواف بالبيت.
ولا يشرع استلام غيرهما من أركان الكعبة أو جدرانها سوى هذين الركنين.
25- أن السنة كما تكون بالفعل تكون كذلك بالترك، فإذا وجد سبب الفعل في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يفعله دل هذا على أن السنة تركه.
26- مشروعية الاضطباع في جميع الطواف.
وهل يبقى مضطبعًا بعد الطواف أم لا؟ الصحيح أنه لا يبقى مضطبعًا.
وأن الإنسان يستر منكبه من حين أن يفرغ من طوافه. وقال بعض العلماء - رحمهم الله -: بل إنه يبقى مضطبعًا في السعي.
ولكن الصحيح الأول.
27- مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من طواف القدوم دون الأربعة الباقية.
28- مشروعية الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى من الحجر إلى الحجر، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فعل ذلك وأن السنة المشي في الأربعة الباقية.

29- أن الطواف بالبيت سبعة أشواط كاملة.
فلو نقص خطوة واحدة من أوله أو آخره لم يصح.
كما لو نقص شيئًا من الصلاة فإنها لا تصح.
30- أنه تسن الصلاة خلف المقام بعد الطواف، ومعلوم أن الركعتين خلف المقام قريبًا منه أفضل من كونها بعيدًا عنه أو ليست خلفه.
لكن إذا لم يتيسر للإنسان أن يصلي خلف المقام قريبًا منه فليصل خلف المقام بعيدًا منه، فإن لم يتيسر فليصل في أي مكان من المسجد؛ لأن المطلوب منه شيئان: الأول: الصلاة.
والثاني: كونها خلف المقام.
فإن تعذر المكان بقيت مشروعية الصلاة، وليس من شرط الصلاة أن تكون خلف المقام، حتى نقول إذا تعذر خلف المقام سقطت الصلاة.
31- أنه ينبغي للإنسان بعد أن يصلي الركعتين أن يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه لفعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.
32- أنه ينبغي المبادرة بالسعي بعد الطواف بدون تأخير، وهذا على سبيل الأفضلية وليس على سبل الوجوب.

ولهذا قال العلماء- رحمهم الله-: إن الموالاة بين الطواف والسعي سنة وليست بشرط.
فلو طاف في أول النهار وسعى في آخره فلا بأس، لكن الأفضل الموالاة.
33- أنه ينبغي أن يخرج من باب الصفا؛ لأنه أيسر، وكان المسجد الحرام فيما سبق له أبواب دون المسعى يخرج منه الناس.
أما الآن فيتجه إلى جهة الصفا.
34- أنه يِنبغي إذا دنا من الصفا أن يتلو الآية ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة: 158]، اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وليشعر نفسه أنه إنما سعى؛ لأنه من شعائر الله وتعظيمًا لشعائر الله عز وجل وحرماته.
35- أنه ينبغي أن يقول: ((أبدأ بما بدأ الله به)) ليتحقق بذلك الامتثال.
ولا يقال هذا الذكر إلا إذا أقبل على الصفا من بعد الطواف، فلا يقال بعد ذلك لا عند المروة ولا عند الصفا في المرة الثانية؛ لأنه ليس ذكرًا يختص بالصعود، وإنما هو ذكر يبين أن ابتداء الإنسان من الصفا إنما هو لتقديم الله له.
36- أن ما بدأ الله به هو أولى بالتقديم، ولهذا بدأ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -بالصفا، لأن الله بدأ به.
37- أنه ينبغي صعود الصفا حتى يرى البيت فيستقبله، وهو واضح من قوله: "فرقي الصفا حتى رأى البيت".
38- أنه ينبغي في هذا الحال أن يوحد الله ويكبره، ويقول الذكر، ويدعو بين الأذكار التي يقولها ثلاث مرات.
وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حينئذ رفع يديه دعاء، وليس رفع إشارة كما يفعل في الصلاة.
39- أن السنة أن يمشي ما بين الصفا إلى طرف الوادي الشرقي، ثم يسعى من طرف الوادي الشرقي إلى طرفه الشمالي، ثم يمشي إلى المروة.
40- أن الإسراع في كل المسعى ليس بمشروع.
41- أنه ينبغي الإسراع في بطن الوادي لفعل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -وبطن الوادي الآن جعل له علم منصوب (عمود أخضر)، فإذا وصلته فابدأ بالإسراع.
42- أنه ينبغي لك وأنت تسعى أن تستشعر بأنك في ضرورة إلى رحمة الله - عز وجل - كما كانت أم إسماعيل - رضي الله عنها - في ضرورة إلى رحمة الله - سبحانه وتعالى -، فكأنك تستغيث به - تبارك وتعالى - من آثار الذنوب وأوصابها.
43- أن الإسراع في السعي مشروع في كل الأشواط السبعة، لأن جابرًا - رضي الله عنه -لم يستثن شيئًا منه، بخلاف الرمل في الطواف، فمشروع في الثلاثة الأولى. وفرق آخر: هو أن الإسراع في السعي في جزء منه، والرمل في الطواف في جميع الأشواط الثلاثة فهذان فرقان. الفرق الثالث: أن الإسراع في السعي أشد من الرمل في الطواف، لأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يسرع جدًا بخلاف الطواف، فإنه يرمل، والرمل إسراع المشي دون الخبب، يعني: دون الركض الشديد.
44- أن اختتام الأشواط السبعة يكون بالمروة.
45- أن الأيدي لا ترفع حال الذكر والدعاء، لا في السعي ولا في الطواف؛ لأن الذين وصفوا طواف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ودعاءه فيه: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)).
لم يذكروا رفع اليدين، وكونهم يذكرون رفع اليدين على الصفا وعلى المروة يدل على أن ما عدا ذلك ليس فيه رفع.
46- جواز قول (لو) إذا كان لقصد الإخبار.
لقوله: (( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت )).
47- حسن تعليم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ودعوته إلى الحق.
48- مشروعية فسخ نية الحج إلى عمرة ليصير متمتعًا، إلا أن يسوق الهدي.
49- أن من فسخ نية الحج إلى عمرة ليصير متمتعًا، فإنه يتحلل بالعمرة تحللًا كاملًا.
50- أن الحج يمتاز عن غيره من العبادات بجواز تغيير النية فيه.
فنجد الرجل يحرم بالحج، ثم يقلبه إلى عمرة ليصير متمتعًا ويصح، ويحرم بالعمرة أولًا ثم يضيق عليه الوقت فيدخل الحج عليها ليصير قارنًا ويصح.
كما أن الحج يخالف غيره في النية في أنه لو نوى الخروج منه لم يخرج منه، بينما العبادات الأخرى يخرج منها.
وإذا فعل محرمًا في العبادات الأخرى تبطل العبادة، كما لو أكل أو شرب في الصلاة، أو تكلم فيها.
لكن في الحج المحظورات فيه لا تبطله إلا الجماع قبل التحلل الأول يفسده، ويجب المضي فيه وقضاؤه من السنة الأخرى، بخلاف غيره من العبادات.
51- أن التمتع أفضل الأنساك، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر به من لم يسق الهدي؛ ولأنه أكثر عملًا؛ لأنه يأتي بأفعال العمرة كاملة، وأفعال الحج كاملة؛ ولأنه أيسر لمن قدم مكة في وقت مبكر حيث يتمتع بالحل فيما بين العمرة والحج.
إلا لمن ساق الهدي، فالقران أفضل لتعذر التمتع في حقه.
فالتمتع في حق من ساق الهدي لا يمكن، لأنه لا يمكن أن يحل.
52- أن من ساق الهدي ليس له إلا القران.
53- أنه لا يشترط لسوق الهدي أن يكون من بلده.
54- أن التعليم يكون بالقول وبالفعل، لقوله: فشبك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: ((دخلت العمرة في الحج ))، وأخذ منه بعض المعاصرين التعليم على السبورة؛ لأن السبورة ترسم للإنسان العلم.
والعلم إذا رسم للإنسان يكون أدعى لثباته في النفس إذ الإنسان لا يزال يستحضر هذه الصورة فتبقى في ذهنه.
55- أنه ينبغي للمحلين بمكة أن يدفعوا إلى منى في اليوم الثامن محرمين بالحج، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه دفعوا إليها، ولا ينبغي أن يدفع إليها قبل اليوم الثامن على طريق التنسك والعبادة، لأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه لم يدفعوا قبل اليوم الثامن.
56- أن أعمال الحج تبتدئ من ضحى اليوم الثامن.
ويتفرع على ذلك ثلاث فوائد:
57- أنه - فيما نرى - لا يشرع التمتع لمن قدم مكة بعد أوان أعمال الحج.
فمثلاً لو جئت بعد الظهر في اليوم الثامن، فليس هناك تمتع؛ لأن الله يقول: ﴿ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾ [ البقرة: 196].
فمنتهى التمتع الحج، وأفعال الحج تبتدئ باليوم الثامن؛ إذًا فلا حاجة للتمتع.
ونقول: إن شروعك في الحج ودخولك فيه في هذه الحال أفضل من العمرة، فإما أن تفرد، وإما أن تقرن.
أما التمتع فقد زال وقته الآن.
58- أنه لا يشرع لمن أراد الإحرام يوم التروية أن يذهب إلى البيت، أي المسجد الحرام ويحرم من المسجد، بدليل أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يفعلوا ذلك، والترك مع وجود السبب سنة، يعني إذا وجد سبب الشيء في عهد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يفعل كانت السنة تركه وهذا سببه موجود، ولم يذهب واحد من الصحابة ليحرم من المسجد، فدل ذلك على أن السنة أن يحرموا من أماكنهم التي هم نازلون فيها.
59- أنه ينبغي أن تكون صلاة الظهر يوم التروية في منى، هذا هو الأفضل.
ويتفرع على ذلك ثلاث فوائد:
60- أنه يتبين حرمان قوم من الناس يريدون الحج ويبقون في أماكنهم، فإذا كان بعد العصر أحرموا بالحج، وخرجوا إلى منى نقول هذا وإن كان جائزًا لكن الإنسان حرم نفسه؛ لأن بقاءه في منى في ذلك اليوم أفضل من بقائه في المسجد الحرام وغيره. ولهذا لما كان يوم التروية هذا العام يوم الجمعة صار كثير من الحجاج يتساءلون هل الأفضل أن نصلي الجمعة في المسجد الحرام، ثم نخرج إلى منى أو الأفضل أن نخرج إلى منى في الصباح في الضحى، ونصلي الظهر في منى؟ والجواب: الثاني أفضل؛ لأن بقاءك في منى عبادة، وأنت ما جئت من بلادك إلا لأجل هذه العبادة.
61- أن الصلاة في منى لا تجمع، لأن جابرًا - رضي الله عنه - لم يذكر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جمع، فدل هذا على أنه صلاها على الأصل، أي بدون جمع. وهل يستفاد من حديث جابر - رضي الله عنه - أن الصلاة في منى تقصر؟ الجواب: لا يستفاد، لكن نستفيده من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه.
