مسألة التجنيس الفرنسي
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
أتى على دولة فرنسة قرن كامل منذ تم لها الاستيلاء على قطر الجزائر
الإسلامي، وهي تدبر المكايد لتحويل أهله عن دينهم، وكان الطريق المعبد لها
ولغيرها من دول الإفرنج الدعوة إلى النصرانية التي يسمونها (التبشير) ولهم فيها
فنون وشؤون، والتعليم المدرسي، وهو قسمان تبشيري وإلحادي، والتعليم لا يفيد
إلا في الأحداث، لذلك ابتدعت فرنسة طريقين آخرين لتحويل المسلمين الكبار
الراشدين عن الإسلام، آخرهما انتزاع شعب البربر المسلم من الإسلام بالقوة
العسكرية القاهرة، وهو قريب العهد، وأولهما تجنيسهم بجنسيتها الذي يكون
لصاحبه جميع ما للفرنسي الأصلي من الحقوق القانونية وعليه ما عليهم.
وهو موضوع حديثنا في هذا الفصل، ومقتضى هذا التجنيس أن يمرق المسلم
من جنسيته الإسلامية ويؤثر أحكام القانون الفرنسي على أحكام كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم في النكاح والطلاق والإرث وغير ذلك، وهو ارتداد
عن الإسلام صريح لا يحتمل التأويل، ولذلك لم يكن يقدم عليه إلا من لا حظَّ له من
الإسلام إلا التسمية بالأعلام التي لا تزال خاصة بالمسلمين كمحمد ومحمود
ومصطفى، وإنما يقدم عليه من غير المارقين المنافقين من لا يعلمون في الغالب
أنهم يكونون به كفارًا خالدين في جهنم، فإن سلطان الإسلام على قلوب البشر يمنع
أجهلهم بعقائده وأحكامه أن يؤثر عليه غيره، ويرتد عنه ارتدادًا يكون به عدوًّا لله
ورسوله صلى الله عليه وسلم ويحرم على المسلمين أن يزوجوه مسلمة وأن يدفنوه
في مقابرهم، حتى لا تجاور روحه النجسة أرواح موتاهم الطاهرة، فكان الجاهل
بهذه الأحكام وبما هو أشد منها في الإسلام يرى بأنه يمكنه أن يتجنس بالجنسية
الفرنسية ويظل مسلمًا، وأن هذا ليس إلا ذنبًا يمكن أن يغفره الله له بالكفارات
وغيرها؛ لأنه لم يرغب فيه إلا ليدفع عن نفسه ظلم حكومته للمسلمين وإرهاقها لهم
في أمور دينهم ودنياهم، ويتمتع بمساواة الفرنسيين في حقوقهم، على أن هذه
الحقوق لا تكون تامة له، وإن عادى المسلمين، وعبد المسيح وأمه والقديسين، أو
كفر كملاحدتهم بالله وملائكته وكتبه ورسله أجمعين.
ثم إن فرنسة أدخلت خديعة التجنيس في المملكة التونسية منذ عشر سنين كما
ذكرنا مخالفة في ذلك شروط الحماية المعقودة بينها، وبين حكومة باي تونس ومنها
المحافظة على جنسية التونسيين الإسلامية، ولكنها رأت أن الذين يقبلون جنسيتها
من أهل تونس أقل ممن يقبلونها من أهل الجزائر؛ لأن التونسيين أعلم بأحكام
الإسلام من الجزائريين، ولهم حكومة ملية صورية، فحاولت حمل الناس عليه بقوة
السيطرة الرسمية، فخذلت إذ كان فعلها إيقاظًا للشعب كله، فهب يدافع عن دينه،
فقاومته حكومة الحماية بقوتها، وقوة الحكومة المحلية التي هي آلة بيدها، فلم تزده
القوتان الرسميتان إلا شجاعة وإقدامًا وثباتًا، سنة الله في يقظة الشعوب من رقادها
بالاضطهاد والقهر.
