أرشيف المقالات

ثمرات العلم

مدة قراءة المادة : 25 دقائق .
2ثمرات العلم
الحمد لله ﴿ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 61، 62]، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد: فينبغي على كل مسلم أن يطلب العلم النافع؛ لأمور كثيرة، منها: (1) طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم: قال سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]. أي: ليتعلَّموا العلم الشرعي، ويعلَموا معانيَه، ويفقَهوا أسرارَه، وليعلِّموا غيرهم، ولينذِروا قومهم إذا رجعوا إليهم،وفي هذا فضيلة العلم؛ خصوصًا الفقه في الدين، وأنه من أهم الأمور، وأن مَن تعلم علمًا، فعليه نشره وبثُّه في العباد، ونصيحتهم فيه؛ (تفسير السعدي صـ 312).
قال القرطبي - تعليقًا علي هذه الآية -: في هذا إيجابُ التفقُّه في الكتاب والسُّنة، وأنه على الكفاية دون الأعيان، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]؛ (تفسير القرطبي جـ 8 صـ273).
روى الشيخانِ عن معاوية بن أبي سفيان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا، يفقِّهْهُ في الدِّين))؛ (البخاري حديث 71 / مسلم 1037).
روى البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بلغوا عني ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علَيَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار))؛ (البخاري حديث: 3461).
(2) العلم يرفع منزلة صاحبه عند الله تعالى: قال سبحانه: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]. وقال جل شأنه: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].
(3) طلب العلم سبيل الجنة: روى مسلمٌ عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل اللهُ له به طريقًا إلى الجنة))؛ (مسلم حديث 2699).
(4) العلم يكسب صاحبه خشيهَ الله تعالى: قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
(5) العلم ميراث الأنبياء: روى الترمذي عن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورَّثوا العلم، فمَن أخذ به أخذ بحظٍّ وافر))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 2159).
روى الطبراني عن أبي هريرة: أنه مرَّ بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم وأنتم ها هنا، ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سِراعًا، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا،فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نرَ شيئًا يقسم! فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلُّون، وقومًا يتذاكرون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: وَيْحَكُمْ! فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم؛ (الطبراني في معجمه الأوسط جـ 2 صـ 114).
(6) الملائكة تحضُرُ مجالس العلم: روى مسلمٌ عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقعُدُ قومٌ يذكرون الله عز وجل إلا حفَّتْهم الملائكة (تُظلُّهم بأجنحتها)، وغشِيَتْهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكَرهم الله فيمن عنده))؛ (مسلم حديث 2700).
روى البخاريُّ عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذِّكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادَوْا: هلمُّوا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا))؛ (البخاري حديث 6408).
(7) العلم يكسب صاحبه نضارةً في الوجه: روى الترمذيُّ عن عبدالله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نضَّر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغه كما سمع؛ فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى مِن سامع))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي حديث 2140).
(8) العلم أشرف موروث: روى مسلمٌ عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له))؛ (مسلم حديث 1631).
(9) حاجة الناس إلى العلم: قال الإمامُ أحمدُ بن حنبل: الناس محتاجون إلى العلم أكثرَ مِن حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعامَ والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعددِ الأنفاس؛ (مفتاح دار السعادة لابن القيم جـ 1 صـ 77).
(10) أهل السمواتِ والأرض يَدْعون بالخير للعلماء: روى الترمذي عن أبي أمامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فضل العالم على العابد كفَضْلي على أدناكم))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ وملائكته وأهلَ السموات والأرَضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت - ليصلُّون على معلِّم الناسِ الخيرَ))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 2161).
