أرشيف المقالات

الدليل على وقوع الحساب

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
الدليل على وقوع الحساب


قال المصنف رحمه الله:
(والدليل قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31]، وهذه الآية دليل على وقوع الحساب، فالآية تدل بمنطوقها على الجزاء، وتدل بمفهومها على الحساب؛ لتوقف الجزاء عليه [1].
 
وقول المصنف: (وبعد البعث: محاسبون): ظاهره العموم، ولكن دلت الأدلة على أن هناك جنساً من الخلق استثنوا من الحساب، ومنهم: السبعون ألف الذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب، كما ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي، ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى # وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)[2]؛ وإذا ثبت أن طائفة من أتباع الأنبياء يدخلون الجنة بغير حساب؛ فكيف بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وعليه فالأنبياء لا حساب عليهم، وكذلك أطفال المؤمنين، وكذلك العشرة المبشرين بالجنة، وهذا في حساب المناقشة [3].
 
فالحساب له درجتان[4]:
أحدهما: الحساب اليسير، وهو: عرض الأعمال على العامل وتعريفه بها، وفيه تُعرض أعمال العبد عليه، ويُقرَّر بها، وصفته: أن يخلو به الله جل وعلا، ويقرره بذنوبه، فحساب المؤمن الذي غفر الله له ذنوبه إنما هو عرض أعماله عليه، وهذا ليس لكل الناس وإنما للمؤمنين، وليس كل المؤمنين بل المؤمن الذي شاء الله أن يستر ذنوبه ويتجاوز عنه، يحاسبه محاسبة سرية بينه وبينه.
 
والآخر: الحساب العسير، ويراد به الموازنة بين الحسنات والسيئات، وهذا يتضمن المناقشة، وفيه يُناقش العبد، وتُستقصى عليه أعماله، ولا يناقش اللهُ أحداً يوم القيامة إلا عذَّبه؛ كما في الحديث عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نوقش الحساب عُذِّب)، قالت: قلت: أليس يقول الله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 8]،قال: (ذلك العرض)[5].
 
وقد أجمل القرطبي -رحمه الله تعالى- الجواب عن هذه الأصناف بالنسبة للحساب، فقسَّمهم إلى ثلاث فرق فقال: «فرقة: لا يحاسبون أصلاً، وفرقة: تحاسب حساباً يسيراً، وهما من المؤمنين؛ وفرقة: تحاسب حساباً شديداً، يكون منها مسلم وكافر»[6].
 
والله جل جلاله يحاسب الخلق في ساعة واحدة لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا[7]، وأدلة هذا كثيرة في الكتاب، والسنة، وقد تنازع أهل السنة في الكفار هل يحاسبون أم لا؟ وفصل الخطاب إثبات الحساب، بمعنى: عد الأعمال، وإحصائها، وعرضها عليهم، لا بمعنى إثبات حسنات نافعة لهم في ثواب يوم القيامة تقابل سيئاتهم[8]؛ فالحساب قد يراد به: الإحاطة بالأعمال وكتابتها في الصحف، وعرضها على الكفار، وتوبيخهم على ما عملوه، وزيادة العذاب ونقصه بزيادة الكفر ونقصه، فهذا الضرب من الحساب ثابت بالاتفاق؛ وقد يراد بالحساب: وزن الحسنات بالسيئات ليتبين أيهما أرجح: فالكافر لا حسنات له توزن بسيئاته؛ إذ إن أعماله كلها حابطة، وإنما توزن؛ لتظهر خفة موازينه، لا ليتبين رجحان حسنات له؛ وقد يراد بالحساب أن الله: يكلمهم، فالقرآن والحديث يدلان على أن الله يكلمهم تكليم توبيخ وتقريع وتبكيت، لا تكليم تقريب وتكريم ورحمة[9]، وفائدة حسابهم: بيان تفاوتهم في العقاب، فعقاب من كثرت سيئاته أعظم من عقاب من قلت سيئاته، ومن كان له حسنات خفف عنه العذاب؛ كما أن أبا طالب أخف عذاباً من أبي لهب، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ﴾ [النحل: 88][10]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ﴾ [التوبة: 37][11]، والنار دركات، فإذا كان بعض الكفار عذابه أشد عذاباً من بعض، لكثرة سيئاته، وقلة حسناته؛ كان الحساب لبيان مراتب العذاب، لا لأجل دخول الجنة[12].
 

[1] تعليقات على ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالله العصيمي (55).

[2]أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: من لم يرق، برقم (5752)؛ وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب، برقم (374).

[3] لوامع الأنوار البهية، محمد بن أحمد السفاريني (3/60).

[4] ينظر: مجموع الفتاوى (4/305).

[5]أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: من نوقش الحساب عذب، برقم (6536)؛ وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إثبات الحساب، برقم (79)، والآية [الانشقاق: 8].

[6] التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1/676)، الناشر: مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض.

[7] ينظر: درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية (4/129)، تحقيق: د.
محمد رشاد سالم، ط.
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

[8] المصدر السابق؛ ومجموع الفتاوى (4/305).

[9] ينظر: مجموع الفتاوى (6/487).

[10]سورة النحل، الآية [88].

[11]سورة التوبة، الآية [37].

[12] ينظر: مجموع الفتاوى (4/306).

شارك الخبر

المرئيات-١