دفنت السلطة متجنسًا بعد آخر في مقابر المسلمين بالقوة العسكرية، وبنت
قبورهم بالأسمنت والحديد كما تبني الحصون الحربية، وجعلت لها حرسًا من الجند
شاكي السلاح، فدرى بالكارثة من لم يكن يدري من العوام والخواص، ففهم الشعب
المؤلف من ميلوني مسلم أنه يراد إخراجه من دينه بالقوة القاهرة، فهاج هيجة عامة
لم يبال فيها ما تكون العاقبة، قيل له: إن الحكومة أصدرت فتوى شرعية من
شيخي الإسلام شيخ الجامع الأعظم، وهو المفتي المالكي ومفتي الحنفية فزاده ذلك
هياجًا؛ لأن مسألة ارتداد المتجنس بالجنسية الفرنسية صارت عنده من المسائل
المعلومة بالضرورة لما سبق لنا ولغيرنا من الإفتاء بذلك من قبل ولإفتاء بعض
علمائهم وعلماء الشرق في هذا العهد، والشعوب الإسلامية لا تقيم وزنًا للعلماء
الرسميين الذين يرونهم آلات في أيدي الحكومات الإسلامية، ولا سيما الخاضعة
لنفوذ أجنبي، وناهيك بالخضوع للنفوذ الفرنسي.
كان أعظم مظهر لهيجان الشعب التونسي إضراب طلاب العلم في جامعة
الزيتونة الأعظم وأكثر شيوخهم عن الدروس، ومشاركتهم لسائر الأهالي في الإنكار
بالمظاهرات وكانت المظاهرات العامة عظيمة، وكانت الخطب والأناشيد التي
ألقيت فيها جد مؤثرة، أنذرت الحكومة الزيتونيين وغيرهم بطشتها بهم فتماروا
بالنذر، ولم يبالوا العقاب المنتظر، وأنشأت محكمة عرفية لعقابهم بالفعل فما زادتهم
إلا إقدامًا وإيمانًا، وإنه ليجب علينا أن نوجه نظر الأمة الإسلامية في هذه المسألة
إلى قضيتين: إحداهما دينية تعبدية، والثانية إسلامية سياسية شرعية.
مسألة التجنس من الوجهة الدينية التعبدية:
فأما الدينية المحض فإنني أرى بعض المسلمين قد شبه عليهم الحكم كون
تجنس المسلم بالجنسية الفرنسية ونحوها يُعَدُّ ردة ومروقًا في دين الإسلام ويرجحون
أنه معصية من كبائر المعاصي التي يمكن أن يقترفها صحيح الإيمان، كالزنا
والسرقة وشرب الخمر وغيرها من الكبائر التي يتحامى أهل السنة تكفير المسلم بها؛
إذ يقولون في كتب العقائد: ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، وأن قوله صلى الله
عليه وسلم: (لا يزني الزاني حيث يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين
يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، وهو متفق على
صحته يجب تأويله بنفي الإيمان الكامل أو بغير ذلك.
وقد قال لي أحد أصدقائي من فضلاء المسلمين: إذا كان الذي يقبل الجنسية
الفرنسية أو غيرها من جنسيات الدول غير الإسلامية يُعَدُّ كافرًا فلا يصح إسلام أحد
من الذين يسلمون في أوربة وأمريكة وهم كثيرون ويزدادون في هذه السنين عامًا
بعد عام، وإن لي أصدقاء منهم أثق بصحة إسلامهم وكانوا يرجعون إليَّ في كثير
من مسائل العبادات والأحكام الإسلامية التي تخفى عليهم إذ كنت بينهم.
قلت له: إن الفرق عظيم بين الفرنسي الأصلي المقيم في بلاده تحت سلطان
دولته إذا أسلم، وكان قانون دولته يكرهه على أحكام غير أحكام الإسلام، وبين
المسلم الأصلي الذي يختار لنفسه ترك أحكام الشرع حتى المجمع عليها المعلومة من
الدين بالضرورة ويستبدل بها أحكام الجنسية التي يختارها عليها.
إن صفة الفرنسي الذي يهتدي إلى الإسلام أنه قد آمن بعقائده وأخذ بعباداته،
وفضل شريعته على كل ما يخالفها من شرائع دولته، فيجب عليه العمل بكل ما
يقدر عليه منها وما يعجز عنه وأمكنه أن ينفذه بصورة لا تعارضها حكومته فعل،
كالوصية بجعل تركته من بعده لوارثيه الشرعيين في حكم الإسلام، وما عجز عنه
من كل وجه يكون معذورًا فيه.