(11) أهل العلم أحياءٌ في قلوب الناس: هذه حقيقة لا بد من أن نعترف بها، فما زال الناس يتذكرون أهل العلم من الصحابة والتابعين من أئمة الفقه والحديث؛ كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم كثير، فيترحَّمون عليهم، ويستغفرون لهم؛قال الشاعر: فاظفر بعلم تعِشْ حيًّا به أبدًا ♦♦♦ فالناسُ مَوْتى وأهل العلم أحياءُ
(12) معرفةُ العلوم الشرعية تساعدنا في التصدي للشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام ضد القرآن الكريم، وضد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وضد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
(13) طلب العلوم الشرعية - بفَهْم سلفنا الصالح - حصنٌ لكل مسلم ضد الأفكار المنحرفة والعقائد الفاسدة.
(14) العلم الشرعي يساعد على انتشار الفضيلة بين أفراد المجتمع المسلم، وذلك من خلال معرفة سِيَرِ الصحابة والتابعين، وغيرهم من أهل العلم العاملين بالقرآن والسنَّة بفهم سلَف الأمة.
(15) طلب العلوم الشرعية يساعدنا على إحياء سنَّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك من خلال محاربة البِدَع التي حذرنا منها نبينا محمدصلى الله عليه وسلم.
(16) طلب العلوم الشرعية يساعد المسلم على معرفة حق الله تعالى عليه، وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، وحق الصحابة الكرام، وحق علماء أهل السنَّة، وحق ولاة الأمور، وحق جيرانه الذين يحيطون به من المسلمين وغير المسلمين، فيُصبِح المجتمع قويًّا، مترابطًا، تنتشر بين أفراده المحبةُ والمودة، ويرفع منزلة الأمة بين باقي أمم العالم.
(17) العلم يرفع منزلة أصحابه بين الناس: العلم يرفع منزلة صاحبه في الدنيا، ما لا يرفعه المُلْكُ ولا المال ولا غيرهما؛ فالعلم يزيد الشريف شرفًا، ويرفع العبدَ المملوك حتى يُجلِسه مجالس الملوك،وهذه بعض النماذج المشرقة التي رفع العلمُ منزلتَها عند الناس: (1) عبدالله بن عباس: روى البخاري عن ابن عباس قال: كان عمر يُدخِلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لِمَ تُدخِل هذا معنا ولنا أبناءٌ مثله؟ فقال عمر: إنه مَن قد علمتم، فدعاه ذات يوم، فأدخله معهم، فما رُئِيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريَهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1]؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذاك تقول يا بن عباس؟ فقلت: لا، قال:فما تقول؟ قلت: هو أجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلَمه له، قال: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ [النصر: 1]، وذلك علامة أجلك، ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3]، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول؛ (البخاري حديث 4970).   (2) عبدالرحمن بن أبزى: روى مسلمٌ عن عامر بن واثلة: أن نافع بن عبدالحارث لقي عمرَ بعُسْفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: مَن استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابنَ أبزى،قال: ومَن ابنُ أبزى؟ قال: مولًى مِن موالينا،قال: فاستخلفتَ عليهم مولًى؟!قال: إنه قارئٌ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالمٌ بالفرائض،قال عمر: أما إن نبيَّكم صلى الله عليه وسلم قد قال: ((إن الله يرفَعُ بهذا الكتاب أقوامًا، ويضعُ به آخَرين))؛ (مسلم حديث 817).
(3) عِكرمةُ مولى ابن عباس: كان عكرمةُ مولًى لابن عباس، ومات ابنُ عباس وهو لا يزال مولًى، فاشتراه خالد بن يزيد بن معاوية مِن علي بن عبدالله بن عباس بأربعة آلاف دينار، فبلغ ذلك عكرمةَ، فأتى عليًّا، فقال: بِعْتَ علمَ أبيك بأربعة آلاف دينار؟ فذهَب عليٌّ إلى خالدٍ فاستقاله (أي: طلب منه أن يتراجع عن شرائه)، فأقاله، ثم أعتَق عكرمة،وكان عكرمة يقولُ: كان ابنُ عباس يجعل في رِجْلَيَّ الكبل ويعلِّمُني القرآن والسنن؛ (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2 صـ 103).
