معالجات في ضبط الغيرة على الدين
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
رصدت لنا الروايات مجموعة من المواقف النبوية التي ضبط فيها النبي صلى الله عليه وسلم نزعات تعتري المسلم في سبيل الغيرة على الدين، ويظهر ذلك من خلال ما كان يقترحه بعض الصحابة وعلى رأسهم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه من الأحكام بدافع الحرص على الإسلام، أو بدافع الغيرة على الحرمات، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم بما علمه الله أن تلك الأحكام والمقترحات لا تتفق مع طبيعة هذا الدين ومقاصده العليا، بل كان ينبههم إلى مدارك أخرى هم لم يعتبروها، ومن تلك المواقف على سبيل المثال:
الموقف الأول: في صحيح البخاري في قصة حاطب ابن أبي بلتعة لما أرسل إلى قريش يخبرهم بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزوهم، وفيه: "قال عمر: دعني أضرب عنقه فإنه قد نافق، فقال: « ما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم ».
فلم يستجيب النبي صلى الله عليه وسلم لعمر، بل نبهه إلى أمر غيبي متعلق بفضيلة لأهل بدر، وأن الله قد علم ما في قلوبهم من الإيمان واليقين، فلم يعدو أن يكون فعله هذا خطأ مجردا، وليس نفاقا ولا ردة مثلما اعتذر هو أيضا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال له: « ما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم ».
الموقف الثاني: ما في الصحيح حين قال عبد الله ابن أبي: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فبلغ النبى - صلى الله عليه وسلم - فقام عمر فقال يا رسول الله دعنى أضرب عنق هذا المنافق.
فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد. وهذا الموقف لعمر أيضا، ويظهر فيه اشتداده على زعيم المنافقين، وقد كان ذلك منه حبا لله ورسوله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي أمورا أخرى أهمها اعتبار المآل، وذلك فيما لو قتله النبي صلى الله عليه وسلم فسيترتب على ذلك تشويه صورة الإسلام في نفوس من يرغب في الدخول فيه، فليس الشأن في قتله، فقد كان مستحقا لذلك، وإنما هناك ما هو أعمق من ذلك، وهو المفسدة المترتبة على قتله، لأن من لم يعرفهم من اليهود والنصارى وغيرهم يرى أن عبد الله بن أبي من الصحابة، فإذا قتله النبي ﷺ قالوا: محمد يقتل أصحابه، وهذا تنفير عن الدين، ولا يعلمون أن هناك منافقين؛ لأن عبد الله بن أبي وغيره يظهرون أنفسهم أنهم من المسلمين ويعتبرون أنفسهم من الصحابة فإذا قتلوا تحدث الناس بأن محمدًا يقتل أصحابه، فكان في هذا تنفير عن الإسلام. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: "قوله ﷺ: « دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه »، فيه ما كان عليه ﷺ من الحلم، وفيه ترك بعض الأمور المختارة والصبر على بعض المفاسد، خوفا من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم منه" انتهى. الموقف الثالث: في مسند الإمام أحمد، وأصله في البخاري ومسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، مشمر الإزار، محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا رسول الله، قال: فرفع رأسه إليه، فقال: «ويحك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله أنا؟» ثم أدبر، فقال خالد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلعله يكون يصلي» فقال: إنه رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم»، ثم نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُقَفٍّ، فقال: «ها إنه سيخرج من ضِئْضِئِ هذا قوم يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية». وللعلماء كلام في تلمس الحكمة من عدم قتل ذي الخويصرة، فمنهم من قال: إن له الحق في العفو عن حقه، وعزى بعضهم ذلك إلى نفس الحكمة السابقة من خوف التنفير عن الدين، وجعل بعضهم ذلك من العلم الذي أعلمه الله بأن هذا سيبقى ويكون له أتباع، وبالتالي لا سبيل إليه، والذي يهمنا من هذا هو امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، ومعالجة الرغبة بقتله لدى عمر، مع كونه في الظاهر مستحقا للقتل، للتنبيه على أن الغيرة لوحدها لا تكفي لاتخاذ قرار القتل. قال ابن حجر في فتح الباري: "قال القرطبي: إنما منع قتله وإن كان قد استوجب القتل؛ لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه، ولا سيما من صلى، كما تقدم نظيره في قصة عبد الله بن أبي, وقال المازري: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم من الرجل الطعن في النبوة, وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة، وليس ذلك كبيرة، والأنبياء معصومون من الكبائر بالإجماع، واختلف في جواز وقوع الصغائر.
اهـ. مع أن ابن تيمية وغيره يقرر: "أن كل من لمز النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه أو قسمه فإنه يجب قتله كما أمر به في حياته وبعد موته، وإنما عفا عن ذلك اللامز في حياته كما قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين لما علم أنهم خارجون في الأمة لا محالة وأن ليس في قتل ذلك الرجل كثير فائدة بل فيه من المفسدة ما في قتل سائر المنافقين وأشد..
فكأنه علم أنه لا بد من خروجهم أنه لا مطمع في استئصالهم كما أنه لما علم أن الدجال خارج لا محالة نهى عمر عن قتل ابن صياد وقال: "إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله" اهـ من الصارم المسلول. وبالتالي فقد عالج النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر من خلال هذه المواقف بلفت انتباه عمر وخالد رضي الله عنهما إلى أن قرار القتل حينها لا يتخذ بالاستناد إلى الأسباب الظاهرة، ومجرد الغيرة على الإسلام، بل لا بد من اعتبار مآلات الأفعال، وتحقيق مناطات الأحكام، والموازنات الدقيقة بين المصالح والمفاسد، ولذلك رجع عمر، وكان يقول كما ذكر ابن إسحاق: " قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري". الموقف الرابع: في صحيح البخاري في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده، فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله - ﷺ -: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله». الموقف الخامس: في صحيح البخاري أيضا عن عائشة، قالت: دخل رجل من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السام عليكم، فقال: «وعليكم»، قالت: ففهمتها، فقلت: وعليكم السام واللعنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، عليك بالرفق، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله» فقلت: يا رسول الله، ألم تر إلى ما قال: السام عليكم، قال: «فقد قلت وعليكم». ومواقف كثيرة في هذا المعنى، تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ماكان يقبل تجاوز العدل، ولو كان الحامل على هذا التجاوز هي محبة الدين أو الغيرة على الحرمات والمقدسات، فالعدل قيمة مصاحبة للمسلم في كل أحواله وتعامله مع الآخرين، ولا يعذر بالجور أحد مهما كان قصده.