62- أنه ينبغي المكث في منى حتى تطلع الشمس، ولا يسن الدفع قبل طلوع الشمس، لقوله: " ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس "، وهو كذلك؛ فإن دفع بعد صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فلا إثم عليه، لكن الأفضل أن يتأخر.
63- قوة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في دين الله حيث لم يتبع قومه في الوقوف في مزدلفة، بل أجاز حتى أتى عرفة.
64- أن الدين شرع وتوقيف، وليس عادة.
دليله أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يتبع العادة في ذلك، بل اتبع ما اقتضته شريعة الله - سبحانه وتعالى.
65- أن نمرة من عرفة، بناء على أحد القولين ويتفرع على ذلك فائدتان: 66- أنه لو وقف أحد بنمرة بعد زوال الشمس، ولم يدفع إلا بعد الغروب أجزأه الحج، ولم أر من صرح به، مع أن هذا هو مقتضى هذا القول ولازمه.
أما إذا قلنا إن نمرة ليست من عرفة - وهو الصحيح كما قلنا - فالأمر فيها واضح أنه من وقف فيها لا يجزئه ولا حج له.
67- أنه ينبغي أن ينزل الحاج بنمرة قبل الوقوف بعرفة؛ والدليل فعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم. فلو قال قائل: أفلا يمكن أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نزل بها من باب السهولة؛ لأنه أسمح لوقوفه حتى يستريح ويستعد للوقوف، كما قالت عائشة - رضي الله عنها - في نزوله في المحصب[3] بعد الحج؟ قلنا: الأصل التعبد في جميع أفعال الحج، إلا ما قام الدليل على أنه ليس من باب التعبد - وأيضًا - فيمكن أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يستريح إذا نزل في عرفة.
68- جواز استخدام الإنسان غيره لاسيما إذا كان كبيرًا أو ذا سلطة، والدليل: " أمر بالقصواء فرحلت له " فإن قوله أمر...فرحلت" يدل على أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - ما باشر ترحيلها، وإنما أمر فرحلت له، وهذا لا ينافي نهي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((أن يسأل الناس شيئًا))، لأن هناك فرقًا بين أن تسأل شخصًا شيئًا ويرى أن له منَّة عليك، وبين أن تسأل شخصًا شيئًا ويرى أن المنة منك عليه، وما يجري من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من هذا الباب، كل يفرح أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمره، ثم هو زعيم أمته - عليه الصلاة والسلام -، فيأمر على وجه السلطة، وعلى وجه الإمرة.
69- إعلان الأحكام الشرعية عن طريق الخطابة.
70- حرص النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على تبليغ أمته؛ فإنه كان لا يخفي تبليغ الأحكام، بل يعلنها إعلانًا بواسطة الخطابة.
71- استحباب الخطبة يوم عرفة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خطب الناس، فيستحب أن يخطب الإمام أو نائبه الناس يوم عرفة، ويستحب أن يحرص على الأقوال التي قالها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في تلك الخطبة ليقتدي بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في أصل الخطبة، وفي موضوعها وكلماتها.
72- أن الخطبة يوم عرفة قبل الأذان لقوله: " ثم أذن ثم أقام ".
73- أن الربا موضوع كله، ولا يؤخذ مهما كان.
فالربا الثابت في ذمم الناس يجب وضعه، ولا يجوز أخذه، حتى وإن عقد قبل إسلام العاقد، أو قبل جهله.

ما قبض من قبل من ربا وأكل، وأتى الإنسان موعظة من الله، فلا يلزمه تقويمه والتخلص منه، لكن ما بقي في ذمم الناس؛ فإنه لا تتم التوبة منه إلا إذا تركه ولم يقبضه.
74- بيان عدل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو ظاهر من قوله: ((وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع ))، فأول ما قضى عليه من أمر الجاهلية ما كان يتصل بأقاربه؛ وهذا كما قال في الحديث الصحيح: ((وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))[4].
وهكذا يجب على الإنسان أن يكون قائماً لله بالعدل، لا يفرق بين قريب وبعيد، أو غني وفقير، أو قوي وضعيف.
الناس في حكم الله واحد، لا يتميز أحد منهم بشيء إلا بما ميزه الله به.
75- وفيه الإشارة إلى أن الذي يتولى طلب الرزق وحصول الكسوة هو الرجل، لقوله: ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)).
أما المرأة فشأنها أن تبقى في بيتها لإصلاح حالها وحال زوجها، وحال أولادها، وهذا ما كان عليه السلف الصالح - رضوان الله عليهم.
76- أن القرآن عصمة؛ إذا اعتصم به الإنسان عصم من الضلال في الدنيا، والشقاء في الآخرة، كما قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ﴾ [طه: 123]، أي: لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة.
77- وفيه الحث على الاعتصام بكتاب الله، والرجوع إليه، وأن به العصمة من كل سوء.

78- اعتراف الصحابة - رضي الله عنهم - بالجميل للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لقوله: " نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت "، وهذه الشهادة التي شهدها الصحابة - رضي الله عنهم - يجب على كل مؤمن أن يشهدها فنحن نشهد أنه قد بلغ، وأدى، ونصح - عليه الصلاة والسلام.
79- إشهاد الله تعالى على العباد بأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بلغ.
80- إثبات علو الله - عز وجل - وجه الدلالة: الإشارة إلى السماء، وعلو الله الذاتي قد دل عليه الكتاب والسنة، والإجماع والعقل والفطرة.
81- جواز الإشارة إلى مكان الله - عز وجل -، وهو في السماء.
82- إثبات علم الله - عز وجل - وسمعه وبصره حيث كان يرفع إصبع إلى السماء، ثم ينكتها إلى الناس.
83- تكرار الأمر الهام ثلاث مرات، حتى وإن كان المخاطب قد سمع، فإنه يكرر لا من أجل إفهام المخاطب، ولكن من أجل الاهتمام بهذا الشيء.
84- أنه لا يشرع للمسافر أن يصلي راتبة الظهر، لقوله: "لم يصل بينهما شيئًا".
85- أن الصلاتين المجموعتين المشروع فيهما أن تكونا متواليتين لقوله: " ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا ".
والموالاة بين المجموعتين إذا كان الجمع جمع تقديم شرط عند أكثر الفقهاء - رحمهم الله - إلا أنه لا بأس أن يفصل بوضوء خفيف، أو استراحة قصيرة، ثم يستأنف الصلاة ثانية.
أما إذا كان الجمع جمع تأخير، فالموالاة ليست بشرط.
86- استحباب الوقوف للإمام في موقف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقف عند الصخرات خلف جبل عرفة؛ لقوله: " ثم ركب حتى أتى الموقف ".
وأما غير الإمام، فإنهم يقفون في أماكنهم، لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -:" وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ".
ولأن الأصل الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في كيفية العبادة وزمانها ومكانها.
وجه ذلك: أنه نبه على أن وقوفه في هذه الأماكن لا يسن فيه الأسوة أو لا تجب فيه الأسوة لقوله: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)، وكذلك يقال في مزدلفة.
87- بيان تيسير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على أمته حيث لم يلزمهم، بل ولم يندبهم إلى أن يتحروا مكان وقوفه ونحوه، لا في عرفة ومزدلفة، ولا في منى.
88- أنه لا يشرع صعود الجبل، ولا الصلاة فيه، ولا الصلاة عنده، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يفعل ذلك؛ والأصل في العبادات التوقيف، حتى يقوم دليل على مشروعيتها.
89- أن الركوب في الوقوف بعرفة أفضل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقف راكباً، وقال: ((خذوا عني مناسككم ))[5].
وقال بعض العلماء - رحمهم الله-: بل الوقوف على غير الراحلة أفضل.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية[6] - رحمه الله- التفصيل في ذلك، وقال: إنه يختلف باختلاف الحاج، وما ذهب إليه هو الصحيح.
فإذا كان الإنسان يحتاج إلى أن يكون راكباً ليراه الناس ويسألوه وينتفعوا بعلمه، وقف راكباً أفضل، وكذلك إن كان أخشع له وأحضر لقلبه، فيقف راكباً أفضل، وإذا كان الأمر بالعكس صار الحكم بالعكس أيضاً، فهو يختلف باختلاف أحوال الناس.
90- مشروعية استقبال القبلة حال الدعاء يوم عرفة، ورفع اليدين والإكثار من الدعاء، ومن الذكر، لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: (( خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير))[7].
وينبغي له أن يحرص على الأذكار والأدعية الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنها من أجمع الأدعية وأنفعها، فيقول: اللهم لك الحمدُ كالذي نقولُ وخيراً مما نقولُ، اللهم لك صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي وإليك رب مآبي ولك رب تراثي. اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر. اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح.
اللهم إنك تسمعُ كلامي، وترى مكاني، وتعلمُ سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عيناه، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه. اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا، وكن بي رؤوفاً رحيماً، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين. اللهم اجعلْ في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً. اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا. اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر. اللهم اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. فالدعاء يوم عرفة خير الدعاء. قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "خير الدعاء يوم عرفة".
كما في الحديث السابق - وإذا لم يحط بالأدعية الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دعا بما يعرف من الأدعية المباحة.
91- وجوب الوقوف بعرفة حتى تغرب الشمس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقف حتى غربت الشمس وقال: ((لتأخذوا عني مناسككم ))؛ ولأن الدفع قبل غروب الشمس مخالفة لهدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وموافقة لهدي المشركين؛ لأن المشركين كانوا ينتظرون، فإذا قربت الشمس إلى الغروب دفعوا من عرفة، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ ولأن في ذلك نقصًا في الوقوف الذي هو الركن.
ومعلوم أن الأركان أفضل من الواجبات، والواجبات أفضل من السنن؛ لأنه كلما تأكدت العبادة كانت أفضل.
لقوله تعالى في الحديث القدسي: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته))[8].
ويدل - أيضًا - على أن ذلك الوجوب تأخر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى تغرب الشمس؛ لأنه لو دفع قبل أن تغرب لكان أيسر، فلما عدل عن ذلك إلى البقاء حتى غربت الشمس دل على أن الدفع قبل هذا محرم، ولو كان جائزاً لفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أيسر.
92- أنه ينبغي لإمام الناس أو من ينيبه أن يحث الناس على السكينة؛ فرجال المرور مثلًا ينوبون مناب الإمام في تدبير الناس، وتنظيم السير، والأمر بالسكينة، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نظم السير في قوله: "السكينة السكينة"، فإن هذا نوع من تنظيم السير.
93- أنه ينبغي للإمام، بل يجب على الإمام أن يكون أول من يبادر إلى ما يأمر به.
