سفيان بن عيينة محدث الحرم المكي
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
الإمام الجليل أبو محمد سفيان بن عُيَيْنَة الكوفي ثم المكي أحد أَئِمَّة الْإِسْلَام، وهو علم من أعلام أتباع التابعين ومحدث جليل، مجمع على صحة حديثه وروايته، وحافظ عصره وشيخ زمانه، اشتهر بزهده وعبادته، وعلمه الغزير ورأيه المستنير.
وقد طلب سفيان الحديث وهو حدث بل غلام ولقي الكبار وحمل عنهم علما، ومنحه الله طول العمر، فانتهى إليه علو الإسناد، مع الضبط والإتقان، فصار غاية المحدثين، ورُحِلَ إليه من البلاد، وألحق الأحفاد بالأجداد، وتوافد عليه من أطراف العالم الإسلامي خلق لا يحصون للرواية والتحديث فلا يكاد يوجد محدث من معاصريه إلا وقد روى عنه.
ولقد كان كثير من طلبة الحديث يتكلفون الحج وما المحرك لهم سوى لقاء سفيان بن عيينة لإمامته وعلو إسناده.
ولادته ونشأته
هو سفيان بن عيينة بن أبى عمران ميمون الهلالي، أبو محمد الأعور.
ولد في الكوفة في 15 من شعبان سنة 107هـ، وكان له إخوة أربعة محمد وآدم وعمران وإبراهيم بنو عيينة حمل عن خمستهم العلم عدادهم جميعا في أهل مكة ومولدهم كلهم بالكوفة رووا الحديث كذلك وإن لم يصلوا فيه إلى مرتبة سفيان، رحمهم الله جميعاً. سبب انتقاله من الكوفة إلى مكة: قال سفيان بن عُيَيْنة: كان أبي صَيْرَفِيًّا بالكوفة، فرَكِبَه الدَّيْنُ، فحَمَلَنا إلى مكَّة، فلما رُحنا إلى المسجد لصلاة الظُّهر، وصِرتُ إلى باب المسجد، إذا شيخٌ على حِمارٍ، فقال لي: يا غلامُ، أمسِك عليَّ هذا الحِمارَ حتى أَدخلَ المسجدَ فأركعَ.
فقلتُ: ما أنا بفاعل، أو تُحَدِّثَني.
قال: وما تصنعُ أنت بالحديث؟ واستصغرَني، فقلتُ: حدِّثني فحدَّثني بثمانية أحاديث، فأمسكتُ حمارَه، وجعلتُ أتحفَّظُ ما حدَّثني به، فلما صلَّى وخرج، قال: ما نَفَعَك ما حدَّثْتُك، حَبَسْتَني. فقلتُ: حدَّثْتَني بكذا، وحدَّثْتَني بكذا.
فرددتُ عليه جميعَ ما حدَّثني به، فقال: بارك اللهُ فيك، تعالَ غدًا إلى المجلس.
فإذا هو عمرو بنُ دينار.
أكمل سفيان بن عيينة حفظ القرآن، وطلب الحديث وهو صغير، فسمع عن كثير من التابعين من المحدثين والفقهاء، ومن أبرزهم المحدث الفقيه الثقة عمرو بن دينار، والمولود بصنعاء سنة 46 والمتوفى بمكة سنة 126، وكان عليه مدار إسناد أهل مكة، ولازمه سفيان وهو صغير، وذكر سفيان بن عيينة أنه روى عنه 950 حديثاً. قال سفيان بن عيينة : جلست إلى عمرو بن دينار سنين فما قال لي كلمة تسوءني قط. وصية أبيه قال: لمَّا بلغتُ خمسَ عشرةَ سنةً دعاني أبي فقال: يا سفيان، قد انقطعت عنك شرائعُ الصّبا، فاحتفظ بالخير تكن من أهله، ولا يَغُرَّنك من اغترَّ بالله فمدحك بما تعلم خلافَه منك؛ فإنَّه ما من أحدٍ يقول في أحدٍ من الخير إذا رضي إلَّا وهو يقول فيه من الشرِّ مثل ذلك إذا سَخط، فاستأنس بالوحدة من جلساءِ السوء، ولن يسعدَ بالعلماء إلَّا مَن أطاعهم.