وأما صفة المسلم الذي يختار الجنسية الفرنسية وأمثالها على الإسلامية فهو أنه
قد فضَّل شرع المكذبين لله ولكتابه ولرسوله خاتم النبيين على شرع الله، وآثر
الاعتزاز بهم على الاعتزاز بدين الله، وأعان المعتدين على المسلمين في دينهم
وشرعهم وملكهم فيما يبغونه منهم، وما يبغون إلا محو الإسلام من الأرض دينًا
وتشريعًا وسلطانًا، وجعل الآخذين به عبيدًا أذلاء لهم، وهذا عين وَلاَيَتهم التي نهى
الله تعالى عنها وقال: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) فأنى لمسلم
أن يجعله من المسلمين بعد إخراج الله تعالى إياه منهم وجعله من أعدائهم؟
ومن هذا الوجه كتبت عند البحث في هذه المسألة أول مرة أن الذي يقبل هذه
الجنسية مختارًا عالمًا بمعناها وأحكامها لا يكون مرتدًّا عن الإسلام بقبولها، بل لا
بد أن يكون كافرًا بما جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه من قبلها.
فإن المؤمن الموقن لا يمكنه أن يفعل ما ينافي إيمانه عامدًا متعمدًا، وأما المعاصي
التي قال علماء السنة: إنها لا تنقض الإيمان فهي ما يفعله المؤمن بجهالة من
ثوران شهوة أو غضب عليه تنسيه وعيد الله تعالى على الذنب، أو تضعف
عزيمته أن تتغلب على هوى النفس، كما قيل في تأويل حديث (لا يزني الزاني
حين يزني وهو مؤمن) إلخ وتأويل معصية آدم إذ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا
إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طه: 115) حتى إذا تذكر الوعيد،
دفعه عنه بضرب من التأويل، كالرجاء في المغفرة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً
أَلِيماً} (النساء: 17-18) فليراجع ما كتبناه في أحكامهما من الجزء الرابع من
تفسير المنار من شاء.
والآيات التي تدل على كفر هذا المتجنس من كتاب الله تعالى غير آية التولي
التي أشرنا إليه آنفا، وما في معناها كثيرة أظهرها في هذا المقام قوله تعالى: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60) الآيات، فهي
صريحة في أن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وهو كل ما يخالف حكم
الله من أحكام المخالفين إنما هم منافقون غير مؤمنين بما أنزل الله وإن لم يتحاكموا
بالفعل؛ لأن الإرادة وحدها تنافي الإيمان، فكيف إذا نفذها مريدها بالفعل تنفيذًا
دائمًا؟ فراجع تفسيرها في الجزء الخامس من تفسير المنار.
ومنها قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:
115) فإن هذا المتجنس مشاق للرسول باختياره شرع الأجنبي على شرع الله على
لسانه، ومتبع غير سبيل المؤمنين في أزواجهم من زواج وطلاق وما يتعلق بهما،
وفي فرائض المواريث وغير ذلك من الأحكام الشخصية والمدنية، بل هو بهذا
التجنس راضٍ ببذل ماله ونفسه في قتال المسلمين إذا دعته دولته إلى ذلك وهي
تدعوه عند الحاجة قطعًا.
ففي المسألة أحكام كثيرة مجمع عليها معلومة من دين الإسلام بالضرورة
يستحل المتجنس مخالفتها، واستحلالها كفر بالإجماع، والأصل في الاستحلال عدم
المبالاة بأمر الله ونهيه لا النطق باللسان فقط، وقد قال الفقهاء: إن من اعتقد قبح
شيء من هذه الأحكام القطعية أو فضَّل غيرها يكون مرتدًّا عن الإسلام، وهذه
مسألة في غاية البداهة.
مسألة التجنس من الوجهة الشرعية السياسية:
وأما القضية السياسية الإسلامية في المسألة، وقد أشرنا إليها في عرض
الكلام فنوجز الكلام فيها كالقضية الأولى ومجال التطويل فيها أوسع فنقول:
إن الإسلام دين روحاني، ونظام دولي اجتماعي سياسي، وكل جانب من
جانبيه هذين معزز للآخر مكمل له، ولذلك كانت غايته سعادة الدارين الدنيا
والآخرة فموضوع الجانب الأول تزكية النفس البشرية بالعقائد الصحيحة والعبادات
المعقولة، والأخلاق العالية، والأعمال الشريفة النافعة؛ لتكون أهلا لجوار الله
تعالى في جنات الآخرة، وموضوع النظام الدولي حماية هذا الدين وكفالته والدفاع
عنه وعن أهله وأوطانه بالقوة، وإقامة الحق والعدل والحرية بين أهله وجميع
التابعين لدولته من غير أهله؛ لإقامة العمران، وإظهار سنن الله وأسرار خلقه
بترقي نوع الإنسان، فالجانب التعبدي الروحاني من الإسلام يكمل النظام المدني
بنفخ روح الصدق والإخلاص فيه حتى لا تكون السياسة وسيلة لمطامع الدنيا
وشهواتها وظلم الأقوياء للضعفاء فيها، والنظام المدني السياسي يكفل الجانب
التعبدي ويمكنه بجعل المتعبدين به أحرارًا أعزاء، آمنين على أنفسهم في إقامته
لوجه الله تعالى لا يخافون فيه لومة لائم، ولا اعتداء معتدٍ، كما بين الله لهم ذلك
فيما وعدهم به من استخلافهم في الأرض بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً
وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55)
ومن المعلوم بالبداهة أن المتجنس بالجنسية الفرنسية إن أمكن عقلا وصح
شرعًا أن يظل متمسكًا بالجانب الروحي من الإسلام بأن يكون مؤمنًا بأن كل ما جاء
به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين حق يجب اتباعه فيه بتأوله أنه يقدر على
القيام بعباداته، ويكون عاصيًا معذورًا، فلا يمكن عقلاً ولا شرعًا أن يدعي أنه
يظل مستمسكًا بالجانب الآخر من الإسلام، وهو السياسي الاجتماعي، فإنه لا معنى
للتجنس إلا خروجه منه، ومن المعلوم بالضرورة أن كلا من جانبي الإسلام شرع
الله ودينه، فالمروق من هذا مروق من ذاك وخذل له وجناية عليه.
