وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة 3
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
تحدثنا في المقالين السابقين عن بِنية العين وتركيبها، ونتابع في هذا المقال بيان مهمة عدسات العين وما زودها الله به من خصائص؛ ليتضح لنا مدى الإعجاز الإلهي في خلقه سبحانه، فنقول:
يتكون العصب البصري من مليون ومائتي ألف ليف بصري، بقطر لا يتجاوز الميكرومترين لكل منها، وقد تم لفها بإحكام داخل (كيبل) لا يتجاوز قطره المليمتر والنصف عند خروجه من الشبكية، ولكنه يزداد ليصل إلى عدة مليمترات بعد خروجه من محجر العين. ويسير العصب البصري لكل عين باتجاه قاعدة المخ، ليتلقيا في مكان محدد، وعنده يتم تقسيم الألياف البصرية في كل عصب إلى نصفين؛ نصف يذهب إلى مركز الإبصار المخصص لتلك العين، أما النصف الثاني فيذهب إلى مركز الإبصار المخصص للعين الأخرى.
وهذا يعني أن نصف الصورة المرسومة على الشبكية لكل عين يتم إظهاره في مركز إبصار العين الأخرى، والنصفان اللذان يتم تبادلهما هما الصورتان المرسومتان على نصفي الشبكية المجاورتين للأنف.
إن مثل هذا التبادل ضروري لإظهار صورة واحدة فقط من خلال دمج الصورتين اللتين التقطتهما العينين، مع التأكيد على أن المنطقة الوسطى من الصورة التي تقع أمام الأنف يتم التقاطها من كلا العينين. إن عملية إظهار صورة واحدة من خلال دمج صورتين مأخوذتين من عينين، أو آلتي تصوير عملية بالغة التعقيد؛ فإزاحة مهما صغرت بين الصورتين المتراكبتين، سينتج عنها صورة مشوشة، ولكن مركز الإبصار في الدماغ يقوم بمعالجة بالغة التعقيد للصورتين، ليُظْهِر صورة أكثر وضوحاً من الصورتين كل على انفراد.
لا يذهب العصب البصري مباشرة إلى مركز الإبصار الذي يقع في مؤخرة الدماغ، بل يمر على منطقة في قاع الدماغ، يسمى (الثالموس) والذي يتكون من ست طبقات، ترتبط الألياف البصرية بالخلايا العصبية الموجودة في الطبقة الأولى، بينما تخرج من خلايا الطبقة الأخيرة ألياف بصرية، تنقل الإشارات المعالجة مبدئيًّا إلى مركز الإبصار.
يتكون مركز الإبصار بدوره من خمس طبقات، تحتوي على ما يزيد عن ثلاثمائة مليون خلية عصبية، ترتبط ببعضها البعض بطريقة محددة ومعقدة.
وقد وجد العلماء أن كل طبقة تقوم بمعالجة محددة لإشارات الصور القادمة إليها، فبعضها للتعرف على الأشياء، وبعضها للتعرف على الحركة، وبعضها لرسم صورة ثلاثية الأبعاد، وبعضها للتحكم بحركة العين والعدسة والحدقة والجفون.
إن ربط مليون ومائتي ألف ليف بصري بخلايا المركز البصري، بحيث تكون هذه الخلايا مرتبة مكانيًّا بحسب ترتيب الخلايا الحساسة للضوء الموجودة في الشبكية معجزة من معجزات النظام البصري. وللتدليل على مدى تعقيد هذه العملية، نُذَكِّر أن مهندسي الاتصالات يواجهون صعوبة بالغة عند ربط المقاسم الهاتفية بـ (كبلات) تحتوي على عدة مئات من الأسلاك، فيقومون بتلوين وترقيم هذه الأسلاك؛ لكي لا تختلط الإشارات المنقولة عليها، وتذهب في غير اتجاهاتها.
إن التعقيد الموجود في تركيب العين البشرية، لا يكاد يذكر مع تركيب مركز الإبصار والبرمجيات الموجودة فيه، بحيث يمكن للبشر وغيرهم من الكائنات من رؤية الأشياء.
إن الصور ترتسم في مركز الإبصار على شكل إشارات عصبية، تتحرك بشكل متواصل بين ملايين الخلايا العصبية، بيد أن العلماء لا يزالون عاجزين تماماً عن إيجاد تفسير مقنع للطريقة التي يدرك بها الإنسان الصور.
لقد بدأ العلماء حديثاً بكشف بعض طرق معالجة الإشارات الكهربائية القادمة من الشبكية عبر العصب البصري، والتي يُقدِّر العلماء معدل نقلها بعشرة ملايين نبضة في الثانية، وتبين لهم مدى ضخامة المعالجة التي يقوم بها الدماغ للصور، والتي لا يمكن أن تقوم بها آلاف الحواسيب الجبارة. إن الصور التي ترتسم على الشبكية في كلا العينين هي صور ثنائية الأبعاد، وعلى مركز الإبصار أن يعالج الصورتين، لينتج منهما صورة ثلاثية الأبعاد ومتحركة.