(4) نافع مولى ابن عمر: كان عبدُالله بن عمر قد أصاب نافعًا في بعض مغازيه، وعلى الرغم من أن نافعًا كان عبدًا، فإن الله قد مَنَّ عليه بالعلم،بعثه عمرُ بن عبدالعزيز إلى أهل مصرَ ليعلمهم السنن،قال نافع: خدمتُ ابنَ عمر ثلاثين سنة، فأعطاه ابن عامر فيَّ ثلاثين ألف درهم، فقال ابن عمر: إني أخاف أن تفتنني دراهمُ ابنِ عامر؛ اذهَبْ فأنت حرٌّ؛ (تذكرة الحفاظ للذهبي جـ 1 صـ 100: 99). (5) مالك بن أنس: قال الإمام مالك بن أنس: شاورني هارون الرشيد في ثلاث: في أن يعلِّقَ الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه، وفي أن ينقض منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويجعله مِن جوهر وذهب وفضة، وفي أن يقدِّمَ نافع بن أبي نعيم إمامًا يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا أمير المؤمنين، أما تعليقُ الموطأ في الكعبة فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في الفروع وتفرَّقوا في الآفاق، وكلٌّ عند نفسه مصيبٌ، وأما نقضُ منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخاذك إياه من جوهر وذهب وفضة، فلا أرى أن تحرمَ الناسَ أثرَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأما تقدِمَتُك نافعًا إمامًا يصلي بالناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن نافعًا إمامٌ في القراءة، لا يؤمَنُ أن تندُرَ منه نادرةٌ في المحراب فتُحفَظَ عليه، قال: الخليفة هارون الرشيد: وفَّقَكَ اللهُ يا أبا عبدِالله؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 6 صـ 332).
(6) أبو داود السِّجِسْتاني: ذهب سهلُ بن عبدالله التستري إلى أبي داود صاحب السنن، فقال سهلٌ لأبي داود: أخرِجْ لي لسانَك هذا الذي حدثت به أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبِّلَه، فأخرجه له؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 13 صـ 331).
(7) محمد بن عبدالرحمن الأوقص: قال إبراهيم الحربي: كانت عنقُ محمد بن عبدالرحمن الأوقص داخلةً في بدنه، وكان مَنْكِباه خارجينِ، فقالت له أمُّه: يا بني، لا تكونُ في مجلسِ قومٍ إلا كنتَ المضحوكَ منه، المسخورَ به؛ فعليك بطلب العلم؛ فإنه يرفَعُك؛ فطلَبَ العلم واجتهد فيه حتى تولى قضاء مكة عشرين سنة، مرَّتْ به امرأة وهو يقول: اللهم أعتِقْ رقبتي من النار، فقالت له: يا بن أخي، وأي رقبة لك؟!؛ (مفتاح دار السعادة لابن القيم جـ 1 صـ 197).
(8) أمير المؤمنين هارون الرشيد: قال يحيى بن أكثم: قال لي هارون الرشيد: ما أنبل المراتب؟ قلت: ما أنت فيه يا أمير المؤمنين،قال: أتعرف أجَلَّ مني؟ قلت: لا،قال: لكني أعرفه! رجلٌ في حلقة يقول: حدثنا فلانٌ عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا أمير المؤمنين، أهذا خيرٌ منك وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليُّ عهد المؤمنين؟! قال: نعم، ويلك! هذا خير مني؛ لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت أبدًا، ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر؛ (مفتاح دار السعادة لابن القيم جـ 1 صـ 197).
(9) أبو العاليةِ: قال أبو العاليةِ: كنت آتي ابن عباس وهو على سريره، وحوله نفرٌ من قريش، فيأخذ بيدي فيُجلِسُني معه على السرير، فيتغامَز بي القُرَشيُّون، ففطن لهم ابن عباس، فقال: هكذا العلم، يزيد الشريفَ شرَفًا، ويُجلِسُ الملوكَ على الأسِرَّة؛ (مفتاح دار السعادة لابن القيم جـ 1 صـ 196).
(10) عطاء بن أبي رباح: قال الأصمعيُّ: دخَل عطاء بن أبي رباح على الخليفة عبدالملك بن مروان، وهو جالس على سريره، وحوله الأشراف، وذلك بمكة في وقت حَجِّه، فلما بصُرَ به الخليفةُ قام إليه، فسلم عليه، وأجلسه معه على السرير، وقعد بين يديه، وقال: يا أبا محمد، ما حاجتُك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، اتقِ الله في حرَم الله، وحرَم رسوله، فتعاهَّدْه بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار؛ فإنك بهم جلستَ هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور؛ فإنهم حِصن المسلمين، وتفَّقَدْ أمور المسلمين؛ فإنك وحدك المسؤولُ عنهم، واتقِ الله فيمن على بابك فلا تغفُلْ عنهم، ولا تغلق دونهم بابك، فقال له الخليفة: أفعلُ،ثم نهض وقام، فقبض عليه عبدالملك، وقال: يا أبا محمد، إنما سألتَنا حوائج غيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك؟ قال: ما لي إلى مخلوق حاجةٌ، ثم خرج،فقال الخليفة عبدالملك بن مروان: هذا والله الشرف، هذا والله السؤدُد؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 5 صـ 85: 84).
(11) طاوس بن كيسان: جاء ابن الخليفة سليمان بن عبدالملك فجلس بجوار طاوس، فلم يلتفِتْ إليه طاوس، فقيل له: جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفِتْ إليه؟ فقال: أردتُ أن يعلَمَ أن لله عبادًا يزهدون فيما بين يديه؛ (حليه الأولياء لأبي نعيم جـ 4 صـ 16)، (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ 2 صـ 287).   (12) العزُّ بن عبدالسلام: أمسك العزُّ بن عبدالسلام بلجام فرس السلطان في السوق، وأنكَر عليه وجود الخمر في البلاد، وقال له: أبوكَ خيرٌ منك، فلم نرَ الخمر في عهده، وشدَّد عليه النكير أمام الناس، والسلطان لا يزيد على أن يعتذر إليه، ويعِده بتنفيذ ما طلب، ثم طلب مِن العز بن عبدالسلام أن يترك بغلتَه، فلم يفعَلْ إلا بعد أن أصدر السلطان أمرًا بإغلاق جميع محلات الخمور في البلاد،فلمَّا انصرف السلطان قال له الناس: يا عزُّ، إن هذا السلطانَ ظالمٌ؛ ألم تخشَ بَطْشَه؟ فقال العز: إني تصورتُ عظمةَ الله، فأصبح السلطان أمامي كالقط؛ (العلم ضرورة شرعية لناصر العمر صـ 43).
(13) شيخ الإسلام أحمدُ ابن تيميَّةَ: لما قدم قازان، ملك التتار، لغزو دمشق، خرج إليه ابن تيمية، وقال له: إنك تزعم أنك مسلمٌ ومعك قاضٍ وإمام ومؤذِّن، وها أنت تغزونا وأبوك وجدك كانا كافرين وما فعلا فِعلك؟! بل عاهدَا فوفَّيَا، وأنت عاهدتَ فغدرتَ، فانكسر الملك، وطلب من ابن تيمية أن يدعوَ له، وانصرف عن غزو المسلمين، وكان الناس يعتقدون أن ملك التتار سوف يبطش بشيخ الإسلام ابن تيمية؛ (العلم ضرورة شرعية لناصر العمر صـ 43).
اقتران العلم بالعمل: يجب على طلاب العلوم الشرعية أن يقرنوا العلم بالعمل؛ فإن التطبيقَ العملي للعلم هو المقصود مِن تحصيل العلوم الشرعية، ويجعل لهذا العلم تأثيرًا في قلوب الناس، وبدون هذا التطبيق العملي لا قيمةَ لهذه العلوم، ولا فائدةَ منها لصاحبها؛ولذا حثَّنا القرآن الكريم على اقتران العلم بالعمل، وحذَّرنا من مخالفة أفعالنا لأقوالنا، وقد أكَّدت السنَّة النبوية ذلك، وكذلك سلفُنا الصالح. (1) قال الله تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44].
(2) وقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3]. قال ابن كثير: هذا إنكارٌ على مَن يَعِدُ وعدًا أو يقول قولًا لا يَفِي به؛ (تفسير ابن كثير جـ 4 صـ 357). وقال الشوكانيُّ عن هذه الآيات أيضًا: هذا استفهامٌ للتقريع والتوبيخ؛ أي: لِمَ تقولون مِن الخير ما لا تفعلونه؟!؛ (فتح القدير للشوكاني جـ 5 صـ 312).
(3) وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [البقرة: 121]. قال قتادة: هم أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم،وقال عكرمةُ: قوله: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ [البقرة: 121]؛ أي: يتبعونه حقَّ اتباعه، باتباع الأمر والنَّهي، فيُحلُّون حلاله، ويُحرِّمون حرامه، ويعمَلون بما يتضمنه؛ (تفسير القرطبي جـ 2 صـ 95).
(4) وقال سبحانه: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 5].
قال ابن كثير: هذه الآية ذمٌّ لليهود الذين أُعطُوا التوراة وحملوها للعمل بها، ثم لم يعملوا بها، مَثَلُهم في ذلك كمَثَلِ الحمار يحمل أسفارًا؛ أي: كمَثَلِ الحمار إذا حمَل كتبًا لا يدري ما فيها؛ (تفسير ابن كثير جـ 4 صـ 389).
روى الشيخان عن أسامة بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندَلِقُ أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أيْ فلانُ، ما شأنك؟! أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكَر وآتيه))؛ (البخاري حديث 3267/ مسلم حديث 2989).
روى الترمذي عن أبي برزة الأسلمي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزولُ قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل: عن عمره؛ فيمَ أفناه؟ وعن علمه؛ فيم فعل؟ وعن ماله؛ من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه؛ فيمَ أبلاه))؛ (حديث صحيح) (صحيح الترمذي للألباني حديث 1970).
روى مسلمٌ عن زيد بن أرقمَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها))؛ (مسلم حديث 2722).
أقوال السلف الصالح في اقتران العلم بالعمل: سوف نذكر بعض أقوال سلفنا الصالح في اقتران العلم بالعمل: (1) قال أبو هريرة: مَثَلُ علمٍ لا يُعمَلُ به كمَثَلِ كنزٍ لا يُنفَق منه في سبيل الله؛ (اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي صـ 165). (2) قال أبو الدرداء: إنما أخاف أن يكونَ أولَ ما يسأَلُني عنه ربي أن يقول: قد علمتَ؛ فما عمِلْتَ فيما علِمْتَ؟!؛ (اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي صـ 176). (3) قال الزُّهريُّ: لا يُرضيَنَّ الناسَ قولُ عالمٍ لا يعمَل، ولا عاملٍ لا يعلَم؛ (اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي صـ 166). (4) قال مالكُ بن دينار: العالمُ الذي لا يعمل بعِلمه، بمنزله الصَّفا إذا وقَع عليه القَطْرُ، زَلِقَ عنه؛ (اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي صـ 192). (5) قال لقمان لابنه: يا بنيَّ، لا تتعلَّمْ ما لا تعلَمُ؛ حتى تعمَلَ بما تعلَمُ؛ (اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي صـ 187). (6) قال الفضيل بن عياض: لا يزال العالم جاهلًا بما علِم حتى يعمَل به، فإذا عمِل به كان عالِمًا؛ (اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي صـ 174). (7) قال سهلُ بن عبدالله التستري: العلم كلُّه للدُّنيا، والعمل به للآخرة. وقال سهل أيضًا: الناس كلُّهم سُكارى إلا العلماءَ، والعلماء كلُّهم حيارَى إلا مَن عمِل بعلمه؛ (اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي صـ 168). وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالَمين.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدينِ



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١