أيها المسلمون الغافلون!
لماذا فرض الله الجهاد عليكم بأموالكم وأنفسكم وجعله أقوى آيات الإيمان؟
أليس لتأييد دولة الإسلام وحكمه، والدفاع عن داره وأهله؟ لماذا فرض الله الهجرة
لحرية العقيدة والوجدان، قبل أن يفرض الجهاد؟ أليس لأجل تأسيس دولة الإسلام؟
لماذا فرض الله الولاية والبراءة وجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض في النصرة
كما أن الكافرين بعضهم أولياء بعض عليهم؟ ألم تعلموا أن الله تعالى جعل من
شروط صحة الإسلام: الإيمان بالكتاب كله، وجعل الكفر ببعضه كالكفر به كله،
ولم يفرق بين التعبدي والسياسي منه؟
ومن أدلة هذا وشواهده أن الله وبَّخ اليهود واحتج عليهم في قتالهم مع مخالفيهم
من العرب لإخوانهم المحالفين لغيرهم ثم فدائهم لأسراهم بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) فهو
تعالى قد سمى مخالفتهم لشريعتهم في المسائل الحربية كفرًا جزاؤه الخزي والذل في
الدنيا وأشد عذاب النار في الآخرة، أفيُعَدُّ مثله من المسلمين إيمانًا وإسلامًا ويجعل
جزاؤه عز الدنيا وسعادة الآخرة؟ وهل حال المسلمين في تونس وغيرها تدل على
ذلك؟
أتريدون مع هذا أن تجدوا للخارجين من ولاية الإسلام وجنسيته إلى ولاية
المحادين له مخرجًا لفظيًّا من أحكام الردة لإثبات إسلامه ودفنه في مقابر المسلمين
خداعًا لعامتهم ليقبلوا الخروج مما خرج منه، والدخول فيما دخل فيه، إلى أن
يزول الإسلام كله من بلادكم بجهل عامتكم، ونفاق خاصتكم؟
أرأيتم هذه الصراحة في بيان حقيقة دينكم التي قلما يتجرأ غير صاحب المنار
على الجهر بها في صحيفة تنشر؟ إنها لهي بعض ما يجب أن تعلموه وتعملوا به،
ولو صرح لكم بكل ما يجب عليكم لرجت الأرض رجًّا، وقامت عليه جميع دول
أوربة وصحفها بل على الإسلام كله، على أنه قد بين كل شيء في فرص أخرى،
ولكن أكثر المسلمين لا يقرءون، وأكثر الذين يقرءون منهم لا يفقهون، وأكثر
الذين يفقهون على قلتهم في أنفسهم متحيرون، ولا يدرون ما يعملون {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا
لَهُمُ القَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص: 51)
وأما أنتم أيها الفرنسيس فحسبكم بغيًا وفجورًا، وحسبكم اضطهادًا لدين الحق،
واستعبادًا للمستضعفين من الخلق، واعلموا أن الإسلام لا يزول بزوال الدولة
العثمانية، وارتداد الحكومة التركية، وأنكم لم تصيروا آلهة العالم بضعف الدولة
الألمانية، وأن صداقة الإسلام خير لكم من عداوته، فاطلبوها تجدوها، قبل أن
تحتاجوا إليها فلا تجدوها والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.