ومن معجزات نظام الإبصار هو قدرته على التعرف على الأشياء الموجودة في الصور الملتقطة، وقد يظن غير العارف أن هذه عملية سهلة، ولكنه سيغير رأيه إذا ما علم أن العلماء قد كتبوا برامج بالغة التعقيد في حواسيب جبارة لكي تتعرف هذه الحواسيب على أشكال بسيطة موجودة في صور التقطتها آلات التصوير.
أما العملية الأعقد من عملية التعرف على الشكل الثابت، هي عملية اكتشاف الأشياء المتحركة في الصور المتتابعة، ولقد أجرى العلماء عدداً لا يحصى من الأبحاث لكشف سر الطريقة التي يعمل به الدماغ لإجراء مثل هذه العملية.
أما عملية تخزين ملايين البلايين من المشاهد التي تلتقطها عيني الإنسان على مدى عمره في هذه الذاكرة المحدودة، فلا يزال العلماء يخمِّنون تخميناً كيف تنجز وفي أي مكان تتم. إن كل ما تقدم من تعقيد في تركيب مكونات العين ومركز الإبصار، يتضاءل تماماً عندما نعلم كيف أن هذه العين بكامل مكوناتها، يبدأ تصنيعها من خلية واحدة فقط، فبعد أن تنقسم هذه الخلية إلى عدد كاف من الخلايا، تتولى واحدة منها فقط تصنيع الصلبة (بياض العين) وعندما تصل إلى امتدادها، وهي منطقة القرنية، تبدأ بإنتاج خلايا شفافة للضوء، وبتحدب يختلف عن ذلك الذي للصلبة.
وتتولى خلية أخرى تصنيع المشيمة وما فيها من ملايين الشعيرات الدموية، وعندما تصل إلى المقدمة، تبدأ بتصنيع القزحية وما فيها من عضلات ترتبط بأعصاب تصل إلى الدماغ.
وتتولى خلية أخرى تصنيع الشبكية وما تحويه من مئات الملايين من العصي والمخاريط ومئات الملايين من الخلايا العصبية، كل في مكانها الصحيح، ثم تقوم بربط هذه الخلايا بطريقة لا مجال للخطأ فيها، وإلا فشلت العين بالقيام بوظيفتها.
وتتولى خلية تصنيع العدسة البلورية بأبعاد محددة، بحيث لا تجد أي فرق يذكر في أبعاد عدسات جميع أفراد البشر، وتقوم كذلك بتحديد مُعامل الانكسار في كل جزء من أجزائها طبقاً لحسابات بالغة الدقة.
وهكذا الحال لبقية مكونات العين من جفون ورموش وألياف بصرية وغدد دمعية. والأعجب من كل هذا، أن تقوم خلية واحدة بتصنيع مركز الإبصار في مؤخرة الدماغ، ومن ثم يتم ربطه بمليون ومائتي ألف ليف بصري، مرتبطة بالخلايا العصبية الموجودة في الشبكية على مسافة ليست بالقليلة.
إن العقل يكاد أن يتصدع عندما يفكر كيف أن خلية لا ترى، ولا تسمع تقوم من تلقاء نفسها بتصنيع عدسة بمقاسات بالغة الدقة، وعندما تنتهي من تصنيعها بالأبعاد المطلوبة، تتوقف عن الانقسام، وهكذا الحال مع باقي المكونات.
بل إن العقل ليجفل والجلد ليقشعر عندما يفكر المرء كيف أن هذه الخلايا تنقسم في أماكن متباعدة من العين، ثم يكون الناتج أن المسافة بين مركز الشبكية ومنتصف القرنية أربعة وعشرون ملليمتر بنسبة خطأ لا تكاد تذكر عند بلايين البلايين من البشر، وكذلك الحال مع أعين بقية الكائنات الحية، والتي لا يعلم عدد أنواعها وأعداد كل نوع منها إلا الله سبحانه! إن في تصميم النظام البصري من التعقيد ما يحتاج شرحه من قبل مختصين مئات، بل آلاف الكتب، ولكن ما تقدم من بيان، فيه ما يكفي لإقناع القارئ بأن منتهى الجهل أن يصدق إنسان عاقل أن الصدفة بإمكانها أن تهتدي لطريقة تصنيع هذه الأجهزة المعقدة.
فلكي تتمكن الصدفة من اختراع نظام البصر للكائنات عليها أن تعرف أولاً أن هنالك مصدراً للضوء، وهو الشمس، يصل ضوؤها إلى الأرض التي تعيش عليها هذه الكائنات.
وعليها أن تعرف ثانياً أن هذا الضوء عندما يسقط على الأشياء ينعكس عنها بدرجات متفاوتة.
وعليها أن تستفيد من هذا الضوء المنعكس لترسم صورة عن الأشياء في دماغ هذه الكائنات.
ولكي تتمكن الصدفة من رسم صورة للأشياء، عليها أن تعرف أن هذا لا يمكن أن يتم إلا بوجود جهاز عجيب، وهو العدسة التي يسقط الضوء المنعكس عليها من جهة، فتبني صورة للشيء على الجهة الأخرى.