قال: فجعلتُ وصيةَ أبي نُصبَ عيني. بين سفيان وأبي حنيفة قال سفيان: دخلت الكوفة ولم يتم لي عشرون سنة، فقال أبو حنيفة لأصحابه ولأهل الكوفة: جاءكم حافظ علم عمرو بن دينار، قال: فجاء الناس يسألونني عن عمر بن دينار، فأول من صيرني محدثاً أبو حنيفة. وبقيت الصلة بين ابن عيينة وبين الإمام أبي حنيفة قائمة متصلة، قال سفيان بن عيينة: كان أبو حنيفة كثير الصلاة والصيام، كثير الصدقة، فكان كل مال يستفيده لا يدع منه شيئا إلا أخرجه، ولقد وجه إلي بهدايا استوحشت من كثرتها، فشكوت ذلك إلى بعض أصحابه، فقال لي: كيف لو رأيت هدايا بعث بها إلى سعيد بن أبي عَروبة! وما كان يدع أحدا من المحدثين إلا برَّه برا واسعا. من شيوخه أخذ سفيان بن عيينة عن كبار الأئمة من المحدثين والعلماء في زمانهم، منهم المحدث الذي عليه مدار إسناد أهل مكة عمرو بن دينار، والإمام المحدث محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري، وإمام القراءات الكوفي عاصم بن أبي النجود؛ بَهْدلة، والإمام المحدث الزاهد محمد بن المنكدر، والإمام الحافظ محدث الكوفة عطاء بن السائب، والإمام المحدث هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، والإمام المحدث الزاهد الأعمش، سليمان بن مهران، والمحدث شعبة بن الحجاج، والإمام المحدث الزاهد سفيان بن سعيد الثوري، ويقال أدرك سفيان بن عيينة أكثر من ثمانين رجلاً من التابعين، من أهمهم همام بن منبه الصنعاني، المتوفى سنة 132، والذي لقي أبا هريرة رضي الله عنه، قال سفيان بن عيينة: كنت أتوقع قدوم همام مع الحُجَّاج عشر سنين. ومما سبق يتضح أن ابن عيينة جمع أحاديث العراقيين والحجازيين، ولذا حدث عنه عدد كبير من أئمة الحديث ممن كانوا مشايخه، وبخاصة أنه كان حافظاً واعياً متقناً كاتباً، قال رحمه الله: ما كتبت شيئا إلا حفظته قبل أن أكتبه.
ولذا قال المحدث يحيى بن آدم: ما رأيت أحدا يُـختَبر الحديثَ إلا ويخطئ، إلا سفيان بن عيينة.
احترام التخصص وخوف الفتيا قال بشر بن الوليد الكندي: كنا نكون عند سفيان بن عيينة، فإذا وردت علينا مسألة مشكلة يقول: ها هنا أحد من أصحاب أبي حنيفة؟ فيقال: بشر.
فيقول: أجب فيها، فأجيب.
فيقول: التسليم للفقهاء سلامة في الدين قال أحمد بن محمد بن بنت الشافعي: سمعت أبي وعمي يقولان: كان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا، التفت إلى الشافعي، فيقول: سلوا هذا.، قال الربيع: سمعت الشافعي قال لبعض أصحاب الحديث: أنتم الصيادلة، ونحن الأطباء. كثرة الآخذين عنه والازدحام عند مجلسه قال الذهبي: طلب الحديث وهو حدث، بل غلام، ولقي الكبار، وحمل عنهم علماً جماً، وأتقن وجود وصنّف، وعمّر دهراً، وازدحم الخلق عليه، وانتهى إليه علو الإسناد -لأنه جاوز التسعين سنة- ورُحل إليه من البلاد، وألحق الأحفاد بالأجداد. طال عمر سفيان وظل إماماً لمكة أربعين سنة، فكان يروي عنه الرجل ثم يروي عنه ابنه، ثم يروي عنه حفيده، وهذا معنى قوله: وألحق الأحفاد بالأجداد وأول ما جلس ابن عيينة للتحديث جلس مكرهاً من المحدث الكبير مسعر بن كدام الكوفي، المتوفى سنة 152، قال سفيان: هو أول من أسندني إلى الاسطوانة، فقلت له: إني حَدَث.
قال: إن عندك الزُهري، وعمرو بن دينار.
ووازدادت شهرته حتى ازدحمت جماهير الطلبة على بابه ازدحاماً شديداً، قيل للإمام أحمد بن حنبل: أكان أغمي عليك، أو غشي عليك عند ابن عيينة؟ قال: نعم، في دهليزه، زحمني الناس فأغمي علي.
وظن ابن عيينة أن الإمام أحمد قد مات يومها فقد روي أنه قال: كيف أحدث وقد مات خير الناس! ومن أبرز من أخذ عن ابن عيينة؛ الإمام الشافعي، وكذلك سمع من سفيان الإمام يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، صاحب الإمام الشافعي وملازمه. ومن أجلِّ أصحابه وألزمهم له الإمام المحدث عبد الله بن الزبير الحميدي الأسدي، صاحب الإمام الشافعي وشيخ الإمام البخاري، فقد جالس الحميديُ سفيانَ بن عيينة 19 سنة، وقال الشافعي: ما رأيت أحفظ من الحميدي، كان يحفظ لسفيان بن عيينة عشرة آلاف حديث. وممن أخذ عنه الإمام الجليل علي بن المديني، وروى عنه سفيان كذلك، وكان يحبه وقال لمن عذله في محبته له: تلومني على حب عليّ، والله لقد كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني! وكان ابن عيينة يستأنس بابن المديني كثيراً، ويقول لمن حوله: إني لأرغب عن مجالستكم، ولولا علي بن المديني، ما خرجت إليكم ولا جلست معكم. وكان سفيان بن عيينة يجل الإمام مالك بن أنس، وممن أخذ عن سفيان بن عيينة الإمام أحمد بن حنبل، وكان يقول: فاتني مالك، فأخلف الله عليَّ سفيان بن عيينة.
وغيرهم الكثير. فاظفر بذات الدين تزوج سفيان بن عيينة امرأة ذات دين لم تكن معروفة بالثراء.
يقول الإمام المحدث أبو زكريا يحيى بن يحيى النيسابوري: كنت عند سفيان بن عيينة إذ جاءه رجل فقال: يا أبا محمد، أشكو إليك من فلانة - يعني امرأته - أنا أذل الأشياء عندها وأحقرها.
فأطرق سفيان مليا، ثم رفع رأسه فقال: لعلك رغبت إليها لتزداد بذلك عزا؟ فقال: نعم يا أبا محمد.
فقال: من ذهب إلى العز ابتلي بالذل، ومن ذهب إلى المال ابتلي بالفقر، ومن ذهب إلى الدين يجمع الله له العز والمال مع الدين.
ثم قال سفيان: كنا إخوة أربعة: محمد، وعمران، وإبراهيم، وأنا، فمحمد أكبرنا وعمران أصغرنا، وكنت أوسطهم، فَلَمَّا أَرَادَ مُحَمَّدٌ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَغِبَ فِي الْحَسَبِ ، فَتَزَوَّجَ مَنْ هِيَ أَكْبَرُ مِنْهُ حَسَبًا ، فَابْتَلَاهُ اللهُ بِالذُّلِّ ، وَعِمْرَانُ رَغِبَ فِي الْمَالِ فَتَزَوَّجَ مَنْ هِيَ أَكْثَرُ مِنْهُ مَالًا فَابْتَلَاهُ اللهُ بِالْفَقْرِ: أَخَذُوا مَا فِي يَدَيْهِ وَلَمْ يُعْطُوهُ شَيْئًا، فبقيت في أمرهما، فقدم علينا معمر بن راشد فشاورته، وقصصت عليه قصة أخويّ، فذكرني حديث يحيى بن جعدة وحديث عائشة، فأما حديث يحيى بن جعدة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: تنكح المرأة على أربع: دينها، وحسبها، ومالها، وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك.
وحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة.
فاخترت لنفسي الدِين وتخفيف الظهر اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الله لي العز والمال مع الدين. من جميل كلامه كان سفيان ابن عيينة صاحب حكمة وتأمل، وله كلمات تناقلتها الألسن واستحسنها الصالحون، منها: - ما أنعم الله - عزَّ وجلَّ - على العباد نعمة أفضل من أن عرفهم لا إله إلا الله، وإن لا إله إلا الله لهم في الآخرة كالماء في الدنيا. - غضبُ الله الداءُ الذي لا دواء له، ومن استغنى بالله، أحوج الله إليه الناس. - الورع طلب العلم الذي يعرف به الورع، وهو عند قوم طول الصمت، وقلة الكلام، وما هو كذلك، إن المتكلم العالم أفضل عندنا وأورع من الجاهل الصامت. - لم يجتهد أحد قط اجتهاداً ولم يتعبد أحد قط عبادة أفضل من ترك ما نهى الله عنه. - إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد ألا تخرج منها حتى تعرف ما فيها. - إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور. - لا تكن مثل العبد السوء، لا يأتي حتى يُدعى؛ ائت الصلاة قبل النداء، إن من توقير الصلاة أن تأتي قبل الإقامة. - سُئل الإمام سفيان بن عيينة -رحمه الله- عن غمِّ لا يُعرف سببه؟ فقال: (هو ذنبٌ هممتَ به في سرّك ولم تفعله؛ فجزيتَ همًا به) علّق ابن تيمية -رحمه الله- على جواب سفيان فقال: «فالذنوب لها عقوبات، السرُّ بالسرِّ، والعلانيةُ بالعلانية. - من كانت معصيته في الشهوة؛ فارجُ له التوبة؛ فإنَّ آدم – عليه السلام – عصى مشتهياً فغُفر له، وإذا كانت معصيته في كبر؛ فاخش على صاحبه اللَّعنة؛ فإنَّ إبليس عصى مستكبراً فلُعن" - سئل ابن عيينة عن الزهد قال الزهد فيما حرم الله فأما ما أحل الله فقد أباحه الله فإن النبيين قد نكحوا وركبوا ولبسوا وأكلوا لكن الله نهاهم عن شيء فانتهوا عنه وكانوا به زهادا - وعن ابن عيينة قال إنما كان عيسى ابن مريم لا يريد النساء لأنه لم يخلق من نطقة. - العلم إذا لم ينفعك ضرك - من رأى أنه خير من غيره فقد استكبر؛ وذاك أن إبليس إنما منعه من السجود لآدم عليه السلام استكباره.
- إن العالم لا يماري ولا يداري، ينشر حكمة الله، فإن قبلت حمد الله، وإن ردّت حمد الله. - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر، فعليه تُعرض الأشياء، على خُلُقه وسيرته وهديه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل. - قال تعالى (أنِ أشكر لي ولوالديك إِليَّ المصير) قال سفيان بن عيينة في هذه الآية :( من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر الوالدين). - قال تعالى (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ) قال سفيان بن عيينة رحمه الله: لم يأمر بالسؤال إلا لِيعطي. - من أُعطي القرآن فمدَّ عينيه إلى شيء مما صغَّر القرآن فقد خالف القرآن. ألم تسمع قوله سبحانه وتعالى:(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) الآية وفاته أمد الله في عمر ابن عيينة، ورحل أقرانه عنه ولِداته، فاستوحش وشعر بالوحدة، قال سفيان رحمه الله: كنت أخرج إلى المسجد فأتصفح الناس فيه، فإذا رأيت مشيخة وكهولة جلست إليهم، وأنا اليوم قد اكتنفني هؤلاء الصبيان، ثم أنشد: خلت الديار فسُدتُ غير مُسوَّد ...
ومن الشقاء تفردي بالسؤود وفي آخر سنة من عمره حجَّ سفيان بن عيينة فقال: قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة وأقول كل مرة: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع وتوفي رحمه الله تعالى غرة رجب سنة ثمان وتسعين ومائة للهجرة، ودفن رحمه الله بالحجون، رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.