ودليله أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - دفع وقد شنق للقصواء الزمام، وما كان ليقول للناس السكينة السكينة وهو تاركها تمشي بسرعة، بل هو أول من يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام.
94- حسن رعاية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما استرعاه الله حتى في البهائم.
وجه ذلك أنه كلما أتى حبلًا من الحبال أرخى لناقته قليلاً، فإن هذا من حسن رعايته لها ورأفته بها - صلى الله عليه وآله وسلم -، فرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحسن الرعاية في البشر حيث يقول السكينة السكينة، وأحسن الرعاية في البهيمة حيث يرخي لها قليلًا حتى تصعد إذا أتى حبلاً من الحبال.
95- أن المشروع للحاج ألا يصلي المغرب والعشاء إلا في مزدلفة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخر ذلك إلى مزدلفة، ووجه هذا: أن المشروع في حق المسافر إذا جد به السير ألا يقف فيقطع سيره.
96- أن الجمع يكون جمع تأخير، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جمع جمع تأخير، ولكن هل هذا مراد؟ أو لأن سير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان متواصلاً إلى أن دخل وقت العشاء؟
الذي يظهر الثاني؟ لأن هذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وبناء على ذلك لو أن الإنسان وقف في أثناء الطريق وصلى، فإن القول الذي عليه جمهور أهل العلم أن صلاته صحيحة خلافًا لبعض الظاهرية كابن حزم[9]- رحمه الله - حيث قال: لا تصح صلاة المغرب والعشاء في ليلة مزدلفة إلا بمزدلفة، واستدل بقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأسامة - رضي الله عنه، لما توضأ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: يا رسول الله، الصلاة؟ قال: " الصلاة أمامك ".
ولكن رأي الجمهور هو الصحيح.
97- أنه لا يشرع للمسافر أن يصلي راتبة المغرب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يصل راتبة المغرب في السفر، كما لم يصل للظهر، وكذلك للعشاء.
أما راتبة الفجر فلم يكن يدعها، لا حضرًا ولا سفرًا.
98- أنه لا يشرع ليلة مزدلفة تهجد، ولا قراءة، ولا شيء من العبادات التي تمنع من النوم، إذ لو كان هذا مشروعًا لفعله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تبليغًا للشرع، أو لأرشد الأمة إليه بقوله، فلما لم يحصل هذا ولا ذاك، علم بأنه ليس بمشروع.
99- أنه لا تجوز صلاة الفجر ولا غيرها حتى يتبين دخول الوقت.
لقوله: " صلى الفجر حين تبين له الصبح ".
100- أنه ينبغي المبادرة في صلاة الفجر ليلة المزدلفة، دليله: " حتى تبين "، يعني من حين ما تبين صَلِّ، وهو دليل على أن المشروع في الفجر ليلة المزدلفة أن يبادر بها مبادرة غير المبادرة المعتادة المعروفة.
101- مشروعية الأذان والإقامة في الحضر وفي السفر، وهل هذه المشروعية على سبيل الوجوب؟ الجواب: نعم على سبيل الوجوب.
فيجب الأذان في السفر والحضر، والإقامة في الحضر والسفر.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمالك بن الحويرث رضي الله عنه ومن معه: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم "[10].
وهم وافدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مسافرون، فأمرهم بالأذان، مع أنهم مسافرون.
فالمسافرون عليهم الأذان، كما على المقيمين.
102- مشروعية صلاة الجماعة في الحضر والسفر، وهي على الوجوب، فيجب على المسافر صلاة الجماعة، كما يجب على المقيم ولا فرق، بل قد أوجب الله صلاة الجماعة في حال القتال، وقتال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كان كله في السفر.
103- قصد المشعر الحرام[11]، والوقوف عنده في صبيحة يوم العيد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ركب وقصد المشعر الحرام ولكن هل هذا على سبيل الوجوب؟ الجواب: لا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ((وقفت هاهنا وجمع كلها موقف )).
فكل مزدلفة موقف، ولا يلزمك أن تشد الرحال إلى المشعر الحرام لتقف عنده.
104- أنه ينبغي التفرغ بعد صلاة الفجر يوم العيد للدعاء والتكبير، والتهليل، والذكر إلى أن يقرب طلوع الشمس.والدليل: " فدعاه وكبره وهلله ولم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا ".
إذًا: فيسن التفرغ للدعاء والذكر في هذه المدة إلى أن يسفر جدًا.
105- تواضع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حيث أردف الفضل بن عباس – رضي الله عنهما - دون أشراف القوم، وأردف في دفعه من عرفة إلى مزدلفة أسامة بن زيد - رضي الله عنه - وهو مولى.
106- جواز الإرداف على الدابة؛ لأن الإرداف لو كان حرامًا ما أردف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الفضل بن عباس، ولكن يشترط لذلك أن تكون الدابة قوية وقادرة على تحمل الرديف، فإن كانت هزيلة ضعيفة والإرداف يشق عليها، فإن ذلك لا يجوز؛ لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"[12].
107- عدم جواز نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية، كما استدل به النووي وغيره من أهل العلم - رحمهم الله -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صرف وجه الفضل إلى الشق الآخر.
ولكن إذا كان لشهوة فهو حرام بلا شك، وإذا كان لغير شهوة فإن الذي تدل عليه النصوص الأخرى أنه لا يجوز له النظر إليها، وأنه يجب عليها أن تحتجب لئلا ينظر إليها.
108- مشروعية تغيير المنكر باليد لقوله: " فجعل النبي يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر".
109- جواز التغيير قبل الأمر؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - جعل يصرف وجهه دون أن يقول له التفت، أو اصرف وجهك، وعلى هذا فينظر الإنسان هل الأصلح أن يأمر أولًا ثم يغير، أم أن يغير أولًا قبل أن يأمر، فيرجع ذلك إلى ما فيه المصلحة.

110- أنه ينبغي الإسراع في بطن محسر، وهو الوادي الذي بين مزدلفة ومنى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أسرع فيه.
والأصل فيما فعله في هذه العبادة أنه من التعبد وليس من العادة، حتى يتبين أنه عادة.
والظاهر أنه لا يمكن الإسراع الآن؛ لأن الإنسان محبوس بالسيارات، فلا يمكن أن يتقدم أو يتأخر، وربما ينحبس في نفس المكان، فيعجز أن يمشي، ولكن نقول: هذا شيء بغير اختيار الإنسان، فينوي بقلبه أنه لو تيسر أن يسرع لأسرع، وإذا علم الله من نيته هذا فإنه قد يثيبه على ما فاته من الأجر والثواب.
111- أنه ينبغي للإنسان القادم إلى منى من مزدلفة أن يسلك أقرب الطرق إلى جمرة العقبة؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهكذا ينبغي للإنسان في أسفاره أن يسلك أقرب الطرق إلى حصول مقصوده.
112- أنه ينبغي المبادرة برمي الجمرة بحيث لا يقدم عليها نسكًا، ولا تنزيل رحل، ولا نزولًا في مكان، بل يبادر بها أول ما يقدم، وهذا هو الأفضل.
113- أن من رخص له أن يدفع من مزدلفة في آخر الليل له أن يبدأ بالجمرة - جمرة العقبة - فيرميها حين وصوله؛ وأما ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من النهي عن هذا في قوله: (( أبني لا ترموا حتى تطلع الشمس ))[13].
فقد ضعفه كثير من أهل العلم - رحمهم الله -، وإن صح فإنه يحمل على الاستحباب لا على الوجوب.
وإلا فكل من جاز له الدفع من مزدلفة جاز له الرمي، وإلا لما استفاد شيئًا، فكيف يرخص له أن يدع نسكًا من المناسك التي نص القرآن عليها، ويبقى في منى ساكنًا حتى طلوع الشمس.
114- أن غسل حصى رمي الجمار بدعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يغسله، ولم يأمر به أصحابه.
115- أنه لا رمي في يوم العيد إلا لجمرة العقبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يرم سواها، فلو رمى الإنسان الثلاث لكان مبتدعًا، وإن رماها جهلًا فليس عليه شيء.
116- مشروعية الرمي راكبًا ما لم يكن في ذلك أذية.
117- أنه يجب أن يرمي الجمار رميًا، فلا يجزئ الوضع، بل لابد من الرمي.
118- أنه لابد من سبع حصيات لقوله: " فرماها بسبع حصيات "، فلو رمى بخمس، أو بثلاث، أو بأربع لم يجزئ. ولكن رخص بعض أهل العلم[14]- رحمهم الله - بجواز الرمي بخمس أو لست، قال: لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينصرفون من الرمي، فيقول بعضهم رميت بخمس، وبعضهم بست، وبعضهم بسبع، ولا ينكر أحد على أحد، ولكن لا شك أن الأحوط ألا يقتصر على ما دون السبع، لأن هذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.
119- أنه لا يجوز الزيادة على السبع لقوله: "فرماها بسبع حصيات ".
120- أنه لابد أن تكون السبع متعاقبات، لقوله: " رماها بسبع "؛ فإن ظاهره أن كل واحدة تكون مرمية، فلابد أن تكون متعاقبات ولهذا قال: "يكبر مع كل حصاة"، وهذا كالنص الصريح على أنه لابد من التعاقب.
فلو رماها دفعة واحدة، لم يجزئه إلا واحدة ولا يجزئه السبع؛ هذا ما لم يكن قصد التعبد، وهو يعلم أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - رمى سبعاً متعاقبة، فإن نوى التعبد، مع علمه بأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - رمى بسبع متعاقبة، فإن ذلك لا يجزئ؛ لأنه صريح بمخالفة السنة، فيكون عملًا ليس عليه أمر الله ورسوله، فيكون مردودًا، ولو رماها سبعًا من شدة الزحام دفعة واحدة تكون واحدة.
121- أنه يستحب التكبير عند الرمي، وأن يكون مع كل حصاة.
122- أنه لا يستحب البسملة هنا، وإن كان بعض الناس يسمي، فيقول: بسم الله، والله أكبر.
123- أنه لا يسن أن يقول ما يقوله العامة: اللهم رضا للرحمن وغضبًا للشيطان؛ فإن هذا لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن باب أولى أنه لا يسن في هذا الحال سب الشيطان ولعنه وما أشبه ذلك من الكلمات التي يقولها جهال الناس.
124- ضلال من يرمي بالأحجار الكبيرة، أو بالنعال، أو بالمظلات، أو ما أشبه ذلك، مما يفعله الجهال، وكل هذا من اعتقادهم أنهم يرمون الشيطان.
125- أنه لا يجزئ الرمي بغير الحصى، فلو رمى بذهب لم يجزئه؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع، ولو رمى بمدر - وهو الطين المجفف - لم يجزئه، ولو رمى بقطعة من الإسمنت فإنه لا يجزئ، ولو رمى بجص أو بخشب، أو بأي مادة من المواد، أو معدن من المعادن سوى الحصى فإنه لا يجزئ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رمى بحصى.
126- أنه لا يجزئ الرمي بالحصاة الكبيرة، ولا الصغيرة جدًا، أما الصغيرة التي دون حصى الخذف لكن ليست صغيرة جداً فإنها تجزئ، والكبيرة لا تجزئ لقوله: " كل حصاة منها مثل حصى الخذف ".
فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رمى بهذا وقال: "خذوا عني مناسككم ".
بل رفع إليه ابن عباس - رضي الله عنهما - حصيات فأخذها بكفه وجعل يحركها ويقول: " بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين ".
127- أنه يسن رمي جمرة العقبة من بطن الوادي لقوله: " رمى من بطن الوادي ".
128- أنه يسن استقبال جمرة العقبة لا القبلة عند الرمي، خلافًا لمن قال: إنه يستقبل القبلة، ويجعل الجمرة عن يمينه، ويرمي من اليمين، فإن هذا ليس بصحيح؛ لأنه خلاف موقف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من وجه، ومن وجه آخر أنه في زمننا هذا متعذر.
129- أنه لا يشرع الوقوف للدعاء بعد رمي جمرة العقبة.
130- أن النحر بعد الرمي لقوله: " ثم انصرف إلى المنحر فنحر".
131- أنه ينبغي لذوي الأمر أن يرتبوا المكان للحجاج، بحيث يجعلوا للنحر مكان خاص لقوله: " ثم انصرف إلى المنحر"؛ لأنه إذا جعل للنحر مكانًا خاصًّا سلم الناس من الروائح الكريهة والتلويث والأذى وغير ذلك، فإذا جعل للنحر منحر خاص، فذلك أسلم وأقرب إلى الإحاطة بهذا الأذى والقذر.
132- أنه ينبغي للإنسان أن ينحر هديه بيده لقوله: " فنحر".
فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يكون قوله: " فنحر": أي أمر من ينحر؟ قلنا: هذا ممكن، ولكن الأصل في إضافة الفعل إلى فاعله أن يكون الفاعل مباشرًا للفعل، ولهذا جاء التفصيل في حديث جابر - رضي الله عنه - المذكور أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - نحر ثلاثًا وستين بيده، وأعطى عليًا - رضي الله عنه - فنحر الباقي، وهكذا ينبغي للإنسان أن ينحر هديه – أضحيته – بيده؛ لأن ذلك أتبع للسنة، وأشد طمأنينة للقلب أن تكون ذبحتها على الوجه المشروع، وأن هذا عبادة، فينبغي للإنسان أن يفعلها بنفسه ويتفرع منها:
133- خطأ الفكرة السائدة بين الناس اليوم وهي أن المقصود من الأضحية هو اللحم، ولهذا تجدهم يرسلون الدراهم إلى البلاد النائية البعيدة بدلًا عن الأضحية، ويقولون هم أحوج منا.
نقول: ليس المقصود من الأضحية هو اللحم، المقصود هو التقرب إلى الله بالذبح، هذا أهم شيء في الأضحية أن تذبحها أنت بنفسك، تذللًا لله عز وجل، وتعظيمًا له، وتقربًا إليه، فإن لم تستطع فوكل من يذبح، كما وكل - صلى الله عليه وآله وسلم - ابن عمه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يذبح ما بقي من هديه، ثم إذا ذبحت وتقربت إلى الله فإن شئت فكل، وإن شئت فتصدق بها كلها. ولهذا لما نزلت بالمسلمين فاقة في إحدى السنوات لم يقل تصدقوا بالطعام، أو تصدقوا بالدراهم، بل قال: (( اذبحوا، لكن لا تدخروا فوق ثلاث)).
وفي العام الثاني لما زالت الفاقة قال: ((كلوا وادخروا ما شئتم)). فالمهم أنه يجب على طلبة العلم أن ينبهوا الناس على أن الذبح نفسه عبادة عظيمة؛ ولهذا قرنه الله بالصلاة في قوله: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر: 2]، فلا ينبغي أن ترسل الشعائر تقام هناك، وتترك الشعيرة هنا.
ولهذا كان من حكمة الله أن البلاد غير مكة تقام فيها هذه الشعيرة، وهي التقرب إلى الله بالذبح، لكن في مكة هدي، وفي غيرها أضاحٍ. وإذا كان يحب أن ينفع إخوانه في الجهة الأخرى فليرسل إليهم دراهم صدقة، تطوعًا لله - عز وجل -.
فهذه مسألة ينبغي أن يتنبه لها.
134- وفيه دليل على تأكد الأكل من الهدي؛ لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر من كل بدنة بقطعة، وكان يكفيه أن يأخذ من بدنة واحدة يأكل ما شاء، لكن تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا ﴾ [الحج: 28].

135- أنه يجوز التوكيل في ذبح الهدي؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وكل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن ينحر الباقي، ولكن لا ينبغي التوكيل إلا إذا دعت الحاجة إليه، إما لكثرة الهدي، أو لكون الذبح يشغله عما هو أهم؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لا شك أن حاجات الناس تتعلق به في الاستفتاء وغيره، فلهذا لما نحر ثلاثاً وستين أعطى عليًا - رضي الله عنه -، فنحر الباقي، وهو سبع وثلاثون بعيرًا.
136- مشروعية إهداء الإبل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أهدى إبلًا مائة بعير، وأشرك عليًا - رضي الله عنه - في هديه.
137- وفيه دليل على كرم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حيث أهدى مائة بدنة عن سبعمائة شاة.
وكثير من الناس اليوم يشق عليه إهداء شاة واحدة، حتى إنه يختار النسك المفضول على الفاضل تفاديًا للهدي.
138- أنه ينبغي أن يفيض إلى مكة ليطوف ضحى يوم النحر؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أفاض ضحى يوم النحر قبل أن يصلي الظهر، بعد أن أكل من لحم هديه؛ لأنه أمر من كل بدنة بقطعة، فجعلت في قدر فطبخت، فأكل من لحمها، وشرب من مرقها.
139- أنه ينبغي أن يصلي الظهر يوم العيد بمكة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى الظهر بمكة، لكن قد ثبت في الصحيحين[15]: أنه صلاها بمنى، فاختلف العلماء- رحمهم الله- في هذا: فمنهم من سلك طريق الترجيح، ومنهم من سلك طريق الجمع، والصحيح سلوك طريق الجمع؛ لأن الحديثين كلاهما صحيح بلا شك، وإذا صح الحديثان، وأمكن الجمع لم يعدل إلى الترجيح.
والجمع بينهما ممكن بأن يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى الظهر بمكة، ثم خرج إلى منى فوجد بعض أصحابه لم يصل فصلى بهم إمامًا، وأن صلاته في منى معادة، كما كان يفعل - معاذ رضي الله عنه - مع قومه، يصلي مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة[16].
140- أن الله - تعالى - قد ينزل البركة للإنسان في وقته، فيفعل في الوقت القصير ما لا يفعل في الوقت الكثير، وهذا شيء مشاهد، ومن أعظم ما يعينك على هذا أن تستعين بالله عز وجل في جميع أفعالك، بأن تجعل أفعالك مقرونة بالاستعانة بالله، حتى لا توكل إلى نفسك؛ لأنك إن وكلت إلى نفسك وكلت إلى ضعف وعجز، وإن أعانك الله فلا تسأل عما يحصل لك من العمل والبركة فيه.
141- أنه ينبغي الشرب من ماء زمزم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شرب من ماء زمزم.
142- أنه ينبغي على من شرب من ماء زمزم أن يتضلع منه؛ لأن هذا الماء خير، وقد ورد حديث في ذلك لكن فيه نظر وهو: ((أن آية ما بين أهل الإيمان والنفاق التضلع من ماء زمزم))[17]؛ وذلك لأن ماء زمزم ليس عذبًا حلوًا، بل يميل إلى الملوحة، والإنسان المؤمن لا يشرب من هذا الماء الذي يميل إلى الملوحة إلا إيمانًا بما فيه من البركة، فيكون التضلع منه دليلًا على الإيمان.
143- وفيه أن أفعال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أسوة؛ لقوله لبني عبد المطلب: (( انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ))؛ لأنه لو نزع لكان سنة يأخذ بها الناس، وحينئذ يغلبونهم على السقاية.
144- وفيه تواضع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين شرب من الدلو الذي يشرب منه الناس، ناولوه دلواً فشرب منه - صلى الله عليه وآله وسلم -.
وظاهر الحال أنه شرب قائماً، فقيل شرب قائمًا لضيق المكان، وقيل: إنه شرب قائمًا، من أجل أن يتضلع منه - أي من ماء زمزم -؛ لأن الإنسان.
إذا شرب قائمًا تضلع من الماء أكثر، والله أعلم.   الخاتمة: المهم أن هذا الحديث من أطول الأحاديث في صفة حج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولهذا جعله الشيخ الألباني - رحمه الله - أصلاً لصفة حج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبنى منسكه المعروف المشهور على هذا، وزاد فيه ما زاد[18]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.


[1] أخرجه مسلم رقم: (1248) عن جابر وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما ولفظه قالا: " ونحن نصرخ بالحج صراخًا". [2] أخرجه البخاري رقم: (2992)، وأخرجه مسلم رقم: (2704) عن أبي موسى - رضي الله عنه - واللفظ لمسلم. [3] المُحَصِّب: بالضم ثم الفتح وصاد مهملة مشددة.
اسم مفعول من الحصباء أو الحصب، وهو الرمي بالحصى، وهي صغار الحصى وكباره: وهو موضع فيما بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب.
معجم البلدان (5/ 74). [4] أخرجه البخاري رقم: (6788)، ومسلم رقم: (1688) عن عائشة - رضي الله عنها. [5] أخرجه مسلم (2/ 943)، وغيره. [6] انظر الفتاوى (26/ 132). [7] أخرجه الترمذي رقم: (3585) عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما، وأحمد (2/ 210) ولفظه: " كان دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة لا إله إلا الله...
". [8] أخرجه البخاري رقم: (6502). [9] انظر المحلى (5/ 121). [10] أخرجه البخاري رقم: (631)، ومسلم رقم: (674). [11] المشعر الحرام: هو في قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)، وهو في مزدلفة وجمع يسمى بهما جميعا.
معجم البلدان (5/ 156). [12] أخرجه مسلم رقم: (1955). [13] أخرجه أبو داود (1/ 450)، والنسائي (5/ 220)، وابن ماجه (2/ 1007)، وأحمد (1/ 234، 311). [14] انظر: المغني (5/ 330). [15] أخرجه مسلم رقم: (1308) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ولفظه: (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى)). [16] أخرجه البخاري رقم: (6106)، وأخرجه مسلم رقم: (465) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما. [17] أخرجه ابن ماجه رقم: (1017) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.وضعفه الألباني - رحمه الله - في الإرواء رقم: (1125). [18] وانظر: إرواء الغليل رقم: (246).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