إن من عنده أدنى علم بنظام العدسات، لا بد أن يتساءل عن الطريقة التي تمكنت بها الصدفة من كتابة برامج لتصنيع عدسات الأعين بالمقاسات الصحيحة لملايين الكائنات الحية، والطريقة التي تمكنت بها من تحديد البعد بين العدسة والشبكية لتكون الصورة المتكونة عليها أوضح ما يمكن.
وكذلك الطريقة التي تمكنت بها من تصنيع الخلايا الحساسة للطيف المرئي من ضوء الشمس، والطريقة التي حددت بها أعداد هذه الخلايا على شبكيات هذه الكائنات. وما يثير العجب أن الصدفة قد أدركت أن العدسة الثابتة الأبعاد لا تساعد الكائن على رؤية الأشياء القريبة والبعيدة بالوضوح نفسه، فاخترعت لذلك نظام تحكم بالغ الإتقان، يستطيع أن يغير أبعاد العدسة بطريقة تلقائية، بحسب بعد المنظر عن العين.
ولكي يدرك القارئ مدى صعوبة تغيير أبعاد العدسة في الأعين، نذكره بأنه على الرغم من التفوق التقني الذي أحرزه البشر في هذا العصر، إلا أنهم لا يزالون يستخدمون العدسات الثابتة في آلات تصويرهم، ويضطرون لتحريك العدسة لتوضيح الصور المُلْتَقَطَة.
إن تكوَّن صورة للشيء على سطح ما، لا يعني أي شيء للكائن، إذا لم يتم نقل هذه الصورة إلى دماغه؛ ولذلك فعلى الصدفة أن تخترع خلايا حساسة لشدة الضوء، يتم ترصيع السطح الذي تكونت عليه الصورة بعدد كاف منها، ومن ثَمَّ تقوم بربط كل خلية من هذه الخلايا الحساسة بخلايا عصبية في الدماغ باستخدام عدد مماثل من الخيوط العصبية.
إن جميع هذه الاختراعات العجيبة والمعقدة، لا تكاد تذكر في تعقيدها مع الطريقة التي سيبني بها الدماغ صورة للأشياء، التي يمكن للكائن الحي أن يحس بها، ولا يزال العلماء يضربون أخماساً بأسداس، وهم يحاولون فهم الآلية التي يستخدمها الدماغ للإحساس بصور الأشياء.
إن الحواسيب التي تقوم بتخزين الصور الثابتة والمتحركة التي تلتقطها آلات التصوير الموصولة بها، لا يمكنها أن تدرك هذه الصور كما تدركها أدمغة الحيوانات بما فيها الإنسان. أما أعجب ما عملته الصدفة -كما يدعي القائلون بالصدفة في نظام الإبصار- فهو رؤية الأشياء بألوانها الطبيعية، وكان على (الصدفة) لتحقيق هذا الهدف أن تكتشف حقيقة فيزيائية بالغة الأهمية في مجال الضوء، وهي أنه بالإمكان الحصول على أيّ لون من خلال دمج ثلاثة ألوان أساسية بنسب متفاوتة.
وبناء على ذلك، فقد تم تصنيع شبكية العين، بحيث تتكون من أربعة أنواع من الخلايا الحساسة للضوء، واحدة منها تستجيب لشدة الضوء، بينما تستجيب الثلاثة المتبقية للألوان الأساسية الثلاثة، وهي: الأحمر، والأخضر، والأزرق.
وعلى الرغم من كل هذه المعجزات في تركيب العين، إلا أن بعض علماء البشر ممن يعرفون هذا الحقائق، لا زالوا يصرون على أن الصدفة هي التي قامت بتصميم هذه العين العجيبة، وصدق الله العظيم القائل فيهم: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج:46). وأخيراً، فإن نظام الإبصار يتكون من عدد كبير من المكونات، وفي كل مكون منها من تعقيد التركيب ما عجز العلماء من كشف كثير من أسراره حتى الآن؛ ولهذا فإن خللاً في أحد هذه المكونات كفيل بتعطيل كامل هذا النظام.
إن احتمالية حدوث عطل في أحد مكونات هذا النظام المعقد كبيرة جدًّا، وتزداد هذه الاحتمالية مع زيادة عدد مكوناته، وزيادة عمره التشغيلي.
فمن السهل جدًّا -لولا تقدير الله وحفظه- أن تفقد القرنية، أو العدسة، أو ماء العين شفافيتها، أو تتعطل عضلات العين، أو القزحية، أو عضلات العدسة، أو أن تدمَّر الشبكية من الضوء الزائد، أو تتلف الألياف العصبية، أو أن ينقص إمداد الخلايا الحساسة للضوء من البروتينات اللازمة لعملها، أو إلى آلاف الأعطال الممكنة...وصدق الله العظيم القائل: {قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} (الملك:23) والقائل سبحانه: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون} (الأنعام:46). * مادة المقال مستفادة من موقع (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة).